شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 19 ) حديث ( 21 ) ( إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ )

شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 19 ) حديث ( 21 ) ( إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ )

مشاهدات: 504

شرح كتاب ( بلوغ المرام  ) ـ الدرس 19 حديث 21

فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــ

( أما بعد :

فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

عن أبي ثعلبة الخُشني  – رضي الله عنه– قال : قلت : يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟

قال : لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها ، فاغسلوها وكلوا فيها )

متفق عليه

( من الفوائد )

أن ” أبا ثعلبة ” رضي الله عنه اشتهر بكنيته أكثر من اسمه ، واسمه ” جُرْهُم ”

( ومن الفوائد )

بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على طلب العلم وتلقيه من الرسول صلى الله عليه وسلم .

( ومن الفوائد )

أن أهل الكتاب يقصد منهم ” اليهود والنصارى ” أو إحدى الطائفتين إما اليهود وإما النصارى .

( ومن الفوائد )

أن مخالطة الصحابة رضي الله عنهم لهؤلاء الكفار لا يقصد منها ميل قلب أو رغبة في مجاورة ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود قال :

( أنا بريء ممن يقيم بين ظهراني المشركين لا تتراءى ناراهما )

بمعنى / أن يبعد المسلم عن الكافر  إلى درجة أنه لو أشعل نارا ما رأى نار الكافر لبعده عنه .

فتكون هذه المخالطة مخالطة تبادل مصالح ومنافع ، لا مخالطة مودة ومحبة .

ولذا قال العلماء :

[ تجب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام إذا كان لا يستطيع أن يقيم دينه وشعائره ]

أما إذا كان قادرا على إقامة شعائر الدين ، فإن الهجرة في حقه مستحبة .

( ومن الفوائد )

أن هؤلاء المخالطين من أهل الكتاب هم رجال ، لأن ” القوم ”  كما هو المشهور في اللغة يطلق على الرجال ولا يدخل فيه النساء ، ويستدلون عليه بقول الشاعر :

     ولست أدري سوف أخال أدري

                 أقوم آل حصن أم نساءُ

فـ ( فقوم ) هنا معناها ” ر جال ” بينتها كلمة ( نساء )

ومن ثم فرَّق بينهما عز وجل فقال :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ }الحجرات11

فإن كان هناك قول ” بأن القوم يدخل فيه النساء ” فإن الآية ذكرت النساء مرة أخرى مع أنهن داخلات في القوم ، فدل على أن هذا الفعل واقع منهن أكثر من الرجال .

( ومن الفوائد )

أن هذا الحديث فيه دليل لمن قال من العلماء :

” إن أبدان وأواني الكفار نجسة إذا كانت رطبة “

ويضيفون على هذا الاستدلال قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }التوبة28 .

بينما يرى علماء آخرون  : أن أواني وثياب وأبدان الكفارطاهرة ، لقوله تعالى :

{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ }المائدة5 .

قال ابن عباس رضي الله عنهما – كما عند البخاري ( ذبائحهم )

ثم قال تعالى :

{ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ }

ثم أباح لنا نساء أهل الكتاب

{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ }

ولهم أدلة أخرى منها – وسيأتي معنا إن شاء الله تعالى – أن النبي صلى الله عليه وسلم :

( توضأ من مزادة امرأة مشركة )

بل قال الإمام أحمد رحمه الله : ” إن ثيابهم طاهرة ولو لاقت عوراتهم “

لأن الأصل في الأشياء الطهارة ولا يعدل عن ذلك إلا بيقين .

وأما ما استدلوا به من الآية : فإن المراد من النجاسة في قوله تعالى :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }التوبة28 .

المراد: النجاسة المعنوية القلبية .

إذاً / ما هو الجواب عن هذا الحديث ؟

لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يستعملوها فدل على أنها نجسة ، فما الجواب ؟

الجواب /

أن هذا الحديث :

إما أن يحمل على الكراهة  أي من باب التنزه لا من باب التحريم ، ولا يقصد من نهيه عليه الصلاة والسلام أنها نجسة ، لم ؟

لأنه أباح لهم استعمالها مع عدم غيرها بعد غسلها .

وإما أن يقال :

إن هذا الحديث محمول على طائفة عرفت باستعمال النجاسة في أوانيهم ، لما جاء عند مسلم :

( إنا بأرض قوم أهل كتاب يطبخون في قدورهم ويشربون الخمور في أوانيهم ؟

فقال عليه الصلاة والسلام : لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها ، فارحضوها بالماء وكلوا فيها )

ارحضوها : أي اغسلوها .

أما من خفي أمره من المشركين : فإن الأصل الطهارة ، ولكن الأفضل أن يتنزه عنها .

( ومن الفوائد )

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم باستخدامها ، متى ؟

إن لم يجدوا غيرها ، ومعلوم أن عدم الوجود يتطلب أن تُطْلَب ، كما قال تعالى في الماء :

{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ }المائدة6

يعني ” بعد أن تبحثوا عن الماء “

( ومن الفوائد )

أن ” الماء كافٍ في غسل النجاسات “

لأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بذكر الماء .

( ومن الفوائد )

أن : [ الأمر بعد النهي يفيد الإباحة ] كما قال بعض الأصوليين .

فهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل فيها ، ثم أتى بالأمر ، فدل على الإباحة .

كما قال تعالى :

{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ }المائدة2

وقال أهل التحقيق من الأصول :

[ إن الأمر بعد النهي يعود إلى حالته الأولى ولا يعود إلى الإباحة فقط ]

فيكون الأمر هنا للإباحة باعتبار الأمر الأول ، فالأمر الأول للإباحة .

فقول النبي صلى الله عليه وسلم :

( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )

أمر أتى بعد نهي ماذا يفيد ؟

لو قلنا بالقول الأول : “يفيد الإباحة “

وإن قلنا بالقول الآخر  : ” الاستحباب “

“:ولذلك يقول العلماء المحققون :

إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم

( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) لا يدخل فيها النساء للأحاديث الأخرى الواردة .

وأخذنا الاستحباب لتتمة الحديث :

( فإنها تذكر الموت ) وفي رواية ( فإنها تذكر الآخرة )

( ومن الفوائد )

أن بعض العلماء أخذ منه :

” نجاسة الخمر”

لا شك أن نجاسة الخنزير ثابتة ، بينما أخذوا من هذا نجاسة الخمر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ” أمرهم بغسل هذه الأواني التي شربت فيها الخمور “

فقالوا : إنها نجسة .

بينما يرى علماء آخرون : مع أن الخمر محرمة إلا أنها طاهرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بها أن تهراق في الطرقات )

ولو كانت نجسة لما أمر بذلك ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال كما عند مسلم :

( اتقوا اللاعنين ، قيل وما اللاعنان ؟

 قال : الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم )

فلو كانت الخمر نجسة لما لوث الطرقات بها .

ولكن يقولون : إن سكبها في الطرقات إظهار لتحريمها .

ويجاب عن هذا / بأن إشاعة تحريمها تحصل بالإخبار باللسان وبسكبها في مكان شائع منحصر .

وأما قوله تعالى :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }المائدة90

فوصفها هنا بالرجسية ، المقصود ” النجاسة المعنوية ”

لأنها اقترنت بالميسر والأنصاب والأزلام .

لكنهم يقولون : إن قوله عز وجل:

{ فَاجْتَنِبُوهُ } شامل لكل أنواع الاجتناب .

وهذه الآية تصلح للقولين .

وبعض العلماء : زاد دليلا في تحريمها ، وهو الشنقيطي رحمه الله في كتابه ” أضواء البيان ” وهو قوله تعالى :

{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }الإنسان21

فوصف شراب أهل الجنة بأنه ” طهور ” ففهم من ذلك أن شراب أهل الدنيا ليس بطهور .

ولا يُسلَّم له رحمه الله ، لأن الأشربة منها الطاهرة في الدنيا ومنها غير ذلك .

ولا شك أن القول بنجاستها يجعل الناس في حرج ولاسيما في هذا الزمن ، ولاسيما النساء ، فإن العطورات يوضع فيها بعض الخمور ، فإذا قلنا بهذا فإن صلاة النساء غير صحيحة ، ويترتب على ذلك أن ربَّ البيت يدخل في الإثم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( لعن الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، وما حُملت إليه ، وبائعها ، ومبتاعها ) وهو قد أتى بها .

فالأقرب أنها طاهرة ، وهذا رأي الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله .

( ومن الفوائد )

أن ما لا يتيقن الحكم عليه يجوز استعماله عند الحاجة، مع الاحتياط في ذلك  ، فالنبي صلى الله عليه وسلم :

( نهى عن استعمالها ) ولكن مع الحاجة أباحها لهم بعد غسلها .

ولذلك قال بعض العلماء :

إذا لم يكن هناك دليل قاطع على تحريم الشيء فإنه لايُحرَّج على الناس عند الحاجة إليه .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد .