شرح كتاب ( بلوغ المرام )ـ الدرس 36 حديث 39
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” أسبغ الوضوء ، وخلِّل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )
أخرجه :
الأربعة ، وصححه ابن خزيمة ، ولأبي داود في رواية :
( إذا توضأت فمضمض )
( من الفوائد )
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإسباغ ، وهل هذا الأمر يقتضي الوجوب أو يقتضي الاستحباب ؟
فنقول : إن الإسباغ لفظ مشترك ، فإن كان الإسباغ لأعضاء الوضوء بحيث يعممها ، فهذا إسباغ واجب .
فإن كان من النوع الثاني : وهو ” تثليث الأعضاء ” فيكون الإسباغ مستحباً .
فإن كان وهو النوع الثالث : إذا كان التثليث واقعا وحصل معه الدلك للأعضاء ، فإنه يكون فاضلاً .
فتحصل من هذا : أن الإسباغ ثلاثة أنواع ، إما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحباً وإما أن يكون فاضلاً .
ومن ثم فإن الأمر يكون واجبا في النوع الأول ، ويكون مستحبا ومسنونا في النوعين الأخريين .
( ومن الفوائد )
بيان فضيلة الإسباغ ، ولاسيما إذا حصل حرج ومشقة على المسلم ، ولذلك بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن مما يرفع الله عز وجل به درجات العبد ” إسباغ الوضوء على المكاره ” ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟
قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ” )
( ومن الفوائد )
أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتخليل الأصابع ، والأمر هنا هل يقتضي الوجوب أم يقتضي الاستحباب ؟
الجواب عن هذا / أنه يقتضي الاستحباب.
وما الذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب ؟
الذي صرفه : أن الماء سيَّال بطبعه فيصل إلى هذه المواطن الخفية ، فكان التخليل من باب الاستيثاق والاطمئنان .
لو قال قائل : هو أمر بتخليل الأصابع ، أي أصابع ؟
هي أصابع اليدين وأصابع الرجلين ، لما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد ، وحسنه البخاري رحمه الله ، قال صلى الله عليه وسلم :
(إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك )
فيكون التخليل مستحباً لأصابع اليدين
لو قال قائل : بأي يدٍّ يكون هذا التخليل باليسرى أم باليمنى ؟
قيل باليسرى قياساً على الاستنجاء ، لأن هذا إزالة أذى ، وهذا من باب القياس وإلا فلا دليل ينص على تحديد اليسار .
فإذا قال قائل : خللت الأصابع بيدي اليسرى فبأي أصبع يكون التخليل ؟
يكون بالخنصر ، والخنصر هو : الأصبع الصغير في أول اليد .
لما ورد في حديث المستورد في سنن أبي داود :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابع قدمه بخنصره )
( ومن الفوائد )
أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالمبالغة في الاستنشاق ، فهل هذا الأمر للوجوب أم للاستحباب ؟
ظاهر قوله ( وبالغ ) أنه للوجوب .
ولكن هذا الظاهر معدول عنه ، فتكون المبالغة في الاستنشاق مستحبة .
ما الذي صرفها عن هذا الوجوب ؟
الذي صرفها : أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الصائم ، ولو كانت المبالغة واجبة لأمر الصائم بها وقيل له تحرز من أن يدخل جوفك شيء من الماء، فلما نهي الصائم عنها ، دل على أن المبالغة في الاستنشاق ليست واجبة .
والمبالغة في الاستنشاق : أن يجذب الماء بنَفَسِه إلى أقصى أنفه ، وذلك لزيل ما يعلق في أنفه من الأذى ، وهذا من باب المبالغة في التطهر ، فيكون المسلم حال لقائه بربه عز وجل في هذه الصلاة ، يكون على أحسن حال .
وهذا يدل على عظم هذه الشريعة وأنها أمرت المسلم بأن يكون على أحسن حال في ظاهره وفي باطنه ، كما أنه مأمور من قِبل الشرع أن يكون نظيف الباطن ، كذلك هو مأمور بأن يكون نظيف الظاهر ، والنصوص في الحث على الاعتناء بالمظهر كثيرة ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
( يكره أن توجد منه الريح الخبيثة )
و :
( كان يعرف بطيب العود إذا أقبل )
عليه الصلاة والسلام ، نصوص كثيرة تدل على اعتناء الإسلام بهذا الأمر .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل :
المبالغة في المضمضة مستحبة أم لا ؟
الجواب عن هذا / أن كثيرا من العلماء مما اطلعت عليه يرون أنها مستحبة ، قياسا على الاستنشاق ، وهذا القياس في محله ، وقد وجدت حديثا ذكره ابن حجر رحمه الله في تلخيص الحبير وقال ” صححه ابن القطان ” قال :
( وبالغ في الاستنشاق والمضمضة )
فجاء ذكر المضمضة .
والمبالغة في المضمضة : أن يدير الماء في فمه ، فيحرك الماء تحريكا كثيرا في فمه حتى يزيل ما يعلق بأسنانه .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث استدل به شيخ الإسلام رحمه الله على أن ” الأنف مدخل للطعام” كما هو شأن الفم ، ولذلك نهي الصائم عن المبالغة في الاستنشاق ، لأنه لو بالغ ربما أفضت به هذه المبالغة الى أن يدخل الماء أو شيء من الماء في جوفه ، ولذا لو أنه قطَّر قطرة في أنفه وهو صائم فوصلت إلى جوفه فسد صومه ، لكن لو قطَّر في عينه أو قطَّر في أذنه وأحس بطعمها في حلقه فلا تؤثر ، لم ؟
لأن الأنف مدخل من مداخل الطعام ، بخلاف العين وبخلاف الأذن .
( ومن الفوائد )
أن قوله ( إذا توضأت فمضمض ) فيه دليل لمن قال بوجوب المضمضة في الوضوء ، لأن المسألة فيها خلاف ، وهذا الخلاف قد مر معنا بيانه في السنن ، لكن الأمر هنا :
( إذا توضأت فمضمض )
يدل على أن المضمضة واجبة في الوضوء ، بخلاف ما ذهب إليه بعض العلماء من أنها مستحبة ، لم ؟
لأن ( الأعرابي لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عن الوضوء ؟ قال توضأ كما أمرك الله )
والذي أمر الله عز وجل به في سورة المائدة ما ذكر فيه المضمضة والاستنشاق .
فيقال : إن المضمضة والاستنشاق داخلتان ضمن الوجه ، لأن الفم والأنف من الوجه.
ومما يدل على أنهما من الوجه الظاهر : أنه لو استنشق أو تمضمض ما فسد صومه ، فلا يمكن أن نخر ج الفم والأنف ، فماذا نقول في الأنف والفم أهما من الداخل أم من الظاهر ؟
إن قلنا من الداخل يرد هذا أن الصائم لا يفسد صومه بالمضمضة ولا بالاستنشاق .
إذاً / لزمنا أن نقول : هي من الظاهر فيجب في مثل هذا الأمر المضمضة والاستنشاق ، ودليل الوجوب هذا الحديث في المضمضة .
ودليل الوجوب في الاستنشاق : قوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً )
ويؤكد هذا : أنه عليه الصلاة والسلام ما ترك المضمضة والاستنشاق مطلقا .
( ومن الفوائد )
أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالمضمضة ، فدل على أن هذا الواجب يصدق بأقل ما يكون من وصف المضمضة .
والواجب في المضمضة : أن يدير الماء في فمه أدنى إدارة ، لو حرك الماء في فمه حركة يسيرة اكتفي بذلك ، هذا إذا كان الماء قليلا .
إما إذا كان الماء كثيرا : فإن الإدارة لا معنى لها ، لأن الفم إذا امتلأ بالماء كأنه أدار الماء في فمه .
( ومن الفوائد )
أن قول ابن حجر رحمه الله : ( أخرجه الأربعة )
يقصد منهم أصحاب السنن ، وهم ” أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه “
وإذا قال ( الثلاثة ) فالمراد هؤلاء ما عدا ابن ماجه .
وإذا قال ( الخمسة ) فالمراد هؤلاء الأربعة مع الإمام أحمد .