شرح كتاب ( بلوغ المرام )ـ حديث 121
( باب الغسل وحكم الجنب )
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
{ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ إِنِّي اِمْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعْرَ رَأْسِي, أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ اَلْجَنَابَةِ?
وَفِي رِوَايَةٍ:
( وَالْحَيْضَة ؟ ) فَقَالَ: “لَا, إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ” }
رَوَاهُ مُسْلِم ٌ .
( من الفوائد )
أن ابن حجر رحمه الله لما ذكر صفة غسل الجنابة في حديثني عائشة وميمونة رضي الله عنهما ، ناسب أن يذكر هذا الحديث الذي يخص المرأة ، وما حال شعر المرأة حال غسل الجنابة وحال غسل الحيض إذا كان مجموعا بعضه إلى بعض
( ومن الفوائد )
بيان فضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذ سألن بعض الأسئلة التي تحتاج إليها نساء الأمة ، لاسيما فيما يخص الشعر إذا كان ضفائر ، فإنه نقضه قد يكون فيه من العسر ما يكون .
( ومن الفوائد )
أنها قالت :
( إِنِّي اِمْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعْرَ رَأْسِي )
فذكر ” الشعر ” قال الصنعاني رحمه الله في ” سبل السلام ” لعله ذكرها بالمعنى ، وإنما اللفظ ( ضَّفْر رأسي ) وفي ضبط آخر بضم الضاد والفاء ( ضُفُر رأسي )
والضفيرة : هي الخصلة من الشعر إذا أُدخل بعضها في بعض .
( ومن الفوائد )
هل يجوز أن يروى الحديث بالمعنى ، على افتراض أن ما ذكره ابن حجر رحمه الله هنا بالمعنى – كما أشار إلى ذلك الصنعاني – والعلم عند الله ، قد يكون هناك لفظ بذكر الشعر ، لكن ما نعرفه ( ضَفْر رأسي )
فهل يجوز أن يروى الحديث بالمعنى ؟ وهل هو مخصوص بالصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمه الله الذين لم تتغير ألسنتهم ، أم أنه يجوز في كل العصور ؟
رواية الحديث بالمعنى اختلف فيها العلماء :
قال بعضهم العلماء : لابد أن يروى الحديث بالمبنى لا بالمعنى ، ولذلك أُثر عن أبي بكر رضي الله عنه :
” أنه ما كان يذكر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى ، إنما كان يذكره بالمبنى “
يعني كما سمعه ، ولذلك قلَّت روايته رضي الله عنه مع شدة وعظم وطول وقرب ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم .
وأُثر عن أبي حنيفة رحمه الله ” أنه ما كان يذكر الحديث إلا بالمبنى لا بالمعنى “
حتى إن العلماء الذين قالوا : لابد من رواية الحديث بالمبنى ، قالوا إنه لا يحق له أن يبدل كلمة ” النبي بالرسول ” فإذا جاء في الحديث كلمة ” قال نبي الله ” فيأتي بها على حالها ” قال رسول الله ” يأتي بها على حالها ، وهكذا .
ومن بين أدلة هؤلاء :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في السنن :
( نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها )
ومن الأدلة :
ما جاء في حديث البراء عند البخاري :
( إذا أتيت مضجعك فتوضأ و ضوءه للصلاة ثم قال اللهم أسلمت نفسي إليك ) في آخر الحديث ( آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت ) فأعادها البراء فقال ( وبرسولك الذي أرسلت ) فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم ، فقال
( وبنبيك الذي أرسلت )
فدل هذا على أن ضبط الحديث بمبناه هو مطلب شرعي .
وقال بعض العلماء : يجوز رواية الحديث بالمعنى .
ومن بين أدلتهم :
أن الله عز وجل ذكر ما جرى وما تُكلم به من السابقين ذكر عنهم بعض الأشياء وليس هي نصَّ ألفاظهم إنما ذكرها بالمعنى .
ومن بين الأدلة :
أن ذكر الحديث بالمبنى دون المعنى فيه حرج على الأمة ، ولو قيل بذلك لتركت أحاديث كثيرة .
