شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ حديث 118
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وَلِلْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
{ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ, مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً }
وَهُوَ مَعْلُول .
( من الفوائد )
ذكر ابن حجر رحمه الله حديث عائشة وعزاه إلى ” الأربعة ” ومر معنا معنى ” الثلاثة والأربعة والخمسة والستة والسبعة والتسعة “
فمقصوده رحمه الله هنا بالأربعة ” هم أهل السنن “
[ الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه ]
( ومن الفوائد )
أن الحافظ رحمه الله قال ( وهو معلول )
وعلته ليست في الحديث كله ، لأن صدر الحديث عند مسلم ، وإنما الجملة التي حكم عليها ابن حجر رحمه الله بأنها معلولة ( ولم يمس ماء )
وهذه الجملة علتها أن بها ” أبا إسحاق ” هو ثقة لكنه مدلس ، والحكم المقبول في التدليس عند المحدثين ” أن يصرِّح المدلس الثقة بالتحديث ممن سمع منه “
فهل أبو إسحاق صرَّح بالتحديث أم لا ؟
قال بعض العلماء : إنه لم يصرِّح بالتحديث ، وبالتالي فإن الحديث معلول لا يحتج به .
وقال بعض العلماء : إنه صرَّح بالتحديث فزالت عنه هذه العلة فيصبح هذا الحديث صحيحاً .
وممن يرى صحته ” النووي وكذلك الألباني رحمهما الله .
( ومن الفوائد )
ما حكم الوضوء لمن أراد النوم وهو جنب ؟
اختلف العلماء في هذا :
فقال بعض العلماء – وهم الظاهرية – يقولون بوجوب الوضوء
أولا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل كما في الصحيحين من حديث ابن عمر :
( أينام الرجل وهو جنب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم إذا توضأ )
فهذا دليل على أنه يجب عليه أن يتوضأ
ثانيا : جاء في السنن :
( رخص النبي صلى الله عليه وسلم للجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام أن يتوضأ )
والرخصة تدل على أن هناك أمرا واجبا .
القول الثاني :
” أنه لا يستحب الوضوء ” لم ؟
قالوا : لهذا الحديث ( ولم يمس ماء )
القول الثالث – وهو قول الجمهور – أن الوضوء في حق الجنب إذا أراد أن ينام سنة وليس بواجب – وهو الصحيح .
والدليل / حديث ابن عمر في الصحيحين :
( أينام الرجل وهو جنب ؟ قال نعم إذا توضأ )
جاء عند ابن خزيمة الاستثناء ( إذا شاء ) فجعل الأمر موكولا إلى مشيئة الإنسان ، وهذه الزيادة زيادة عزيزة ، لا نحتاج معها إلى الاستدلال بهذا الحديث ( ولم يمس ماء )
فإن أثبتنا ( ولم يمس ماء ) فإن في هذا دليلا آخر ، يعني لم يمس ماء لا للوضوء ولا للغسل ، ويدل على ذلك تلك القاعدة الأصولية التي نذكرها مرارا
[ أن الفعل المنفي يدل على العموم ]
بينما من لم يقف على تلك الزيادة ( إن شاء ) ويرى الاستحباب ، يقول ( ولم يمس ماء ) يعني لم يمس ماء للغسل ، ولا ينفي أنه لم يتوضأ .
ولكن نقول : القاعدة الأصولية تدل على أنه لم يمس ماء للغسل ولا ماء للوضوء.
فخلاصة القول في هذه المسألة :
أن الوضوء في حق الجنب إذا أراد أن ينام سنة وليس بواجب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عزى الأمر إلى المشيئة .
أما من يقول بعدم الاستحباب فإنه يخالف تلك النصوص التي أتت بالأمر كما في حديث ابن عمر في الصحيحين .
ولو قلنا إنه لم يمس ماء لا للوضوء ولا للغسل فمن باب أن يبين صلى الله عليه وسلم أنه غير واجب .
ويؤكد السنة / أن الوضوء سنة في حق من أراد أن ينام ولو لم يكن جنبا ، حديث البراء في الصحيحين :
( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة )
فإذا كان الوضوء متأكدا في حق من أراد النوم ولم تتعلق به جنابة ، فمن به جنابة من باب أولى .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : ما العلة في استحباب الوضوء لمن كان جنبا وأراد النوم ؟
العلة في ذلك : أن الوضوء يخفف من الجنابة ، ولا يزيلها ، ما نوع هذا التخفيف وما قدره ؟
جاء عن شداد بن أوس رضي الله عنه من قوله :
( إن الوضوء للجنب هو نصف غسل الجنابة )
فكأن الوضوء يخفف من الجنابة نصفها .
ثم إن الجنب ربما تقبض روحه في تلك النومة ، فليكن على طهارة ولو كانت صغرى عند ملاقاة ربه عز وجل .
ولذا جاء حديث السنن :
( لا تقرب الملائكة جنازة هؤلاء بخير ) وذكر منهم ( الجنب ) فهذا الحديث اختلف في صحته ، بعض العلماء يقول إنه ليس بثابت ، لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب ، وكذلك أذن للصحابة رضي الله عنهم .
وقال بعض العلماء : إنه ثابت ، والمقصود هو الجنب الذي لا يتوضأ – ولو قيل بهذا فيكون الوضوء واجبا عند النوم .
فيكون معنى ( لا تقرب الملائكة جنازة الجنب بخير )
والمقصود من ذلك إن صح الحديث المقصود الجنب الذي يؤخر الاغتسال حتى يدخل عليه الفرض الآخر ، فيكون مفرطا في أداء الواجبات التي عليه والتي لا يصح فعلها حال الجنابة .
مثال / إنسان أجنب الظهر يجب عليه أن يغتسل من أجل أن يصلي الظهر ، لكن لم يغتسل حتى دخل عليه وقت العصر ، وربما استمر به الحال إلى أن يدخل عليه وقت المغرب ، فمثل هذا لا تحضر الملائكة جنازته بخير باعتبار أنه فرَّط في الواجب لا أنه فرَّط في تأخير الغسل .
لو قال قائل :
ما فائدة الوضوء لمن أراد النوم وليست به جنابة ؟
الجواب / أنه إذا قبضت روحه يكون قد تطهر بهذا الوضوء الطهارة الحسية الظاهرة ، والحديث لم يقتصر على الوضوء فإنه قال في آخره ( إن مت مت على الفطر ) بمعنى أن هذا الدعاء ينظف الباطن والوضوء ينظف الظاهر .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل :
لو أن الجنب أراد أن ينام وتيمم بدل الوضوء ؟
الجواب : ظاهر الأحاديث أن التيمم لا يفيده ، لكن جاء عند البيهقي بسند حسن كما قال ابن حجر رحمه الله في الفتح :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن ينام توضأ أو تيمم )
وهذا فيه تسهيل ، لكن بعض العلماء يقول : إن هذا الحديث محمول على تعذر الماء .
وفيما يبدو أن الحديث عام ، لم ؟
لأنه جعل الأمر مخيرا ( توضأ أو تيمم ) ولو كان الماء مفقودا لبين في الحديث ، والأفضل للإنسان أن يتوضأ من حيث النشاط ، فإنه إذا توضأ تنشَّط وربما يدعوه هذا الوضوء إلى أن يغتسل .
ومر معنا حديث ( الرجل الذي مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلَّم فلم يرد عليه السلام ) في إحدى الروايات :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى الجدار فتيمم )
فدل هذا على أن التيمم قد يقع مع وجود الماء ولو لم يكن هناك عذر فيما يمكن أن يفوت – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله .
( ومن الفوائد )
هل الوضوء يخفف حدث الحائض ؟
امرأة حائض فقالت أريد أن أنام أيخفف الوضوء هذا الحدث ؟
الجواب / لا ، لم ؟
أولا : عدم ورود الدليل ، لأن الأصل أن الوضوء ما ورد إلا في تخفيف الجنابة ، ولو لم يرد دليل لهذا الأمر لقلنا إن الوضوء لا يخفف الجنابة .
ثانيا : أن الجنب أمره بيده لو شاء أن يقوم فيزيل هذا الحدث الأكبر قام واغتسل ، لكن الحائض لو اغتسلت ما ارتفع عنها حدثها ، إذا الغسل الأكبر لا يؤثر على الحيض ، إذا الوضوء الذي هو أقل منه من باب أولى .
ومما يدل على أن الوضوء يخفف الجنابة ، ما جاء عند ابن أبي شيبة :
( أن الصحابة رضي الله عنهم إذا كانوا جنبا وأراد أحدهم أن يمكث في المسجد توضأ وجلس)
لو قالت المرأة الحائض : عندي حلقة تحفيظ في المسجد أو محاضرة وأريد أن أتوضأ لأمكث في المسجد ؟
نقول : لا .
لو قالت المرأة الحائض : أريد أن أقرأ القرآن عن ظهر قلب أو من المصحف بحائل ؟
نقول : المسألة فيها خلاف ، والصحيح أنه يجوز لها ، لأن الجنب أمره بيده ، بينما الحائض أمرها ليس بيدها .
( ومن الفوائد )
أن الدلالة في الشرع ثلاث دلالات :
[ مطابقة – تضمن – لزوم ]
وهي مهمة لطالب العلم .
كونه صلى الله عليه وسلم يؤخر الغسل إلى ما بعد أن يستيقظ من النوم يدل على أنه يجوز للجنب أن يمكث في بيته يقظان وهو على جنابة من غير وضوء – هذه دلالة اللزوم – لأنه لما ذكر الوضوء للجنب عند النوم ، دل على أنه في حال اليقظة ليس على وضوء وليس على غسل .
( ومن الفوائد )
صدر الحديث ( وهو جنب ) جملة حالية قيدت الحكم ، ولو قالت ( كان ينام ) هذا مطلق ، لكن لما قالت ( كان ينام وهو جنب ) دلَّ على أن الجملة الحالية تقيد ، وهذه فائدة ” الحال ” أنه يقيد ويخصص .
( ومن الفوائد )
بيان إحدى الحكم الكثيرة التي من أجلها عدَّد النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج ، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا بات عند عائشة رأت منه ما لم تر الأخرى ، ورأت الأخرى ما لم تره عائشة ، وهذه فائدة ومصلحة للأمة من أن كل واحد تنقل ما رأته في بيتها عنه صلى الله عليه وسلم ، ويتضح هذا أكثر في الحديث الآتي في غسله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة ذكرت وصفا لغسله ، وميمونة ذكرت وصفا لغسله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك الحديث ما ليس في الحديث الآخر .
( ومن الفوائد )
قولها ( كان ينام )
” كان ” اختلف العلماء فيها ، هل تفيد الزمن الماضي أم أنها تفيد الاستمرار والدوام ؟
مختلف في ذلك ، فبعض العلماء يرى أنها ليست للاستمرار بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة في الصحيحين قالت :
( كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )
والطواف بعد الحل لا يكون إلا في الحج ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة .
وبعض العلماء قال : تفيد الاستمرار ، والنصوص واردة وكثيرة في ذلك.
وبعضهم قال : هي للاستمرار إلا إذا وجد دليل يقيد الاستمرار ، قال تعالى :
{ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء 96
فلم يزل ولا يزال جل وعلا يغفر ويرحم .