( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وَعَنْهَا :
( أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ اَلْغَائِطِ قَالَ: “غُفْرَانَكَ” )
أَخْرَجَهُ
اَلْخَمْسَةُ. وَصَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ, وَالْحَاكِم ُ
( من الفوائد )
بيان فضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم “
إذ نقلن لنا ما خفي علينا من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم التي تكون في البيوت ، ولاسيما عائشة رضي الله عنها فإنها أفضل من خديجة رضي الله عنها باعتبار آخر الأمر ، إذ تلقت من النبي صلى الله عليه وسلم من العلم الغزير ما جعلها تفضل غيرها في نفع الأمة ، بينما ” خديجة رضي الله عنها ” هي أفضل من عائشة باعتبار أول الأمر ، إذ وقفعت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قامت دعوته صلى الله عليه وسلم .
( ومن الفوائد )
أن هناك سنة قولية بعد الخروج من الخلاء ، كما أن هناك سنة قولية حين الدخول للخلاء ، كما مرَّ معنا في حديث أنس رضي الله عنه :
( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )
هذه السنة التي تقال بعد الخروج من الخلاء هي قول :
( غفرانك )
( ومن الفوائد )
لو قال قائل :
نقول : هذه الكلمة منصوبة بفعل محذوف أصلها :
( أسألك غفرانك )
( ومن الفوائد )
أن قوله صلى الله عليه وسلم ( غفرانك ) بعدما يخرج من الخلاء ألذنب فعله ؟ أم لواجب تركه ؟
الجواب / لا .
إذاً / لماذا يقول ( غفرانك ) بعد الخروج من الخلاء ؟
قال بعض العلماء : إن مناسبة قول ( غفرانك ) بعد الخروج من الخلاء لأنه انحبس عن ذكر الله في الخلاء ، فاستغفر الله مما تركه من الذكر في بيت الخلاء .
لكن نقول : إن هذا الجواب فيه ما فيه ، لم ؟
لأنه صلى الله عليه وسلم ما امتنع من الذكر في الخلاء إلا بأمر الله عز وجل ، ثم هو صلى الله عليه وسلم لو انحبس عن ذكر الله في بيت الخلاء لفظا ، فإنه لم ينحبس عن ذكر الله بقلبه .
ولذا أعظم الذكر ما كان بالقلب واللسان ثم ما كان بالقلب ثم ما كان باللسان .
لو قال قائل :
كيف يذكر الله بالقلب في بيت الخلاء ؟
نقول : من عدة أمور :
أولا : تيسير الله عز وجل لهذه الفضلة ولهذا الأذى أنه خرجه منه ، ولذا علي رضي الله عنه لما خرج ذات يوم من بيت الخلاء :
( مسح على بطنه وقال يا لها من نعمة لو يعرف الناس قدرها )
ثانيا : باستشعار هذه النعمة ، فإن استشعارها نعمة أخرى .
ثالثا : أن يعرف العبد ضعف نفسه ، وأنه لو شاء ربه عز وجل لقتله بهذا الأذى اليسير ، ولذا من تتعطل عنده الكلى لو لم ينظف بدنه هلك .
رابعا : أن يدرك عظيم صنع الله عز وجل إذ جعل أعضاء صغيرة يسيرة تخرج هذه الفضلات ، قال تعالى :
{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ }النمل88
خامسا : أن يدرك الإنسان أنه ليس بشيء ، لم ؟
لأن هذا الأذى الذي يخرج منه يؤذيه ولا يخرج من غيره ، فإذا كان الذي يخرج منه يؤذيه فإن هذا يدل على أنه ليس بشيء ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه هذا الأذى ، إن تركه وحبسه هلك وتضرر وإن أخرجه تأذى .
فإذاً / أين من يتكبر ؟ أين من يظلم ؟ أين وأين ؟
سادساً : أن يدرك العبد عظيم الشرع ، إذ نهى عن اللوط ، فإذا كان الإنسان يتقذرمن هذا الشيء فكيف يقدم على موضعه من غيره ؟!
ولو جلسنا نتأمل لوجدنا أضاعف ما ذكرنا ، لكن ليعرف العبد أنه كلما أحضر قلبه في كل حالة من أحواله فإنه يكون بذلك من الذاكرين الله عز وجل بقلبه .
وقال بعض العلماء :
إن مناسبة ذكر ( غفرانك ) بعد الخروج من الخلاء : لأن ما خرج منه نعمة ، وتلك النعمة لم يستطع العبد أن يشكر الله عليها ، فاستغفر الله عز وجل لتقصيره في شكر النعمة ، ولذا قال عز وجل في سورة النحل :
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل18
فمع تقصيرنا في شكر نعمة الله فإنه عز وجل غفور رحيم .
وقال بعض العلماء :
إن مناسبة ذكر ( غفرانك ) بعد الخروج من الخلاء –وهذا الرأي لابن القيم رحمه الله – وهو رأي قيم قال :
” قول ( غفرانك ) يعني أطلب منك المغفرة من باب تذكر الشيء بالشيء ، فإنه لما أُزيل عنه هذا الأذى الذي في بطنه فاستراح ، تذكر الأذى الأعظم الذي يكون يوم القيامة وهو” الذنب ” فسأل الله أن يزيل عنه هذا الأذى الذي هو الذنب كما أزال عنه ما في بطنه حتى يستريح ، لأنها هي الراحة الحقيقية المؤبدة “
وهذا أوجه الأقوال مع القول الثاني .
ولو نظرنا مثلا إلى الصلاة تجد أن بعدها ” أستغفر الله ثلاثا ” قال العلماء : لأنه لم يستطع أن يقيم هذه الصلاة من أولها إلى آخرها على الوجه الأكمل ، فاستغفر الله مما قد يحصل من خلل في صلاته ؟
نأتي إلى الحج ، قال تعالى :
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }البقرة199.
( ومن الفوائد )
بيان فضل الاستغفار وأنه لا غنى للعبد عنه حتى ولو بلغ في نفسه مراتب عليا ، فإنه لا غنية له عن الاستغفار ، لأن العبد لا يسلم من الخطأ والزلل ، فإن سلم من الخطأ والزلل كحال نبينا صلى الله عليه وسلم فإن هذا الاستغفار يحتاج إليه في زيادة الدرجات .
ولذلك أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار {وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء106 متى جاءت هذه الآية ؟
بعد قوله تعالى :
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }النساء105، ثم قال : {وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء106
إذاً من يحكم بالشرع بين الناس ومن يفتي للناس ومن يعلم الناس بحاجة إلى الاستغفار .
ولذلك يروى عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا استعصت عليه المسألة والتبست عليه ” أكثر من الاستغفار “
نأتي إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم :
( إنه ليغان على قلبي )
والغين : هو الهم – سبحان الله – أيصيب النبي صلى الله عليه وسلهم هم ؟
الجواب / نعم ، لكن ما هو هذا الهم ؟
قال النووي رحمه الله : ” هو هَمّ مستقبل أمته “
قال صلى الله عليه وسلم :
( إنه ليغان على قلبي ، وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة )
بل لعظم الاستغفار – كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما
( كان يُعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد أنه يستغفر الله مائة مرة )
ولذا تقول عائشة رضي الله عنها :
” القلب بمثابة المرآة صقلها بالاستغفار “
المرآة إذا تلوثت وأصابها الغبار تحتاج إلى التنظيف حتى تعود بيضاء نقية ، فالقلب مثل المرآة ، ما تنظيف القلب ؟
( الاستغفار )
ولعظم هذا الاستغفار قيل بعد الخروج من الخلاء ، وقيل بعد الفراغ من الصلاة ، وقيل بعد الفراغ من الحج ، وأُمر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد أعظم الأقوال العقدية ، قال تعالى :
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }محمد19
فهذا يدل على أنك يا ابن آدم في كل أحوالك ، في ذهابك ، في إيابك ، في معاشك ، في أحوالك كلها بحاجة إلى الاستغفار ، بسبب ما يحصل منه من ذنوب يقدم عليها .
( ومن الفوائد )
أن حديث :
( إذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )
بعض العلماء يرى ثبوته ، وثبوته يؤيد المعنى الذي قاله ابن القيم رحمه الله ، فإنه لما أزال عنه الأذى الذي في بطنه تذكر الأذى الأعظم الذي هو الذنب ، فتأتي هذه المقولة :
( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )
تقرر هذا المعنى .
فلو قالها في بعض الأحيان فلا بأس .
( ومن الفوائد )
أن هذا الذكر يقال حتى ولو كنت في الصحراء