شرح كتاب ( بلوغ المرام )حديث 98
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
{ مَنْ أَتَى اَلْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ }
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
( من الفوائد )
أن الشرع أمر بالتستر حال قضاء الحاجة “
والاستتار هنا أمر صيغته ” الفعل المضارع مع لام الأمر “
لأن صيغ الأمر أربع صيغ
هذا الأمر هل هو للوجوب أم للاستحباب ؟
الجواب /
يقتضي الوجوب إذا ترتب على عدم التستر ظهور للعورة ويقتضي الاستحباب إذا لم تظهر العورة .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( مَنْ ) اسم شرط ” وأسماء الشرط تفيد العموم “
فيكون هذا الخطاب موجهاً لكل من له عورة يسوؤه النظر إليها ، لأن عورات الناس تختلف من حيث الحكم الشرعي ، ولذا قال الفقهاء ” إن من دون سبع سنين لا حكم لعورته “
وذك لأنه لم يبلغ سن التمييز ، ولا يشتهى ولا يحرص على عورته ، ولا شك أن ما قالوا حق ، لكن إن تغير الزمان وضعفت النفوس وأصبح بعض الناس تشرئب نفسه إلى رؤية العورات ولو لمن دون سبع سنين فإن الحكم يختلف ، أو من عورته دون سبع سنين تكون جذابة كعورة الكبير ، لأن البشر يختلفون حتى فيما يخص النساء ، فقد تكون البنت عمرها ست سنوات وفيها من نماء الجسم ليس عند بنت سنها عشر سنين ، فالأصل أن من دون سبع سنين لا حكم لعورته ، لكن إن جاء أمر آخر من تغير الزمن ، وغلبة الهوى ، أو أن هذه العورة ينظر إليها تلذذا كعورة الكبير ،هنا يأتي المنع .
وذكر الفقهاء أن من بلغ سبع سنين إلى عشر عورته ” السوءتان ” وهما الفرج والدبر ” أما الفخذان فلا ، ويقال فيه ما قيل في المسألة السابقة ، لو تغير الزمن أو اشتهي النظر إلى فخذي من فوق سبع سنين ودون عشر سنين ، فيأتي المنع .
أما من عورته : ” فوق عشر سنين ” فإنها عورة من السرة إلى الركبة “
قال صلى الله عليه وسلم : ( غط فخذك فإن الفخذ عورة )
ومسألة كشف الفخذ بالنسبة إلى من هو فوق عشر سنين ، مسألة مختلف فيها /
بعض العلماء يرى أن عورة الكبير السوءتان وما قرب منهما ، وأما الفخذ فليس بعورة .
لكن بالنسبة إلى تغطية الفخذ في الصلاة أمر لابد منه ، لأنه من الزينة المأمور بها في قوله تعالى :
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ }الأعراف31
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال في الثوب :
( إن كان ضيقا فاتزر به )
وإذا اتزر به ألا يغطي فخذه ؟ بلى ، هذا فيما يخص الصلاة .
لكن فيما يخص النظر /
إن نظر تلذذا أو غلب الهوى فكما قيل .
لكن إن لم يكن فهل الفخذ عورة أم لا ؟
قولان لأهل العلم /
بعض العلماء يرى أن الفخذ عورة من حيث النظر ، ويستدلون بحديث جرهد ( غط فخذك فإن الفخذ عورة )
ولحديث لا بأس به ويصح أن يكون في الصلاة :
( عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة )
القول الثاني :
أن الفخذ ليس بعورة ، لكنه مأمور بتغطيته .
أولا / أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس :
( رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر قد كشف عن فخذه )
قال البخاري رحمه الله :
” حديث أنس أصح وحديث جرهد أحوط “
ثانيا :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب فخذ بعض الصحابة “
ولو كان الفخذ عورة ما ضرب .
فخلاصة القول ” أن على المسلم أن يحفظ عورته “
ولذا قال صلى الله عليه وسلم لما سئل :
( عوراتنا ما تأتي منها وما نذر ؟ قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك “
ولذا لما رأى ابن القيم رحمه الله اختلاف العلماء في هذه المسألة قال :
” إن العورة نوعان : عورة مغلظة وعورة مخففة “
فالعورة المغلظة ” الفرج والدبر ”
والعورة المخففة ” الفخذ “
وكما أسلفت لكم إذا تغير الزمن فإن الحكم يختلف ، وللأسف أن هذا الزمن قد ظهرت فيه ناشئة من الشباب يظهرون شيئا من عوراتهم بلبس بعض السراويل ، وهذا يدل على ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة ، كما قال ابن القيم رحمه الله ، وإذا ذهب الحياء ذهبت الحياة وبالتالي حلَّ الموت ، فيكون الإنسان سائرا بين الناس حي من حيث الصورة لكنه في الحقيقة ميت .
فـ ( من ) اسم شرط يفيد العموم ، فكل من له عورة له حكم تأخذ هذا الحكم .
( ومن الفوائد )
أن السنة القولية والفعلية منه صلى الله عليه وسلم أتت بالتستر ، فالسنة القولية : ما جاء في هذا الحديث ( من أتى الغائط فليستتر )
السنة الفعلية : ما مر معنا في حديث المغيرة ( أنه كان يتوارى صلى الله عليه وسلم )
( ومن الفوائد )
أن الغائط في اللغة ” هو المكان المطمئن المنخفض من الأرض ”
كانوا يحرصون عليه من أجل أنهم يستترون .
