شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 19 حديث 21
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن أبي ثعلبة الخُشني – رضي الله عنه– قال : قلت : يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟
قال : لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها ، فاغسلوها وكلوا فيها )
متفق عليه
( من الفوائد )
أن ” أبا ثعلبة ” رضي الله عنه اشتهر بكنيته أكثر من اسمه ، واسمه ” جُرْهُم ”
( ومن الفوائد )
بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على طلب العلم وتلقيه من الرسول صلى الله عليه وسلم .
( ومن الفوائد )
أن أهل الكتاب يقصد منهم ” اليهود والنصارى ” أو إحدى الطائفتين إما اليهود وإما النصارى .
( ومن الفوائد )
أن مخالطة الصحابة رضي الله عنهم لهؤلاء الكفار لا يقصد منها ميل قلب أو رغبة في مجاورة ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود قال :
( أنا بريء ممن يقيم بين ظهراني المشركين لا تتراءى ناراهما )
بمعنى / أن يبعد المسلم عن الكافر إلى درجة أنه لو أشعل نارا ما رأى نار الكافر لبعده عنه .
فتكون هذه المخالطة مخالطة تبادل مصالح ومنافع ، لا مخالطة مودة ومحبة .
ولذا قال العلماء :
[ تجب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام إذا كان لا يستطيع أن يقيم دينه وشعائره ]
أما إذا كان قادرا على إقامة شعائر الدين ، فإن الهجرة في حقه مستحبة .
( ومن الفوائد )
أن هؤلاء المخالطين من أهل الكتاب هم رجال ، لأن ” القوم ” كما هو المشهور في اللغة يطلق على الرجال ولا يدخل فيه النساء ، ويستدلون عليه بقول الشاعر :
ولست أدري سوف أخال أدري
أقوم آل حصن أم نساءُ
فـ ( فقوم ) هنا معناها ” ر جال ” بينتها كلمة ( نساء )
ومن ثم فرَّق بينهما عز وجل فقال :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ }الحجرات11
فإن كان هناك قول ” بأن القوم يدخل فيه النساء ” فإن الآية ذكرت النساء مرة أخرى مع أنهن داخلات في القوم ، فدل على أن هذا الفعل واقع منهن أكثر من الرجال .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث فيه دليل لمن قال من العلماء :
” إن أبدان وأواني الكفار نجسة إذا كانت رطبة “
ويضيفون على هذا الاستدلال قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }التوبة28 .
بينما يرى علماء آخرون : أن أواني وثياب وأبدان الكفارطاهرة ، لقوله تعالى :
{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ }المائدة5 .
قال ابن عباس رضي الله عنهما – كما عند البخاري ( ذبائحهم )
ثم قال تعالى :
{ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ }
ثم أباح لنا نساء أهل الكتاب
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ }
ولهم أدلة أخرى منها – وسيأتي معنا إن شاء الله تعالى – أن النبي صلى الله عليه وسلم :
( توضأ من مزادة امرأة مشركة )
بل قال الإمام أحمد رحمه الله : ” إن ثيابهم طاهرة ولو لاقت عوراتهم “
لأن الأصل في الأشياء الطهارة ولا يعدل عن ذلك إلا بيقين .
وأما ما استدلوا به من الآية : فإن المراد من النجاسة في قوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }التوبة28 .
المراد: النجاسة المعنوية القلبية .
إذاً / ما هو الجواب عن هذا الحديث ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يستعملوها فدل على أنها نجسة ، فما الجواب ؟
الجواب /
أن هذا الحديث :
إما أن يحمل على الكراهة أي من باب التنزه لا من باب التحريم ، ولا يقصد من نهيه عليه الصلاة والسلام أنها نجسة ، لم ؟
لأنه أباح لهم استعمالها مع عدم غيرها بعد غسلها .
وإما أن يقال :
إن هذا الحديث محمول على طائفة عرفت باستعمال النجاسة في أوانيهم ، لما جاء عند مسلم :
( إنا بأرض قوم أهل كتاب يطبخون في قدورهم ويشربون الخمور في أوانيهم ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها ، فارحضوها بالماء وكلوا فيها )
ارحضوها : أي اغسلوها .
أما من خفي أمره من المشركين : فإن الأصل الطهارة ، ولكن الأفضل أن يتنزه عنها .