فيقولون بجواز رواية الحديث بالمعنى بشرط :
[ ألا يكون المروي مما يُتعبد بلفظه]
فيجب أن يؤديها الراوي كما هي مثل الأذكار ، مثل صيغ الأذان ، فإذا كانت فيما لا يتعبد بلفظه فيجوز أن يروى بالمعنى ، ولذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم :
( من قال لكم إنني أحدثكم بملفوظ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نطق فقد كذب ، وإنما أحدثكم بالمعنى )
ويكون أيضا لديه علم باللغة العربية ، بمعنى أن هذه الكلمة إذا وقعت موقع تلك الكلمة الأخرى لم يكن هناك اختلاف في الحكم .
وهذا هو الصواب ، لكن ما الجواب عن حديث :
( نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها ) ؟
نقول : الجواب / أكمل الحديث ، قال :
( رُبَّ حامل فقه ليس بفقيه ، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه )
فدل هذا على أن المقصود ليست الألفاظ وإنما المقصود المعنى ، وأيضا هذا الحديث روي بألفاظ متعددة .
وأما حديث البراء رضي الله عنه :
فإنه لو قال ( وبرسولك الذي أرسلت )
لم يكن هناك زيادة فائدة فصار تكرارا بدون فائدة ، لكن إذا أتى بكلمة ( وبنبيك الذي أرسلت ) كان هناك معنى آخر لأن النبي يختلف في معناه عن الرسول .
قال ابن العربي / هذا يخص الصحابة والتابعين لقربهم من زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولمعرفتهم بدقائق اللغة .
لكن رُدَّ عليه – كما ذكر القرطبي رحمه الله في التفسير – رُدَّ عليه من أن الحكم لا يختلف ، فمتى ما توفرت الشروط فإن الجواز باقي .
( ومن الفوائد )
أن شدَّ ضفر الرأس يدل على أن المرأة لها حق التصرف في شعرها بماء تشاء شريطة ألا يكون هناك محظور شرعي ، كأن يكون فعلها في شعرها فيه تشبه بالكافرات أو الفاجرات ، أو تشبه بالرجال ، أو الصِّبغ بما حرَّم الله عز وجل وهو الأسود الخالص .
ومن ثمَّ فإن المرأة لها أن تقص شعر رأسها إذا أرادت من ذلك التخلص من تبعة الاعتناء به أو أرادت التجمل لزوجها ، بشرط ألا يكون هناك تشبه بالرجال أو الكافرات أو محظور آخر من المحظورات الشرعية .
ولذلك جاء عند مسلم :
( أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته قصصن شعورهن )
إذاً لو أن المرأة قصت شعر رأسها فلا حرج في ذلك بشرطة ألا يكون هناك محظور شرعي .
وكان الشعراء فيما مضى يتغنون بالشعر الطويل ، لكن الناس يختلف عصرهم من عصر إلى عصر، ففي هذا العصر يحبون من المرأة أن تقص شعر رأسها – في الجملة – وهذا إن دلَّ يدل على أن ابن آدم لا يمكن أن يستقيم له حال يسعد به طيلة حياته ، فإنه إن رئي حال الناس فيما مضى إذا بهم يرغبون في إطالة الشعر ، بينما في هذا العصر اختلف الحال ، فيما مضى كانوا يحبون المرأة السمينة المليئة ، ولذلك عائشة رضي الله عنها قالت :
( كنت نحيفة فأحبت أمي أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمنت ، فأطعمتني الطعام فلم يتوافق لها شيء حتى أطعمتني القثاء بالرطب )
والقثاء : طعمه يشبه الخيار ،لكن أطول من الخيار وأفتح منه لونا .
وهذا إن دلَّ يدل على أن الجمال في السابق إنما هو ببدانة المرأة لا بنحفها .
وذلك الرجل الذي هو ” مخنث ” وقال لأحد الصحابة:
( إن فتح الله علينا ثقيف رأيتك امرأة تقبل في أربع )
يعني أن عكن بطنها قد تكسرت من السمنة، بينما في هذا العصر اختلف الحال فإنهم يحبون المرأة النحيفة وتعجبهم أكثر من السمينة ، بل لا يرغبون في السمينة مطلقا ، وإن نظرت إلى الحال وجدت العجب من هذه البشرية ، كيف ؟
كأنهم يخالفون واقعهم – سبحان الله – لما كان الطعام قليلا فيما مضى ونحف المرأة أقرب من بدانتها أحبوا البدينة ، بينما في هذا العصر لما كثر الطعام وتنوع وتشكل وكان من المناسب والأقرب لحال المرأة أن تكون إلى السمنة أقرب من النحافة أحبوا النحيفة .
ولذا جاءت وصيته صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة كما عند ابن ماجه ،قال صلى الله عليه وسلم :
( ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس )
( ومن الفوائد )
ما حكم نقض المرأة لشعر رأسها حال الجنابة ؟
القول الأول – وهو قول الجمهور :
” لا تلزم المرأة بنقض شعر رأسها لا في حال الجنابة ولا في حال الحيض شريطة أن يصل الماء إلى أصول الشعر “
فإذا وصل الماء إلى أصول الشعر فلا ينقض الشعر لا للجنابة ولا للحيض .
أما إذا لم يصل الماء إلى أصول الشعر فإن الواجب نقضه .
القول الثاني :
” أنه يجب أن ينقض الشعر ” وهو رأي إبراهيم النخعي رحمه الله ، وحكوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، لأنه كان يفتي النساء بأن ينقضن شعور رؤوسهن ، فأنكرت عليه عائشة رضي الله عنها فقالت :
( ألا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن ؟! )
لكن الصحيح أنه منسوب إلى إبراهيم النخعي سواء كان رجلا أم امرأة ، سواء كان لغسل الجنابة أم لغسل الحيض ، وصل الماء أو لم يصل .
ولعله رحمه الله لم يبلغه الحديث، وهو من كبار طلاب ابن مسعود رضي الله عنه ، ولكن هذا هو شأن البشر من علم شيئا فقد غابت عنه أشياء .
القول الثالث :
قال بعض العلماء “ ينقض في غسل الحيض دون غسل الجنابة ” لم ؟
قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم :
( لما سألته أسماء عن غسل المحيض ؟
قال صلى الله عليه وسلم تأخذ ماءها وسدرها وتفيض الماء على شعر رأسها وتدلك شعر رأسها حتى يبلغ شؤون رأسها )
فقالوا : إن الأمر بالسدر يلزم منه أن يحصل نقض في غسل الحيض .
لكن لما سئل في نفس الحديث عن غسل الجنابة ؟
قال : ( تفيض الماء على رأسها فتدلك رأسها حتى يبلغ شؤون رأسها )
وأما رواية ( والحيضة ) في حديث أم سلمة فإنها شاذة .
وممن يرى أنها شاذة ” ابن القيم والألباني ” رحمهما الله ، قالوا : لأن الرواة الكثر إنما رووا الحديث بلفظ الجنابة بدون ذكر الحيضة .
ومما يدل على ضعف لفظة ( الحيضة ) ما جاء في حديث أسماء أنه أمرها بأن تأخذر ماءها وسدرها في غسل الحيض بينما الجنابة لا .
وعلى هذا القول ” لو لم يصل الماء يقينا إلى أصل شعرها فيكفيها أن تحثي على رأسها ثلاث حثيات في غسل الجنابة .
ثانيا : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاضت عائشة بسرف – وعند البخاري ” أنها لم تطهر إلا ليلة عرفة “
( أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة وأن تغتسل وأن تنقض شعر رأسها )
وهي حائض .
ورُد هذا / لأن الغسل منها للتنظف ، لأنها لو ارتفع هذا ما ارتفع حيضها .
ولكن قالوا : أنه إذا أمرها بنقض شعر رأسها فيما هو مستحب إذاً ما كان للوجوب فمن باب أولى .
ثالثا : جاء عند أبي داود ، قوله صلى الله عليه وسلم :
( اغمزي قرونك )
وهذا يدل على أهمية وصول الماء إلى أصول الشعر .
قال بعض العلماء : إن الحكم يتعلق بالرجال دون النساء ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصول شعر رأسه .
والأقرب – والعلم عند الله – ما قاله الجمهور ، من أن الماء إذا وصل إلى أصول الشعر فإن المرأة لا تلزم بنقضه .
يلي ذلك في القوة قول من يقول ” إن المرأة تختلف عن الرجل “
أما رواية ( والحيضة ) فقد رأى جملة من العلماء ثبوتها ، ومما يدل على ثبوتها ما سيأتي من حديث ( إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر )
وجاء عند أبي داود : أن عليا رضي الله عنه قال :
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن تحت كل شعرة جنابة ” فمن حينها عاديت شعر رأسي )
قال ابن حجر رحمه الله في التلخيص ” إسناده صحيح “
ورأى بعض العلماء أنه موقوف على علي رضي الله عنه .
فخلاصة المسألة :
المسألة وردت فيها أدلة ، ومن بين الأدلة ما ذكر في الباب
( أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال لا )
فدل هذا على أن المرأة في حال غسل الجنابة لا تلزم بنقض شعر رأسها ولو لم يصل الماء إلى أصول الشعر – عند بعض العلماء .
وقال بعض العلماء : إن وصل الماء فلا تلزم المرأة بنقضه وإن لم يصل فتلزم للأحاديث الأخرى التي أمرت بغمز القرون .
وجاءت رواية عند مسلم ( والحيضة ) فهل يلحق الحيض بغسل الجنابة في التيسير في ذلك ؟
قال بعض العلماء :لا ، لأنها رواية شاذة .
وقال بعض العلماء : هي ثابتة ؟
لكن من يفرِّق بين الجنابة وبين الحيض قالوا :
إضافة إلى أنها شاذة فإن غسل الجنابة يتكرر فيشق على الإنسان ، وأما بالنسبة إلى الحيض فإنه يأتيها في الشهر مرة فلو نقضت شعر رأسها فإنه لا إشكال في ذلك .
ومن الأدلة : عند مسلم :
( خذي ماءك وسدرك ) وهذا يلزم منه النقض .
لكن نقول : من ضمن الحديث ( سئل عن الجنابة وأمرها بالدلك دون السدر ) فكونه يأمر بالسدر لا يعني أنه يلزم النقض في الحيض دون الجنابة ، لم ؟
لأنه أمر بالدلك ، والدلك دليل على أنه لابد أن يصل الماء إلى أصول الشعر كما قال الجمهور بدليل آخر الحديث :
( حتى يبلغ شؤون رأسها )
ومن الأدلة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( اغسلوا الشعر ) وقال ( تحت كل شعرة جنابة ) وهذا يشمل الجميع حتى يصل الماء إلى أصول الشعر .
ومن الأدلة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم :
( أمر عائشة رضي الله عنه بنقض شعر رأسها لما حاضت في الحج )
وهذا يدل على أن غسل الحيض عند بعض العلماء ليس كغسل الجنابة .
ومن الأدلة :
قوله صلى الله عليه وسلم :
( اغمزي قروك )
يدل على وجوب إيصال الماء إلى أصول الشعر .
( ومن الفوائد )
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إنما يكفيك أن تحثي )
بالسكون ولا تصح بالفتح ( تحثيَ ) لأنها من الأفعال الخمسة ينصب بحذف النون .
فلا يصح أن يقال : ” أن ” أداة نصب ” و” تحثي ” فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه الفتحة ” هذا خطأ .
والصواب ” تحثي ” فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة .
( ومن الفوائد )
أنه قال:
( إنما يكفيك أن تحثي )
الحثية : هي ملئ اليدين ، كما هو الشأن في تعريف الحفنة .
( ومن الفوائد )
أن قوله :
( إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات )
يدل على أن ما هو دون الثلاث ليس بكافٍ ، فتلزم المرأة في حال غسل الجنابة أو في غسل الحيض- على القول الآخر – أنها إذا لم تنقض شعر رأسها أنها تحثي ثلاث حثيات على رأسها ، فإن ما دون الثلاث لا يكون كافيا .