شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 18 حديث 20
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وعن ميمونة – رضي الله عنها – قالت : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها ، فقال : ( لو أخذتم إهابها ؟ ”
قالوا : إنها ميتة .
فقال : يطهرها الماء والقَرَظ ” )
أخرجه : أبو داود والنسائي .
( من الفوائد )
أن البهيمة إذا ماتت حتف أنفها لا تكون لها كرامة ككرامة المسلم إذا مات ، فإنه عليه الصلاة والسلام رآهم يجرونها ومع ذلك ما أنكر عليهم هذا الفعل .
( ومن الفوائد )
أن بعض العلماء يرى : أن ذكر الشاة في حديث ميمونة رضي الله عنها يخصص ما أطلق في الأحاديث السابقة .
ولعل ابن حجر رحمه الله يلمح إلى هذا ، لأنه ذكر الأحاديث العامة ثم ختم الأحاديث الواردة في جلود الميتة بحديث ميمونة رضي الله عنها .
فبعض العلماء : استدل بهذا الحديث على أن الجلود التي تطهر بالدباغ هي جلود مأكولة اللحم .
( ومن الفوائد )
أن ” الشاة ” تطلق في اللغة على الذكر والأنثى ، فإذا جاءت كلمة ” الشاة ” في النصوص الشرعية علمنا أنها إما ذكر وإما أنثى ، ولا يختص من حيث اللفظ بالأنثى.
( ومن الفوائد )
أن قولهم ( إنها ميتة )
ثم وجههم عليه الصلاة والسلام بقوله
( يطهرها الماء والقرظ )
يدل على أن جلد الحيوان الذي يذكى ذكاة شرعية – فالشاة مثلا إذا ذكيت عن طريق قطع الحلقوم والمريء والودجين وهما ” العرقان المحيطان بالعنق ” – أن جلدها طاهر ولو لم يدبغ .
فإذاً / لو أردنا أن نقسم الجلود نقول هي على ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
” جلد مأكول اللحم المذكى ”
فهذا طاهر ولو لم يدبغ .
القسم الثاني :
” جلد ما لا يؤكل لحمه ”
مثل الفهد والذئب ونحوه ، فهذا لا يطهر ولو دبغ على الصحيح ، لظاهر هذا الحديث ، ولما جاء من أحاديث في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم :
( نهى عن جلود النِمار )
وفي حديث آخر :
( نهى عن جلود السباع )
وللرواية الأخرى في حديث سلمة بن المحبِّق السابق :”
( دباغ جلود الميتة ذكاتها )
فنصَّ على التذكية ، ومعلوم أن التذكية لا تكون إلا في مأكول اللحم .
أما كونه يفسر بالتفسير الآخر من أن دبغها يكون بمثابة ذبحها – فلا يستقيم – لأن التذكية الواردة في الشرع هي التذكية المعروفة ” بقطع الحلقوم والمريء والودجين
القسم الثالث :
” جلد الميتة مأكولة اللحم ”
وهذا يطهر بالدباغ لحديث ميمونة رضي الله عنها .
لكن إذا كان هذا المرجح فبم نجيب عن أدلة من قال بخلاف هذا الرأي ؟
الجواب /
قول من يقول ” إن الميتة لا ينتفع منها بشيء ”
لحديث عبد الله بن عكيم :
( إذا أتاكم كتابي فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )
فالجواب عن هذا الحديث :
أن فيه عللا في سنده وفي متنه .
أما في سنده / فإنه ” مرسل ” لأن عبد الله بن عكيم لم يسمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ” .
وأما من حيث المتن / فإنه ” مضطرب ” فقد جاء في إحدى الروايات ( أن هذا الكتاب أتى قبل ثلاثة أيام )
وفي رواية : ( قبل شهر )
وفي رواية ( قبل أربعين يوما )
وفي رواية ( قبل شهرين )
وعلى افتراض صحة هذا الحديث /
فإن الإهاب لا ينتفع منه قبل دبغه ، فلا يسمى جلدا قبل الدبغ وإنما يسمى إهاباً ، ويؤكد هذا حديث ميمونة :
( هلا انتفعتم بإهابها )
ولم يقل : ( بجلدها )
وأما قول من يقول :
إن جميع الجلود تطهر ما عدا جلد الخنزير ” لأن الله عز وجل قال :
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }الأنعام145 .
الجواب /
أن هناك أشياء وصفت بالرجسية غير الخنزير .
بل إن بعض المفسرين قال :
” إن الضمير يعود إلى اللحم ولا يعود إلى الخنزير “
ولو كان الضمير عائدا إلى الخنزير فإن الحكم لا يحصر في جلد الخنزير لأنه لا ذكر هنا للجلود ، إنما الذكر هنا للمطعوم {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }الأنعام145 .
وأما قول من يقول :
أن ” الجلود كلها تطهر بالدباغ ما عدا الخنزير والكلب وما تولد منهما “
والدليل : الآية السابقة إذ إن الكلب مقيس على الخنزير .
فالجواب /
أن هذا القول يسقط من باب أولى ، ولا يعني أن جلد هذين الحيوانين أنهما يطهران بالدباغ – لا – لكن الرد على هذين القولين لأنهما استثنيا ” الكلب والخنزير ” .
وأما قول من يقول :
إن ” الجلود كلها تطهر بالدبغ ظاهرا لا باطنا ”
فتستعمل في اليابسات دون المائعات .
الجواب /
النبي صلى الله عليه وسلم عمم ، قال :
( لو أخذتم إهابها ؟ ” قالوا إنها ميتة ، قال: ” يطهرها الماء والقرظ )
وأعظم ما ينتفع من الجلود في السوائل ، أي في المائعات .
وأما القول المنسوب للزهري رحمه الله :
أن ” الجلود كلها طاهرة ولو لم تدبغ “
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الميتة : ( إنما حرم أكلها )
نقول / هذه مطلقة مقيدة بالأحاديث الأخرى .
( ومن الفوائد )
أن الأصل – على حسب ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم – أن الأصل في الميتة أنه ” لا ينتفع منها بشيء “
لو قال قائل : ” عظم الميتة ” أينتفع به ؟
قولان : شيخ الإسلام رحمه الله يرى الانتفاع به ، لأن الدم لا يصل إليه ، وسبب تحريم الميتة ” احتقان الدم “
والصواب / أنه لا ينتفع به ، لأن الصحابة رضي الله عنهم استغربوا أن ينتفع بإهابها ، ولا شك أن العظم أصل أصيل فيها .
ويسرى هذا القول في ” حليب الميتة “
” لو أن شاة ماتت وبها حليب “
يرى شيخ الإسلام رحمه الله : أن الحليب إذا لم يتعفن أنه ينتفع به .
والصواب / عدم ذلك ، لأن الحليب أصله من الدم {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }النحل66 .
ولو قال قائل :
حكم قرنها وشعرها وظفرها ؟
فيقال : بالنسبة إلى الشعر والوبر والريش فهو مباح ، لأن الله عز وجل قال :
{ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ }النحل80 ، وعمم .
والمقصود من الانتفاع بها : أن ينتفع بها دون دبغ .
فيجوز الانتفاع بها شريطة ألا تقلع من أصولها وإنما تجز جزاً .
وأما بالنسبة إلى ” القرن والأظافر ” فإنها لا تسري فيه الحياة ، فيجوز الانتفاع بها .
لو قال قائل : ما حكم ” الناب ” ؟
نقول : على الخلاف السابق في العظم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( أما السن فعظم )
( ومن الفوائد )
أن الميتة يطهر جلدها بما يذهب عفونتها ورطوبتها ، فكان مما كان موجودا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ( الماء والقرظ )
والقرظ : هو حب شجر يقال له ” السَّلَم “
يوضع مع الماء فيطهر الجلود .
فإذا وجد مواد أخرى أبلغ وأنقى فتستعمل .
( ومن الفوائد )
أن قوله عليه الصلاة والسلام :
( هلا انتفعتم من إهابها )
( هلا ) أداة من أدوات ” التحضيض “
يعني حضٌّ منه عليه الصلاة بأخذ إيهابها .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( لو ) ليست على سبيل الإطلاق يراد منها ما جاء في الحديث عند مسلم :
( لو تفتح عمل الشيطان )
هذا فيما إذا كان الإنسان معترضاً على قدر الله عز وجل .
فنخلص من هذا أن ( لو ) لها أنواع كثيرة ، لكن ما نوعها هنا ؟
هل هي للتمني ؟
هل هي للإخبار ؟
هل هي للندم ؟
نقول : ( لو ) هنا بمعنى ( التحضيض ) لم ؟
لأن الرواية الأخرى فسَّرتها
( ومن الفوائد )
أن بعض العلماء يرى : أن النجاسة إذا أزيلت بالماء أن يضاف معه شيء حاد – كالمسحوق – مثل الأشنان أو القرظ أو الصابون ، لقوله ( يطهرها الماء والقرظ )
والصواب / أنه لا يلزم ، لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن من حديث خولة بنت يسار لما سألته عن دم الحيض ؟ قال :
( يكفيك الماء ولا يضرك أثره )
( ومن الفوائد )
أن الإسلام دين النظافة والتطهر ، فهو يرفع مقام الإنسان ، ولا شك أن من نظر في النصوص الواردة في التطهر علم أن الإنسان حريص على النظافة وعلى عدم وصول الضرر والأذى إلى ابن آدم .