( ومن الفوائد )
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم باستخدامها ، متى ؟
إن لم يجدوا غيرها ، ومعلوم أن عدم الوجود يتطلب أن تُطْلَب ، كما قال تعالى في الماء :
{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ }المائدة6
يعني ” بعد أن تبحثوا عن الماء “
( ومن الفوائد )
أن ” الماء كافٍ في غسل النجاسات “
لأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بذكر الماء .
( ومن الفوائد )
أن : [ الأمر بعد النهي يفيد الإباحة ] كما قال بعض الأصوليين .
فهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل فيها ، ثم أتى بالأمر ، فدل على الإباحة .
كما قال تعالى :
{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ }المائدة2
وقال أهل التحقيق من الأصول :
[ إن الأمر بعد النهي يعود إلى حالته الأولى ولا يعود إلى الإباحة فقط ]
فيكون الأمر هنا للإباحة باعتبار الأمر الأول ، فالأمر الأول للإباحة .
فقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )
أمر أتى بعد نهي ماذا يفيد ؟
لو قلنا بالقول الأول : “يفيد الإباحة “
وإن قلنا بالقول الآخر : ” الاستحباب “
“:ولذلك يقول العلماء المحققون :
إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم
( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) لا يدخل فيها النساء للأحاديث الأخرى الواردة .
وأخذنا الاستحباب لتتمة الحديث :
( فإنها تذكر الموت ) وفي رواية ( فإنها تذكر الآخرة )
( ومن الفوائد )
أن بعض العلماء أخذ منه :
” نجاسة الخمر”
لا شك أن نجاسة الخنزير ثابتة ، بينما أخذوا من هذا نجاسة الخمر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ” أمرهم بغسل هذه الأواني التي شربت فيها الخمور “
فقالوا : إنها نجسة .
بينما يرى علماء آخرون : مع أن الخمر محرمة إلا أنها طاهرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بها أن تهراق في الطرقات )
ولو كانت نجسة لما أمر بذلك ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال كما عند مسلم :
( اتقوا اللاعنين ، قيل وما اللاعنان ؟
قال : الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم )
فلو كانت الخمر نجسة لما لوث الطرقات بها .
ولكن يقولون : إن سكبها في الطرقات إظهار لتحريمها .
ويجاب عن هذا / بأن إشاعة تحريمها تحصل بالإخبار باللسان وبسكبها في مكان شائع منحصر .
وأما قوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }المائدة90
فوصفها هنا بالرجسية ، المقصود ” النجاسة المعنوية ”
لأنها اقترنت بالميسر والأنصاب والأزلام .
لكنهم يقولون : إن قوله عز وجل:
{ فَاجْتَنِبُوهُ } شامل لكل أنواع الاجتناب .
وهذه الآية تصلح للقولين .
وبعض العلماء : زاد دليلا في تحريمها ، وهو الشنقيطي رحمه الله في كتابه ” أضواء البيان ” وهو قوله تعالى :
{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }الإنسان21
فوصف شراب أهل الجنة بأنه ” طهور ” ففهم من ذلك أن شراب أهل الدنيا ليس بطهور .
ولا يُسلَّم له رحمه الله ، لأن الأشربة منها الطاهرة في الدنيا ومنها غير ذلك .
ولا شك أن القول بنجاستها يجعل الناس في حرج ولاسيما في هذا الزمن ، ولاسيما النساء ، فإن العطورات يوضع فيها بعض الخمور ، فإذا قلنا بهذا فإن صلاة النساء غير صحيحة ، ويترتب على ذلك أن ربَّ البيت يدخل في الإثم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( لعن الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، وما حُملت إليه ، وبائعها ، ومبتاعها ) وهو قد أتى بها .
فالأقرب أنها طاهرة ، وهذا رأي الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله .
( ومن الفوائد )
أن ما لا يتيقن الحكم عليه يجوز استعماله عند الحاجة، مع الاحتياط في ذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم :
( نهى عن استعمالها ) ولكن مع الحاجة أباحها لهم بعد غسلها .
ولذلك قال بعض العلماء :
إذا لم يكن هناك دليل قاطع على تحريم الشيء فإنه لايُحرَّج على الناس عند الحاجة إليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .