شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ حديث 119 وحديث 120 جزء 2
( باب الغسل وحكم الجنب )
صفة الغسل 2
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَت
{ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اِغْتَسَلَ مِنْ اَلْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ, ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ, فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ, ثُمَّ يَتَوَضَّأُ, ثُمَّ يَأْخُذُ اَلْمَاءَ, فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ اَلشَّعْرِ, ثُمَّ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ, ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ, ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ }
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم ٍ،
وَلَهُمَا فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ:
{ ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى فَرْجِهِ, فَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ, ثُمَّ ضَرَبَ بِهَا اَلْأَرْضَ }
وَفِي رِوَايَةٍ:
{ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ }
وَفِي آخِرِهِ:
{ ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ } فَرَدَّهُ, وَفِيهِ: { وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ }
( من الفوائد )
أنه نصَّ هنا على كلمة ( من الجنابة )
( من ) هنا سببية ، يعني أن اغتساله كان بسبب الجنابة ، لأن ( من ) في اللغة العربية حرف عند النحاة ، وأهل اللغة نحاة وبلاغيون فأهل النحو يعنون بالحركات الذي هو ” الإعراب ” بينما يعنى أهل البلاغة بمعاني الحروف .
وقد تكون ( من ) تبعيضية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم }البقرة254.
وقد تكون ( من ) بيانية ، قال تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ }الحج30 ,
وقد تكون ( من ) زائدة ، قال تعالى : { مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ }المائدة19 ، إلى غير ذلك من المعاني ، ويعرف معناها من خلال السياق .
( ومن الفوائد )
استحباب تنظيف اليد بعد غسل الفرج في غسل الجنابة “
فيبالغ في تنظيفها ، كيف تكون المبالغة ؟
تكون المبالغة بأن يضرب بيديه الأرض لأن التراب مادة منظفة ، هذا في ذلك الزمن لما كانت بيوت الخلاء من التراب ، ولا يوجد مساحيق أخرى متقدمة كما في مثل هذا العصر ، وبالتالي فإن الإنسان يستحب له في غسل الجنابة أنه إذا غسل فرجه بشماله أن يغسل يديه بالصابون أو بأي مسحوق مطهر آخر .
كما أنه من السنة كما مر معنا – أن الإنسان إذا نظَّف ما خرج منه من السبيل فإنه اليد يعلق بها رائحة النجاسة ، ومن ثم فإن السنة في حقه أن ينظف يديه ، والناس يفعلون هذا إذا خرجوا من الخلاء ، لكن لا يدرون أنها سنة من السنن يثاب فاعلها .
( ومن الفوائد )
هل ضربه صلى الله عليه وسلم للأرض بسبب نجاسة ما علق بفرجه من أذى ، أم مبالغة في التنظف ؟
مبالغة في التنظف ، وبالتالي فإن ما علق به صلى الله عليه وسلم إما أن يكون العالق الرائحة أو اللزوجة .
( ومن الفوائد )
أن في هذا الحديث دليلا على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر ، ففضلاته كسائر فضلات البشر ، ولذلك وصف هنا بأنه ( أذى ) .
( ومن الفوائد )
أن السنة إذا غسل فرجه أن يتوضأ ، وهذا الوضوء يكون كصفة الوضوء الشرعي المعروف .
( ومن الفوائد )
أن تقديم الوضوء هنا قبل الغسل ، يدل على أنه لا يلزم من صحة الوضوء – وهو رفع الحدث الأصغر – لا يلزم منه أن يرتفع الحدث الأكبر ، لأنه لو توضأ هل تزول جنابته ؟ لا ، فدل هذا على أنه لا يلزم من صحة الوضوء الذي هو رفع الحدث الأصغر لا يلزم منه أن يرفع الحدث الأكبر .
( ومن الفوائد )
كما أسلفنا ليس هناك غسل يغني عن الوضوء إلا غسل الجنابة ، ولذلك لو صبَّ الإنسان الماء على بدنه وهو جنب وتمضمض واستنشق فإن له أن يصلي بهذا الغسل .
ونقل بعضهم الإجماع – وليس بصحيح – فإن أبا ثور وغيره يرون أنه ليس هناك غسل يغني عن الوضوء مطلقا .
لكن الصحيح / أن الغسل للجنابة يغني عن الوضوء ، فله أن يصلي بهذا الغسل .
خلاف ما يفعله بعض الناس ، البعض يصب الماء على نفسه من باب التنظيف أو لغسل الجمعة ثم يتمضمض ويستنشق ويأتي ويصلي، فهذا خطأ ، لماذا أجزأ غسل الجنابة عن الوضوء ؟
لأن الوضوء عبارة عن رفع الحدث الأصغر ، فيدخل الحدث الأصغر في الحدث الأكبر ، لكن غسل الجمعة ليس عن حدث ، التنظف ليس عن حدث ، التبرد ليس عن حدث ، لأنه يشترط في صحة الوضوء أن يكون مرتبا .
لكن لو أن الإنسان في ثنايا الغسل للتنظف أو للتبرد رتَّب أعضاء الوضوء فهنا يصح .
( ومن الفوائد )
لو نوى بغسله ما يستحب من عبادة فقط فهل له أن يصلي ؟
أتى إنسان و عليه جنابة فقال أريد أن أقرأ القرآن فاغتسل لقراءة القرآن فقط ؟
فهل له أن يصلي بهذا الغسل ؟
الجواب / لا ، فإذا نوى بغسله ما يُستحب من عبادة فلا يجزئ أن يصلي به أو أن يفعل به الواجب .
الحالة الثانية :
إن نوى بغسله ما تجب له الطهارة ، كأن يغتسل من أجل أن يصلي هنا له أن يقرأ القرآن وما شابه ذلك من المستحبات .
الحالة الثالثة :
أنه ما أتى لنية فعل مستحب ولا لنية فعل واجب ، وإنما أتى ليرفع حدثه الأكبر ، فيرتفع الحدث الأكبر ويصلي الفرض والنفل .
الحالة الرابعة : أتى واغتسل ونوى أن يرتفع الحدث الأكبر فقط ولم ينو الوضوء مطلقا ؟
خلاف بين أهل العلم ، المذهب يرون أنه لا يرتفع إلا الأكبر ،
وشيخ الإسلام رحمه الله : يرى أنه متى ما نوى رفع الحدث الأكبر ولو لم ينو الحدث الأصغر أن الحدث الأصغر يدخل ضمنا تحت الحدث الأكبر – وهذا هو الأقرب – لقوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً }المائدة6
ولم يشترط نية الحدث الأصغر مع نية الحدث الأكبر .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
( لما صلى رأى رجلا لم يصل ، قال ما بالك لم تصل ؟
قال أجنبت ، قال عليك بالصعيد ، فوجد الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفرغه على بدنك )
ولم يقل انو كذا أو انو كذا .
( ومن الفوائد )
لو أنه اغتسل هذا الغسل المذكور في حديث عائشة ، فهل له أن يصلي ؟
قال بعض العلماء : لم يرد دليل أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد هذا الوصف من الغسل .
لكن قال الصنعاني رحمه الله ” سبل السلام ” قال : ما زعموه فليس بصحيح ، فقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ من نومه جنبا فاغتسل هذا الغسل صلى سنة الفجر وصلى صلاة الفرض بهذا الغسل )
وهناك دليل أقوى من هذا الدليل :
ما جاء في الصحيحين :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في مصلاه فتذكر أنه جنب ، فقال للصحابة انتظروا ، فذهب فاغتسل ورجع والماء يقطر منه وصلى بهم )
( ومن الفوائد )
إذا اغتسل هذا الغسل فهل له أن يتوضأ بعده ؟
نقول : ليس من السنة ، لأنه جاء عند الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنه :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ بعد الغسل )
( ومن الفوائد )
جواز تفريق أعضاء الوضوء ، فإنه في حديث ميمونة رضي الله عنها :
( توضأ لكن لم يغسل القدمين ،إنما أخرهما إلى آخر الغسل )
فدل هذا على جواز تفريق أعضاء الوضوء في الغسل .
( ومن الفوائد )
هل مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في هذا الغسل ؟
قال بعض العلماء :
إن غسل الرأس في وضوء الغسل كافٍ عن المسح لعدم الدليل ، ولذا قال ابن حجر رحمه الله لم يرد حديث يصرِّح بأنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه في وضوء الغسل .
وقال بعض العلماء :
إنه يمسح رأسه ، لأنها قالت في رواية ( وضوءه للصلاة ) ومعلوم أن من وضوء الصلاة ” مسح الرأس “وهذا هو الصحيح ، لأن وضوء الصلاة هو الوضوء الشرعي .
لكن المشكل / أن بعضهم قال : إن هذا الوضوء ليس وضوءا كاملا ، لأنه في حديث ميمونة ( لم يغسل قدميه )
فتعارض عندنا هنا حديث عائشة وحديث ميمونة ، فحديث عائشة يثبت غسل القدمين ، فيكون هذا هو الوضوء الكامل .
لكن حديث ميمونة توضأ أغلب الوضوء .
والجواب عن هذا /
قال بعض العلماء : حديث عائشة يتفق مع حديث ميمونة ، كيف ؟
قال : لأن حديث عائشة مبني على الغالب فيتفق مع حديث ميمونة .
لكن الصحيح أن نقول : إن حديث عائشة حديث مستقل ، فهذه صفة فعلها صلى الله عليه وسلم ، وتلك صفة أخرى فعلها صلى الله عليه وسلم لما اغتسل عند ميمونة .
( ومن الفوائد )
أن في حديث ميمونة راويان من الصحابة ، لأن الذي روى عن ميمونة هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
بل إن فيه ثلاثة رواة من التابعين على وجه التوالي .
( ومن الفوائد )
أنه في حديث عائشة رضي الله عنها ( غسل قدميه )
وفي حديث ميمونة ( أخَّر غسل القدمين )
في حديث لعائشة رضي الله عنها :
( أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض على رأسه وبدنه الماء ثم غسل قدميه )
إذاً عندنا ثلاث صفات :
الصفة الأولى : تأخير غسل القدمين .
الصفة الثانية : عدم تأخير غسل القدمين .
الصفة الثالثة : غسل القدمين في الوضوء ثم إعادة غسلهما مرة أخرى في آخر الغسل .
قال بعض العلماء : السنة أن يؤخر غسل القدمين إلى آخر الغسل .
وقال بعض العلماء : إن كانت هناك علة في الأرض من طين ويترتب على ذلك أنه يغسلهما مرة أخرى فيؤخر غسلهما ، وإن كان الحمام مبلطا فلا حاجة لتأخير غسل القدمين .
والصواب في مثل هذه المسألة / أن نأخذ بجميع الصفات ، مرة نتوضأ الوضوء الكامل ولا نغسل القدمين في آخر الغسل كما في حديث عائشة .
ومرة نأخذ بحديث ميمونة ونؤخر غسل القدمين إلى آخر الغسل .
ومرة نتوضأ وضوءا كاملا ثم نغسل القدمين مرة أخرى .
( ومن الفوائد )
لو أنه أحدث في ثنايا غسله بعد أن توضأ فهل يبطل الغسل ؟
الجواب / لا ، فغسله باقٍ على ما هو عليه ، لكن عليه أن يتوضأ
وكذلك لو أنه مسَّ فرجه بيده أثناء الاغتسال ، فهنا يلزمه أن يتوضأ .
والمراد بمس الفرج أن يمسه بالكف ، فلو مسه بساعده فلا يدخل .
والمراد بالدبر ” حلقة الدبر ” فلو أنه مسَّ عجيزته فلا إشكال .
( ومن الفوائد )
الغسل المقصود منه سيلان الماء ، فإذا جرى الماء فهذا هو الغسل ، ومن ثمَّ فلو أن الإنسان غمس بدنه في بركة ماء أو في مسبح ناويا أن يرفع حدثه ارتفع حدثه.
لو أنه خرج في المطر الغزير وسال الماء على بدنه وقد نوى فإن حدثه الأكبر يرتفع .
والمقصود جريان الماء وليس المقصود البلل .