شرح كتاب ( بلوغ المرام )الدرس 76 حديث 88
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وعنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء )
متفق عليه .
( من الفوائد )
في نسخة ( وعن أنس ) وهنا ( وعنه ) والضمير يعود إلى ” أنس رضي الله عنه ، الذي تكرر اسمه مرتين ، وهذه هي المرة الثالثة ، وأما على نسخة ( وعن أنس ) فإن الاسم أظهر ولم يضمر لأن الفاصل قد طال ، فلما طال الفاصل كان من المناسب أن يذكر الاسم صراحة .
( ومن الفوائد )
بيان فضل أنس رضي الله عنه إذ خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، وهذه تعد منقبة ، لأن من خدم النبي صلى الله عليه وسلم فقد خدم دين الله ، ولذا أتت به أمه أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعرضت عليه أن يكون خادماً له ، فنال أنس رضي الله عنه بهذه الخدمة شرفاً عظيماً ، ويكفيه أن أمه أم سليم رضي الله عنه قالت :
( يا رسول الله خادمك أنس هلّا دعوت له ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له بأن يكثر الله ماله وولده وأن يطيل في عمره )
وخدَّام نبي الله صلى الله عليه وسلم كثر ، ولكلٍ مهنة معينة ، ولذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يتولى ” سواك النبي صلى الله عليه وسلم “
وهذه الخدمة من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم يستفاد من ذلك أن خدمة الصغير لمن هو كبير في العلم أو في الشأن ، أن هذه الخدمة لها أصل في الشرع ولا تحط من مرتبة الخادم ، ولذا كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون إلى خدمته عليه الصلاة والسلام .
( ومن الفوائد )
أن ( الإداوة ) إناء مصنوع من الجلد ، وإذا كانت مصنوعة من جلد فإن الجلد في الغالب يغير لون وطعم ورائحة الماء ، فدل هذا على أن الماء متى ما خالطه شيء طاهر فلم يخرج هذا الماء عن مسماه فإنه يكون طهورا ويرفع الحدث .
ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله : إن الماء ينقسم إلى قسمين
[ طهور ونجس ] وليس هناك قسم ثالث يسمى بالطاهر .
( ومن الفوائد )
بيان تلك الحال التي كان يعيشها عليه الصلاة والسلام ، فكانت آنيته من الجلد ، وكان أثاثه لا يذكر ، وكان فراشه محشوا بالليف ، مما لا يوصف من قلة العيش ، ومع ذلك هو أسرع الناس طاعة لله عز وجل .
( ومن الفوائد )
أن هذه الإداوة ظرف ، والمظروف الذي فيها ” الماء ” قال :
( إداوة من ماء ) فتكون ( من ) هنا بيانية لبيان ما في هذا الوعاء من سائل .
(ومن الفوائد )
أن اتخاذ أكثر من خادم لا إشكال فيه ، بل إن اشتراك أكثر من خادم أو خادمين في مهنة واحدة جائز ، ولذلك أنس رضي الله عنه كان يحمل هو وغلام إداوة من ماء .
( ومن الفوائد )
أن هذا الغلام اختلف فيه ، قيل إنه ” ابن مسعود رضي الله عنه ” وقيل غيره .
ولكن المشكل أن ابن مسعود رضي الله عنه أكبر بكثير من أنس رضي الله عنه .
وبالتالي قال بعض العلماء إنه ليس ابن مسعود .
ومن قال إنه ابن مسعود قال إنه نحو أنس من حيث الخدمة ، لا من حيث السن ، ويشكل عليه أنه قال ( غلام )
ويمكن أن يرفع هذا الإشكال / من أن من اكتملت قواه ولم يتأثر بالكبر يطلق عليه أنه غلام ، ولذا في حديث الإسراء والمعراج :
( لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام فتجاوزه بكى موسى عليه السلام ، فقيل ما يبكيك ؟
قال : هذا الغلام بعث بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر من أمتي )
لم وصفه بأنه غلام ؟ لأنه اكتملت قواه صلى الله عليه وسلم .
ولذا في حديث الهجرة لما كان سائرا عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر وهو أسن وأكبر من أبي بكر ، ومع ذلك كان من يمر بهم يطلقون على أبي بكر أنه شيخ ، والنبي صلى الله عليه وسلم يطلقون عليه شاب ، فيقولون ” من هذا الشاب الذي معك يا أبا بكر ؟ “
( ومن الفوائد )
أن إعداد ما يلزم للطهارة من ماء أو سواك أو تراب للتيمم فإنه مما جاءت به السنة ، لما فعله أنس من إعداد الماء وتحضيره للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل ثبت أنه كان صلى الله عليه وسلم يُعد له الماء والسواك عند رأسه ، فإذا قام من الليل استاك وتوضأ صلى الله عليه وسلم .
( ومن الفوائد )
أن ( العَنَزة ) عصا تشبه الرمح في طرفها حديدة ، فالماء يحمل للطهارة ، لكن حمل العنزة ما سببه ؟
أولا / إما أنه كان يستتر بها صلى الله عليه وسلم ، فكان يضع ثوبه عليها لتستره .
ثانيا / أو أنه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من حاجه فاستنجى وتوضأ صلى فكانت العنزة سترة له أثناء الصلاة – وهذا هو الأقرب .
وتأتي مسألة السترة في الصلاة ، فيها أقوال ثلاثة – ستأتي معنا إن شاء الله – لكن الأقرب أنها سنة وليست بواجبة .
( ومن الفوائد )
أن النبي صلى الله عليه وسلم يستنجي بالماء لإزالة الأذى ، والاستنجاء بالماء يلزم منه في ذلك الزمن أن يلامس النجاسة بيده – أما في هذا العصر فقد وجدت ما يسمى بالشطافات قد تغني – لكن الاستنجاء يلزم منه أن يلامس النجاسة لإزالتها ، وبالتالي كما قال ابن حجر رحمه الله :
” لا يجوز لمسلم أن يلامس النجاسة بيده لا بيده اليمنى ولا بيده اليسرى إلا في حالة إزالتها منه ، فتكون الإزالة باليد اليسرى بوجود الماء الذي يخفف من وصول النجاسة إلى يده .
فلو قال إنسان : إن اليد اليسرى ممتهنة ، فأراد أن يلامس النجاسة بيده اليسرى من غير حاجة ، فنقول لا يجوز .
( ومن الفوائد )
أن التطهر من الخارج له ثلاث حالات ، وتكون هذه الحالات على النحو التالي من حيث الأولوية :
الحالة الأولى – وهي الأكمل :
أن يزيل النجاسة منه بالاستجمار بحجر أو منديل ثم إذا خفف النجاسة أزالها بالماء ، فيجمع بين الاستجمار والاستنجاء ، فهذه أكمل الحالات .
ما دليلها ؟
أنها أبلغ من حيث المعنى في إزالة النجاسة ، وقد جاء حديث عند البزار في سبب نزول قوله تعالى :
{ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }
سئل أهل قباء عن ذلك ؟
قالوا : كنا نتبع الحجارة الماء )
لكن هذا السند ضعيف .
فدليل هذه الحالة : أنها أكمل وأبلغ من حيث المعنى .
الحالة الثاني – والتي تليها في الفضل /
أن يزال الخارج من الإنسان بالاستنجاء بالماء .
ودليلها / صنيعه عليه السلام والسلام كما هنا ، وكصنيع أهل قباء ، فالصحيح في قوله تعالى :
{ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }
أن أهل قباء لما سئلوا : لماذا أثنى الله عليكم ؟
قالوا : كنا نستنجي بالماء ) أخرجه أبو داود .
ومن ثمَّ فإن فعله صلى الله عليه وسلم هنا في الاستنجاء بالماء فيه ردٌّ على من كره الاستنجاء بالماء ، لم ؟
قالوا : لأن النجاسة تعلق رائحتها باليد ، وقد ورد هذا عن بعض الصحابة ، لكن الصواب أن الاستنجاء بالماء وارد .
ولذا من السنة أن الإنسان إذا أزال الأذى من يده أن يدلكها بالتراب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم :
( إذا أزال منه الأذى ضرب بيده التراب )
ونحن في هذا الزمن لا نحتاج إلى التراب ، فهناك المنظفات المستحدثة ، وبالتالي فإنك لو خرجت من بيت الخلاء وقد قضيت حاجتك ولامست النجاسة فالسنة وتثاب على ذلك أن تنظف يدك بصابون أو شامبو أو نحو ذلك ، والناس يفعلون ذلك ، لكن لا يدرى أنها سنة ، ولذا عليه أن يستحضر هذا الأمر حتى يثاب .
الحالة الثالثة – وهي أقل في الدرجة /
أن يكتفي بالاستجمار حتى ولو كان الماء موجودا ، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في المسند وغيره :
( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه )
لو أن هناك أناساً ذهبوا إلى الصحراء ومعهم ماء وكلٌ أراد أن يقضي حاجته فلهم أن يستجمروا بالحجارة ولو مع وجود الماء ، بل لو كان هذا الماء كثيرا ، بل لو كانوا قائمين على نهر ، فلهم أن يقتصروا على الاستجمار ، لكن الأفضل الماء
( ومن الفوائد )
أن علامة التطهر بالاستنجاء :
[ أن تعود خشونة المحل ]
وأما علامة التطهر بالاستجمار :
[ أن يبقى أثر لا يمكن أن يزيله إلا الماء ]
أو / وهو الأضبط :
[ أن يعود إليك الحجر غير مبلول ]
( ومن الفوائد )
بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم ، ولهم السبق في الفضل على هذه الأمة إذ نقلوا لنا ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم ، فيجب أن يُعرف قدرهم وأن ترفع منزلتهم وأن يترضى عليهم
( ومن الفوائد )
” بيان كمال الشريعة ، وأنها ما تركت شيئاً إلا وضحته “
ولذلك عند مسلم :
( قال رجل لسلمان رضي الله عنه : إن رسولكم علمَّكم كل شيء
قال : نعم ، علمنا حتى الخِراءة )
يعني كيف نستجمر .
وقال أبو ذر رضي الله عنه :
( ما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم منه علماً )
وهذا مصداق قوله تعالى :
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ }المائدة3
وإذا كان كذلك فإن على المسلم في مثل هذه النصوص إذا مرَّت به أن يعرف فضل الله عز وجل عليه إذ جعله من هذه الأمة ، ولم يجعله من الأمم السابقة ، ومر معنا في السنن :
( أن اليهود إذا أصابت النجاسة ثوب أحدكم فإنه لا يجوز أن يغسله بل يقطع هذا الثوب )
وهذا من الآصار والعنت الذي بهم .
ولذا من يقرأ هذه النصوص فعليه أولا : أن يحمد الله عز وجل أن جعله من هذه الأمة ولم يجعله من الأمم السابقة ، ولذا قال تعالى :
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }آل عمران110 ، وعند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية :
( إنكم تتمون سبعين أمة أنتم أبرها عند الله )
ثانيا / أن تحرص على هذه الملة ، لأنها كاملة ، والكامل يحرص عليه ، فإذا علمت بكمال الشيء حرصت عليه ، فهنا يحرص المسلم على هذا الدين وأن يعض عليه بالنواجذ ، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث العرباض بن سارية :
( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ )
ثالثا : أن يعلم أنه ما من شيء يخص الدين أو يخص الدنيا إلا وللإسلام فيه حكم ، ولذلك قال العلماء :
وإذا كان الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان فإنه لا حاجة إلى أن يميع الإسلام ، فلا نأتي وإذا رأينا الناس استباحوا شيئا فنقول جائز ، لم ؟ لأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان – هذا خطأ – الإسلام صالح لكل زمان ومكان بحيث لا يميع ، لأن الإسلام حاكم على أفعال الناس ، لا أن أفعال الناس حاكمة عليه ، ولذلك يخطئ بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي فينساق مع ما يطلبه الآخرون ، هذا ليس بصحيح .