شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 35 حديث 38
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا )
متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم
( من الفوائد )
هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه .
و ( أبو هريرة ) كنية له ، وأما اسمه فقد اختلف فيه المؤرخون على ما يزيد على ثلاثين قولا ، وأشهرها وأقربها أن اسمه :
( عبد الرحمن )
( ومن الفوائد )
بيان شمولية الإسلام : وأنه ما ترك شيئا إلا بيَّنه ، لا فيما يتعلق بأحوال الإنسان في يقظته ولا في منامه .
وهذا يدل على أن هذا الدين قد كمل ، كما قال عز وجل :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }المائدة3 .
ولذا قال أبو ذر رضي الله عنه كما في المسند :
( ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يطير بجناحيه إلا ذكر لنا منه علما )
( ومن الفوائد )
أن من استيقظ من نومه فإنه مأمور قبل أن يدخل يده في الإناء مأمور : بأن يغسلها ، بمعنى أنه يصب من الماء الذي في الإناء على يديه .
وهذا النهي مختلف فيه بين أهل العلم ، أهل للتحريم أم للكراهة ؟
بعض العلماء يرى : أنه للكراهة .
لم ؟
قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن اليدين ” تغسلان ثلاثا ”
ولو كان المقصود أذى أو نجاسة تعلق باليد ، لكانت الغسلة الواحدة كافية .
ثم إنه عليه الصلاة والسلام قال :
( فإنه لا يدري أين باتت يده )
إذاً / هذا أمر مشكوك فيه ، فلا يصل إلى التحريم .
وقال بعض العلماء : أن النهي للتحريم ، فالواجب عليه أن يتقيد بما جاء في هذا الحديث ، لم ؟
لأن [ الأمر يقتضي الوجوب ، والنهي يقتضي التحريم ]
وهو عليه الصلاة والسلام لم يذكر أذى أو نجاسة حتى نقول ” إنه يكتفى بواحدة ، أو إنه مشكوك فيه “
فيكون الأمر بغسلها ثلاثا يكون أمراً إما خفيت حكمه – مع أن له حكمة – لكن قد تعجز عقول الناس عن الوصول إليها ، كما هو الشأن ” لماذا كانت صلاة الظهر أربعا والمغرب ثلاثا والعشاء أربعا والفجر ركعتين ” ؟ وهكذا .
وإما أن يكون ذكر هذه الثلاث معقولة المعنى ، بمعنى أن هذا من باب التأكيد على أهمية هذا الشيء المأمور به .
فإذا كان يؤمر بغسل يديه ثلاثا ، دل على أنه ما أمر بغسلها ثلاثا إلا لأهمية هذا المأمور ، فيقلب الاستدلال عليهم .
وهذا هو الصواب / أن الأمر يقتضي الوجوب ، وأن النهي يقتضي التحريم “
( ومن الفوائد )
هل هذا خاص بنوم الليل أم أنه شامل لنوم الليل ونوم النهار ؟
هذه المسألة مختلف فيها :
فمن نظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام :
( إذا استيقظ أحدكم من نومه )
( نوم ) مفرد أضيف إلى معرفة وهو ” الضمير ” فيدل على العموم .
إضافة إلى أنه لا فرق هذا نائم ، وهذا نائم ، فالنوم صفة لهما .
بينما يرى علماء آخرون :
أن هذا خاص بنوم الليل ، لم ؟
لأنه لما عمم فقال ( من نومه ) ذكر البيتوتة ( فإنه لا يدري أين باتت يده ؟ )
والبيتوتة : لا تكون إلا في الليل .
لكن أصحاب القول الأول أجابوا فقالوا :
إن هذا قيد للغالب ، فغالب حال الإنسان أنه ينام بالليل ، وليس في غالب أحواله أنه ينام في النهار ، فذكر البيتوتة لا يدل على أن نوم النهار خارج من هذا الحكم.
قال أصحاب القول الثاني :
جاءت رواية في السنن :
( إذا قام أحدكم من الليل )
فنص على الليل .
وهذا هو الأقرب ، أنه محصور بنوم الليل ، ويقويه إذا قلنا إن الحكمة من غسل اليدين بعد الاستيقاظ من النوم أن الحكمة من أجل عبث الشيطان بها كما سيأتي .
ومع هذا كله :فعلى المسلم أن يحرص على امتثال هذا الأمر ، حتى في نوم النهار .
لو قال قائل : لو سلمنا بأنه نوم الليل ونوم النهار ، أو أنه نوم الليل وحده ، أيدخل فيه أي نوم ؟
نقول : المقصود النوم الذي ينقض الوضوء ، وذلك بأن يستغرق الإنسان في منامه ، أما إذا كان غير مستغرق فلا يدخل ، الدليل : قوله :
( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ؟ )
فقوله : ( إنه لا يدري ) يدل على أنه نام نوما عميقا ولم ينم نوما يسيرا .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحكم شامل لكل المكلفين من ذكور وإناث ، لقوله ( إذا استيقظ أحدكم )
و ( أحد ) مفرد أضيف إلى ( الكاف ) وهو معرفة ، فيعم الجميع .
أما من كان غير مكلف يعني لم يبلغ سن التكليف فإنه غير داخل ، لكن كونه يُعلَّم هذا خير وبركة .
والشيطان يحرص على أن يكون قريبا من المكلفين لأن القلم يجري عليهم ، فهم محل العقاب والثواب ، بينما من لم يبلغ لا عقاب عليهم .
( ومن الفوائد )
أن قوله ( إذا استيقظ ) يشمل ما إذا استيقظ بنفسه أو أيقظه غيره ، والاستيقاظ متعدد ، قد يستيقظ للصلاة ، قد يستيقظ شبعا من النوم .
( ومن الفوائد )
أن قوله عليه الصلاة والسلام ( فلا يغمس ) نهي ، و [ النهي يقتضي التحريم ]
ولذا جاءت رواية أخرى ( فلا يغمسنَّ ) وهذه لفظة مؤكَّدة بنون التوكيد الثقيلة .
وجاءت رواية : ( فلا يدخل ) والمقصود الغمس ، لأن الإنسان قد يدخل يده في الإناء ولا تصل إلى الماء ، وذلك بأن يغترف من هذا الإناء بإناء صغير ثم يغسل كفيه ، أو أنه اغترف من أجل أمر آخر ، فمطلق الإدخال ليس مقصودا ، وإنما المقصود الإدخال الذي يحصل به غمس اليد .
( ومن الفوائد )
أن قوله ( فلا يغمس يده )
( يد ) مفرد أضيف إلى معرفة فيدل على العموم .
فلو قال قائل : إن الحديث نهى عن غمس يد واحدة ، فلو غسلت واحدة ألي الحق أن أدخل يدي الأخرى التي لم تغسل في الإناء ؟
الجواب / لا ، لم ؟
لأن كلمة ( يده ) تشمل اليدين .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : لو أن الإنسان غمس مرفقه ، أو ساعده في الإناء أيدخل في هذا الحكم ؟
الجواب / لا ، لأن اليد إ ذا أطلقت في النصوص الشرعية مما جاء في القرآن أو السنة ، فالمقصود باليد ” الكف ” إلا إذا قيدت كما في آية الوضوء ، قال تعالى :
{ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ }المائدة6 .
بينما إذا أطلقت فالمقصود الكف ، ولذلك قوله عز وجل :
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }المائدة38 .
ما الذي يقطع ؟ الكف .
( ومن الفوائد )
أنه لو غسل يدا واحدة زال الحكم عنها ، وبقي الحكم في اليد التي لم تغسل ، فلكل يد حكم خاص بها .
لو قال قائل : لو أنه لم يغسل كفه كلها ، لو أنه غسل أصبعا أو أصبعين أيجوز هذا ؟
الجواب / الحكم باقي ، للقاعدة الشرعية :
[ لا يتم امتثال المأمور إلا بفعله كله ، ولا يتم ترك المنهي عنه إلا باجتنابه كله ]
( ومن الفوائد )
أن ذكر الإناء قد يشعر بأن هذا الإناء إناء صغير لقوله ( فلا يدخل يده في الإناء )
ومن ثم فإن الأواني الكبيرة والحياض لا تدخل ضمن هذا “
هذا ما ذكره الصنعاني رحمه الله في السبل ، قال ” يخرج بذلك الأحواض الكبيرة “
والصواب / أنها لا تخرج ، لم ؟
لأمرين :
الأمر الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الإناء ) و ( أل ) من أدوات العموم، فتشمل كل إناء .
الأمر الثاني : أن ابن عمر رضي الله عنهما كما صح عنه ( لما سئل عن الحياض الكبيرة ؟ أنكر ، فقال ” يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( فلا يغمس يده في الإناء ) وأنت تقول الحياض الكبيرة “
فدل هذا على أن هذا عام ، فلا يقيد بإناء صغير .
( ومن الفوائد )
أن النبي صلى الله عليه وسلم نصَّ على الغسل ، فما سواه لا يكون كافياً ، فلو أخذ خرقة ومس بها يديه فلا يدخل ، اللهم إلا إذا سال الماء ، فإذا سال الماء فإنه يعد في حكم الغسل .
( ومن الفوائد )
أنه يجب الإتيان بثلاث غسلات ولا يقتصر على واحدة ولا على اثنتين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصَّ على الثلاث .
( ومن الفوائد )
أن علة النهي أنه :
( لا يدري أين باتت يده؟ )
فقوله عليه الصلاة والسلام : ( فإنه لا يدري أين باتت يده ؟ )
فيه رد على من قال ” إن الحكمة قد خفيت وأن النهي تعبدي ” بمعنى أنه شيء يتعبد به لله عز وجل ولم تظهر حكمته .
وليعلم أنه ما من شيء في الشرع إلا وقد أتى بالمصالح ونهى عن المفاسد ، وإذا كان كذلك فإنه اشتمل على حكمة ، ولكن هذه الحكمة قد تظهر لنا وقد تخفى ، فإن ظهرت فبها ، ولكن إن لم تظهر وخفيت على العلماء قالوا تعبدية ، يعني عليك أن تتعبد الله وأن تفعل هذا الفعل أو تترك هذا النهي ، وإلا فما من شيء في الشرع إلا وله حكمة لأنه من لدن حكيم عليم ، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }الإنسان30
دل على أن ما شاء من عباده إنما هو لحكمة .
( ومن الفوائد )
أن ظاهره يقتضي أنه لو أراد الوضوء أن يغسل كفيه ثلاثا لهذا الحديث ، ويغسل كفيه ثلاثا استحبابا للوضوء .
مثل ما مر معنا في الحديث السابق :
( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستثر ثلاثا ) في رواية عند البخاري : ( فتوضأ فليستنثر ثلاثا )
فدلت رواية البخاري على أن استنثار الوضوء كافٍ .
فإذا قلنا إن العلة ليست تعبدية وإنما هي معقولة المعنى فأصح ما قيل فيها هو قول شيخ الإسلام رحمه الله ، ولعل ذكر ابن حجر رحمه الله لهذا الحديث بعد الحديث السابق ، كأن فيه إشارة إلى أن الحديثين متلازمان .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
هذا بسبب قرب الشيطان من النائم ، ففي الحديث السابق ( فإن الشيطان يبيت على خيشومه ) فربما عبث الشيطان بيده وألقى فيها الأذى ، فيكون في ذلك ضرر على ابن آدم .
لو قال قائل : لو أن شخصا وضع كفيه في قفازين وأحكمهما إحكاما متقنا ، فلما استيقظ هو يعلم أن باتت يده ، أيجب عليه غسل كفيه أم لا ؟
قال بعض العلماء : لا يجب ، لأنه يدري أين باتت يده .
وقال بعض العلماء : يجب أن يغسل ، لما ذكرناه من علة ، وهو أن الشيطان يبيت على خيشومه ، والشيطان قادر على أن ينفذ ، لأنه إذا نفذ إلى جسم ابن آدم من الداخل كما جاء في الصحيحين :
( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )
قادر على أن ينفذ من هذا القفاز .
وهذا هو الصحيح
( ومن الفوائد )
أن ما ذُكر من علة تؤيد ما مضى :
وهو أن الشيطان يقرب من هذا النائم ، فيكون الحكم مخصوصا بنوم الليل، لأن الشيطان يقرب من ابن آدم في نوم الليل ، بدليل ما جاء في الصحيحين :
( يعقد الشيطان على رأس قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يقول عليك ليل طويل فارقد ، فإن قام فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقده )
( ومن الفوائد )
أن العلماء اختلفوا اختلافا كبيرا في ضابط النوم اليسير ، لأنه من المقرر أن اليسير لا ينقض الوضوء ، والنوم مختلف فيه ، هل ينقض أم لا ؟
الصحيح جمعا بين الأدلة : أن النوم اليسير لا ينقض الوضوء ، لكن ما هو ضابط النوم اليسير أهو من قائم ؟
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : إن ضابط النوم اليسير هو أن يدري ما يجري حوله ، يكون نائماً ويسمع أصواتاً ، لكنه لا يفقه ما يقال ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده )
فإذا درى فهو نوم يسير وإذا لم يدر فهو نوم كثير ينقض الوضوء .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث لم يذكر حكم الماء من حيث النجاسة ومن حيث الطهارة ، ومن ثم فإنه لو تعمد وغمس يديه قبل أن يغسلهما فإن الماء طهور على القول الراجح ، لم ؟
لأن العلة ليست النجاسة .
أما ما ذكره فقهاء الحنابلة في المشهور عنهم :
انه إذا غمس يده في الإناء بعد أن استيقظ من النوم أنه يسلب الماء الطهورية ، فينتقل من الطهور إلى الطاهر ، وقد قررنا أن الماء ينقسم إلى قسمين ” طهور ونجس ” وليس هناك قسم يسمى بالطاهر .
( ومن الفوائد )
أن بعض العلماء استشهد بهذا الحديث أن النجاسة إذا كان مشكوكا فيها أنها تغسل ثلاثا .
وليس لهم فيه دليل .