شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 53 حديث 61
( باب المسح على الخفين )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن صفوان بن عسَّال رضي الله عنه – قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفْرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن ، إلا من جنابة ، ولكن من غائط وبول ونوم ” )
أخرجه : النسائي والترمذي ، واللفظ له ، وابن خزيمة وصححاه .
( من الفوائد )
نقل الترمذي رحمه الله عن شيخه ” البخاري ” فالبخاري محمد بن إسماعيل رحمه الله ، شيخ للترمذي ، قال الترمذي عن شيخه في هذا الحديث أنه قال ” إن حديث صفوان أصح حديث في توقيت المسح على الخفين “
( من الفوائد )
” بيان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته ما ينفعهم وما يحتاجون إليه “
( من الفوائد )
” أن العالم يحرص على أن يفيد الناس حسب ما يحتاجون إليه “
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى طريقة المسح على الخفين ، لأنهم بحاجة إلى ذلك ، ومن ثم فليراع العالم والداعية حال الناس وما يحتاجون إليه من علم .
( من الفوائد )
أن الأمر منه – عليه الصلاة والسلام – هنا أمر للإباحة والرخصة ، وسبق معنا متى يجب المسح على الخفين ، وذلك فيما لو ” ترتب على عدم المسح أن يفوت عليه واجبا “
( من الفوائد )
أن في هذا الحديث دليلا لشيخ الإسلام رحمه الله : أن الخف الذي به شقوق أو خروق يجوز المسح عليه ” ما وجه الدلالة هنا ؟
وجه الدلالة هنا : إضافة إلى إطلاق المسح على الخف ، أنهم كانوا يمشون على خفافهم ، ومعلوم أن المشي على الخفاف وهم في سفر ، والسفر يتطلب المشي الطويل ، سيؤثر هذا المشي لا محالة في خفافهم ، ولذا يرى شيخ الإسلام ما هو أعظم من هذا ، فيقول رحمه الله :
” إن القدم لو لُفَّت عليها خرق ، فيجوز المسح عليها ، بل هي أولى ” لم ؟
لأن هذا بحاجة إلى المسح على هذه الخرق ، لعدم وجود خف عنده ، لأننا إذا منعناه من أن يمسح على هذه الخرق ، كان في ذلك عُسْر ومشقة عليه .
( ومن الفوائد )
” بيان عظم الإسلام وأنه يعطي كل حالة ما يناسبها “
فحال السفر يختلف عن حال الحضر ، ولذا في السفر لما فيه من المشقة أباح الشرع أن يمسح الخف ” ثلاثة أيام بلياليهن ” بينما المقيم لأن المشقة عليه أقل من المسافر يمسح ” يوما وليلة “
ومما يدل على أن السفر مشقة : قوله صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري ومسلم :
( السفر قطعة من العذاب )
( ومن الفوائد )
أن قوله : ( إذا كنا سفْرا ) يعني مسافرين .
وسمي السفر بهذا الاسم لأمرين :
الأمر الأول : أن الإنسان إذا خرج من بلدته برز وظهر فلم يحط به بنيان ولا بيت ، فيكون بذلك بارزا وظاهرا .
الأمر الثاني : أن السفر يسفر ويظهر حقائق الرجال ، ولذلك لا يعلم الشخص بما فيه من صفات حسنة أو غير حسنة إلا بالسفر .
ولذا لما أتى رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يزكي رجلا ، قال له عمر رضي الله عنه : أجاورته ؟ قال : لا .
قال : أعاملته بالدرهم والدينار ؟ قال : لا
قال : أسافرت معه ؟ قال : لا .
قال : إذاً لا تعرفه )
( ومن الفوائد )
” أن المسافر له أن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن “
يعني له أن يمسح ” اثنتين وسبعين ساعة ” لأن اليوم : أربع وعشرون ساعة “
متى يبدأ المسح ؟
خلاف بين العلماء ، قال بعض العلماء :
إن المسح يكون من الحدث .
وقال بعض العلماء : إنه يبدأ من اللبس .
والصحيح : أنه يبدأ من أول مسح بعد الحدث .
فمن قال إنه يبتدئ من اللبس ، قال : لأن هذا الزمن هو ابتداء لستر القدم ، فالزمن يتعلق بستر القدم ، ولذا لما سترت مسحت ، فقبل أن تستر لا تمسح ، فبمجرد ستره للقدم تبدأ المدة .
ومن قال : إنه يبتدئ من الحدث – وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله – لم ؟
قالوا : لأن الحدث سبب للوضوء ، فإذا كان سببا فإنه يبتدئ منه .
وهذه علة كثرت عند الحنابلة ” يعلقون الحكم على السبب “
وله نظائر : متى يجوز السفر يوم الجمعة ؟ يجوز قبل أن تلزمه ، متى تلزمه ؟
قالوا : من الزوال ، لأن الزوال سبب لدخول الخطيب .
والصحيح : أن الحكم على ما جاء في الآية :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ }الجمعة9
فبمجرد المناداة سواء قبل الزوال أو بعد الزوال يكون اللزوم .
وكذلك في مسألة ” تأبير النخل ” النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( من ابتاع نخلا قد أُبِّر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع )
الحكم عُلِّق هنا على التلقيح ، بينما المذهب يقولون ” من ظهور الثمرة ولو لم تلقح ” لأن ظهورها سبب للتلقيح .
وكما أسلفت لكم : أن الحكم يتعلق بالدليل لا بالسبب .
القول الثالث : أن المدة تبدأ من أول مسح بعد الحدث “
مثال : على هذه الأقوال الثلاثة :
لبستُ الخف الساعة ” الخامسة فجراً ” فأحدثت الساعة ” التاسعة صباحا ” فتوضأت لصلاة الظهر الساعة ” الثانية عشرة “
على القول الأول : تبتدئ المدة من الساعة ” الخامسة فجرا “
وعلى القول الثاني ” تبتدئ المدة من الساعة ” التاسعة صباحا “
وعلى القول الصحيح ” تبتدئ المدة من الساعة الثانية عشرة “
والدليل على القول الصحيح : أن الأحاديث أتت بتعليق الحكم على المسح :
( أن نمسح ) ( يمسح المسافر ) ( يمسح المقيم )
فعلقت الأحاديث الحكم بالمسح ، لكن مسح بعد حدث .
مثال : لو أني لبست الخف الساعة الخامسة فجرا ، فلما جاءت الساعة الثانية عشرة قلت أريد أن أتوضأ وضوء تجديد ، فتوضأت لصلاة الظهر ، فلما جاء العصر الساعة ” الثالثة ” أحدثت فتوضأت ، تبتدئ المدة من ” الساعة الثالثة ” لم ؟
لأن المسح الذي صدر مني في الساعة ” الثانية عشرة ظهرا ” ليس مسحا عن حدث .
( ومن الفوائد )
” أن في هذا الحديث ردا على من قال من العلماء إنَّ المدة للمسح على الخفين لا تحدد “
فله أن يسمح ما شاء من غير تحديد بيوم وليلة للمقيم ، ولا بثلاثة أيام بلياليهن للمسافر “
فهذا الحديث يرد عليه ، لأنه وقَّت للمسافر هذه المدة .
وهناك رأي لشيخ الإسلام رحمه الله :
” أن المسلم متى ما اضطر إلى المسح على الخفين أكثر من المدة المشروعة ، أو شقَّ عليه الخلع مشقة كبرى وليس ثمَّت ضرورة ولكنها مشقة عظمى ، فإن له أن يمسح حتى تزول ضرورته ومشقته “
ولعل هذا يتحدث عنه – إن شاء الله تعالى – عند حديث علي – رضي الله عنه – الآتي عند مسلم .
فخلاصة القول : أن المسألة فيما يخص المدة في المسح على الخفين :
قول من يقول ” لا تحديد لمدة “
وهناك من يقول ” إنها محددة ، ولكن متى ما اضطر أو وقع له مشقة عظمى فله أن يمسح دون تحديد حتى تزول مشقته وضرورته “
وهناك قول – وهو قول الجمهور – أن المدة محددة للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن “
( ومن الفوائد )
” أن المسح على الخفين لا يكون إلا في الحدث الأصغر أما في الحدث الأكبر فلا “
كيف ؟
لو أن الإنسان أجنب – باحتلام أو بجماع – وكان الخف عليه فقال أغسل جميع بدني وإذا أتيت إلى الخفين مسحت عليهما “
نقول ” لا يصح ” لم ؟
لهذا الحديث ، قال :
( إلا من جنابة ) وقرر ذلك وأكَّده بذكر ما يخص الحدث الأصغر ( لكن من غائط وبول ونوم )
فمن شروط صحة المسح على الخفين ” أن يكون في الحدث الأصغر “
وبالتالي فإنه أذا أجنب وعليه الخف يلزمه إذا اغتسل أن ينزع الخف وأن يغسل القدمين كما يغسل جميع بدنه .
( ومن الفوائد )
” أن جملة ( ولكن من غائط وبول ونوم ) مقدر فيها جملة تتناسب مع أول الحديث ” إلا من جنابة ولكن لا ننزعهن من غائط ونوم وبول )
( ومن الفوائد )
” أن أسباب الحدث الأصغر متنوعة “
ذكر هنا ( الغائط والبول والنوم )
وبالتالي إن اجتمعت كل الأسباب فنوى أن يرفع سببا واحدا ارتفع الجميع ، لو أنه ” خرجت منه ريح ، وتبوَّل وتغوَّط ونام ، ثم لما أراد أن يتوضأ كان نية وضوئه من أجل النوم ، فهل يرتفع حدثه ويصح وضوؤه ؟
نعم ، والأسباب الأخرى تدخل ضمناً .
ولذلك لو أنه نوى ألا يرفع إلا سببا واحدا ارتفع الجميع ، لم ؟
لأن الحدث لا يتكرر بتكرر الأسباب ، لو اجتمع البول والغائط والريح والنوم هل نقول هذا محدث أربع مرات باعتبار السبب ؟
لا
وإنما نقول هو محدث ، فأهم شيء أن يُرفع سبب من هذه الأسباب بغسل أعضاء الوضوء .