فاستعير وأخذ هذا اللفظ ووصف به الخارج من الإنسان من باب التأدب في اللفظ .
وبعض الناس لما يسمع كلمة ” الغائط ” يشينه سماع هذا الاسم ، مع أن هذا الاسم في الحقيقة اللغوية ” أنه المكان المنخفض من الأرض ” بل أن العيب أن يذكر الخارج بلفظه المشين .
والبعض إذا ذكر الغائط قال ” أكرمكم الله ”
والبعض إذا أراد أن يستأذن أصحابه لقضاء الحاجة يقول :
” أستأذنكم أطيِّر الشراب ” وهذا لا دليل عليه ، بل إن التصريح بالبول لا إشكال فيه ، وقد صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فلو قال ” أستأذنكم لأبول أو لأقضي حاجتي ” فلا إشكال في ذلك .
وعلى طالب العلم أن يكون حكيما ، لأن الناس إذا درجوا على أمر عتيق يحتاجون إلى وقت في تغييره ، فتبين لهم أن السنة لم تأت بذكر هذا اللفظ ، فلسنا بأكرم ولا بأغير ولا بأنقى لفظا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى يتبين للناس العلم الشرعي .
( ومن الفوائد )
أن ابن حجر رحمه الله ” نسب هذا الحديث لأبي داود من حديث عائشة “
وقد نبه على ذلك الصنعاني رحمه الله ” قال الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه “
وهذا إن دلَّ يدل على ضعف ابن آدم ولو كان بحرا من العلم ، فابن حجر أمير المؤمنين في الحديث – كما وُصف رحمه الله – وعنده سعة اطلاع ، ولا يعرف سعة علمه إلا من قرأ الفتح الذي هو في الحقيقة فتح من الله على هذا الرجل ، ومع ذلك يأتي الإنسان ما يأتيه من النسيان والخطأ ، وابن شهاب الزهري رحمه الله – كما مر معنا في سنن الترمذي – قال إن ” ذا اليدين هو ذو الشمالين ” مع سعة اطلاعه وغزارة علمه ، وهذا يجعل من في هذا العصر ألا يغتر بالألقاب ، ولا يستكين إليها ، ولا يصغ بسمعه إلى ما يقال فيه من المدح والثناء ، من أنه ” بحر العلوم أو الحافظ أو لا يجاريه أحد- لا – فالكل فيه ضعف ، إذا كان أولئك الأئمة ولو قيس علم من في هذا العصر بعلم شخص واحد كابن حجر رحمه الله ما بلغه ، فليعرف الإنسان قدره ، ولذا قال ابن القيم رحمه الله :
” إذا نظر الإنسان إلى نفسه بعين الاحتقار والازدراء كلما علت نفسه وعلت مراتبه ” لأنه يرى أنه ناقص فيزداد اجتهادا فيصل إلى أعلى المراتب ، لكن إذا نظر الإنسان إلى نفسه بعين العظمة فإنه لن يزداد بل يسقط من حيث لا يشعر .
ولذلك ثناء الناس ما مدح في الشرع ، عند مسلم من حديث المقداد :
( إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا في وجوههم التراب )
في الصحيحين :
( قطعت عنق صاحبك )
وقد يجوز في بعض الأحيان لغرض ولمصلحة ، لكن على سبيل العموم فالأصل أن المدح مذموم ، ولذا كان السلف رحمهم الله يتحاشون هذا ، وتتعب أنفسهم لما يثنى عليهم ،أما الآن لا يفرح بثناء الناس – لا – بل إنه يبحث عمن يثني عليه ، الآن بعض القنوات التي تعنى بالشعر ، بعض الناس إذا أراد أن يعلن عن حفلة زواج له انظروا كم يدفع فيها ؟!
مئات الآلاف من أجل أن يظهر ، ثم ماذا ؟ ظهرت يوما أو يومين أو سنة أو مائة سنة ، ثم ماذا ؟ مصيرك إلى التراب .
ولذلك قال بعض السلف :
” المخلص هو من يستوي مدح الناس له وذمهم له “
وهذا يرجع إلى تحقيق النية ومجاهدة النفس ، والنفس ضعيفة ، فلا يقل أحد إني لا أحب الثناء – لا – طبيعة ابن آدم أنه يحب الثناء المدح ، لكن أين المجاهدة ؟ حتى يصل إلى ما وصل إليه الكبار ، بحيث إذا سمع مدح الناس فيه زاده تواضعا وتقربا إلى الله عز وجل ، ولذلك مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، لم ؟ لأن هذا المدح لا يزيده إلا إقبالا على الخير .
مدح صلى الله عليه وسلم أهل بدر ، قال :
( اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم )
لكن لو رؤي صنيع هؤلاء كأنه لم يغفر لهم
وبعض الصحابة قال ” ألا أريكم رجلا من أهل الجنة ، فأراهم عبد الله بن سلام “
بينما نحن لو رؤي أحدنا مع هذا الثناء والتبجيل ، لو رأيته في طاعة الله أين هو ؟ أين هو من قيام الله ؟ أين هو من قراءة القرآن ؟ أين هو من الذكر ؟ أين هو من الصيام ؟
أسئلة يحتاج الإنسان أن يطرحها على نفسه لا أن يطرحها غيره عليه ، حتى يعرف هل ثناء الناس عليه موافق لحاله في الخفاء أم لا ؟
والموفق من وفقه الله ، نسأل الله أن يعصمنا من الزلل .