( ومن الفوائد )
” أن الغائط هو ما يخرج من دبر الإنسان “
لكن من حيث الأصل اللغوي هو ” المكان المنخفض الواسع من الأرض ” فالمكان الواسع المنخفض من الأرض يسمى ” غائطا ” لأن الإنسان يستتر به إذا قضى حاجته ، لكنه نقل هذا الاسم إلى ما يخرج من الإنسان ، وهذا ما يسمى في البلاغة : [ بالتعبير عن الحال بالمحل ]
( ومن الفوائد )
” أن الغائط سبب للحدث “
بمعنى أن من خرج منه غائط فإنه ينتقض وضوؤه هنا مسألة معاصرة :
لو أن الإنسان – عافانا الله وإياكم من كل بلاء ، وشفى الله مرضى المسلمين – انسد مخرجه ، فأجريت له عملية من بطنه يخرج من خلال هذه الفتحة الغائط أو يخرج منها البول ” فهل ينتقض وضوؤه إذا خرج منه أم لا ؟
ينتقض وضوؤه ، لم ؟
لخروج هذا الناقض الذي هو الغائط أو الذي هو البول ، لأن الشرع أطلق .
لو قال قائل : لو أن الغائط خرج من ذكره ؟
الجواب / الحكم هو هو ، ينقض وضوؤه .
( ومن الفوائد )
” أن في هذا دليلا لمن قال بأن النوم ينقض الوضوء كثر أم قلَّ “
لأنه قال هنا ( نوم ) وهذا يشمل أي نوم ، لم يقل نوما قليلا ، ولم يقل نوما كثيرا ، فهذا دليل لمن قال إن النوم ولو قلَّ ينقض الوضوء .
والصحيح جمعا بين الأدلة / أن النوم ناقض للوضوء إلا إذا قلَّ ، فإن كان قليلا فإنه لا يؤثر على الوضوء ، ما ضابط النوم القليل ؟
هل هو الذي ينام وهو قائم ؟ أو الذي ينام وهو متربع قد تمكن من مقعدته ؟ أو أنه هو الذي لم يستغرق فيه النوم فيذهب شعوره كله ؟
الصواب / أنه هو الذي لا يذهب شعوره كله ، بعض الناس يستغرق في النوم ، لكنه لا يعرف حقيقة ما يقوله من حوله ، هو يسمع أصواتا ، لكن لو تقول له أفهمت ما يقولون ؟
قال : لا ، لكني أسمع أن هناك ضوضاء أو أصواتا تصدر من حولي ، فهذا هو النوم اليسير .
فإن قال : لا أسمع شيئا ، لا صوتا ولا أفهم شيئا ، فهذا قد استغرق في نومه .
والدليل : قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده )
( ومن الفوائد )
قال ابن القيم رحمه الله – في زاد المعاد – قال : إن النوم له فائدتان :
الفائدة الأولى : ” أنه يقطع الإنسان عن الأشغال والمتاعب التي أرهقته ” ولذا قال عز وجل :
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً }النبأ9 ، يعني قاطعا لكم عما أشغلكم وأزعجكم ، ففيه راحة ، ولذلك الناس اضطربت أبدانهم وأحوالهم وصحتهم لما قلبوا ما فطر الله عز وجل عليه الخليقة ، من الاشتغال بالليل والنوم بالنهار ، فلما خالفوا سنة الله عز وجل الكونية اختلفت عليهم أحوالهم وصحتهم وأبدانهم ، بل ثبت في الطب أنهم يقولون : إن هناك خلايا في الجسم لا يمكن أن تعمل عملها إلا إذا نام الإنسان بالليل .
الفائدة الثانية : ” إنه يهضم الطعام ”
وانظروا إلى علم السلف – رحمهم الله – لما قربوا من الله عز وجل فتح الله عز وجل عليهم أبواب المعرفة ، يقول رحمه الله إن في الجسد حرارة فإذا كان الإنسان مستيقظا تفرقت في جسمه ، فإذا نام غارت الحرارة في أعماق معدته ، فتنضج هذه الحرارة ما كان في معدته من طعام ، ولذا إذا نام الإنسان احتاج إلى مزيد لحاف ، لم ؟
لأن الحرارة لم تصعد وإنما نزلت ، فيحتاج جسمه إلى أن يلتحف “
وقد ذكر رحمه الله في ” زاد المعاد ” مسائل متعددة عن النوم ، عن أنواعه ، وأوقاته ، وأحوال الإنسان في النوم على يمينه ، على يساره، على ظهره ، على بطنه ، ما أنفع النوم ؟ وما أردى النوم ؟ بعد الظهر ، بعد الصبح ، بالليل ، كل هذه مسائل ذكرها رحمه الله .
( ومن الفوائد )
أن النوم دليل على عجز ابن آدم
فهو محتاج إلى الراحة ، ولذا هو جل وعلا ُ { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ البقرة255 ، لكمال حياته ولكمال قيوميته سبحانه وتعالى .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .