( فقه المعاملات )
(65)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
( كتاب القضاء )
( 4 )
[ باب كتاب القاضي إلى القاضي – باب الإقرار ]
مسألة :
أجمعت الأمة على قبول كتاب القاضي إلى القاضي ، لأنَّ من له حقٌ في غير بلده لا يمكنه إثباته إلا بذلك .
الشرح :
وذلك بأن يكون أحد الخصوم في مكان آخر فيه قاضٍ وأحدهما في بلدةٍ أخرى فيكتب القاضي إلى ذلك القاضي بما جرى بينه وبين المُدَّعِي .
مسألة :
هي في حقوق الآدميين ، لأنَّ حقوق الله مبنِيَّةٌ على الستر .
الشرح :
الكتابة من القاضي إلى القاضي تكون حقوق الآدميين ، لأنَّ حقوق الله كما قلنا مبنيَّةٌ على الستر .
مسألة :
وهو نوعان :
أولاً :
يكون بما حكم به الكاتب لينفذه المكتوب إليه ولو كان في بلدٍ واحدٍ فيجب إمضاؤه .
الشرح :
هذا نوعٌ من أنواع كتابة القاضي إلى القاضي وذلك بأن يكتب القاضي بأنه حكم في هذه الدعوى فيُرسل هذه الرسالة أو هذه الكتابة إلى ذلك القاضي بأن ينفذ فيجب على القاضي الآخر أن ينفذ إما بحبس المُدَّعَى عليه الذي في ولايته أو بدفع المال أو بنحو ذلك .
مسألة :
ثانيًا :
يشترط فيه أن يكون بينهما مسافة قصر وهو أن يكتب : ثَبَتَ عِنْدِي أنَّ لفلانٍ على فلانٍ كذا ولو كان من ثبت عنده لا يرى جواز الحكم به لأنه مُخْبر .
الشرح :
يشترط في هذا النوع أن يكون بينهما مسافة قصر وأن يقول : ثبت عندي كذا وكذا . حتى لو كان القاضي الآخر لا يرى بحكم القاضي الذي قد كتب إليه فلا بد أن ينفذه .
مسألة :
يشترط لقبول الكتاب . الشهادة بعدلَيْنِ عليه . وقيل : إن عُرِفَ خطُهُ فيكفي وفي هذا الوقت يكفي الختم .
الشرح :
يكفي في هذا الوقت أن يرسل القاضي الذي ثبت عنده الحق أن يرسل كتابًا مختومًا بختم المحكمة أو يُشْهِدَ عليه اثنين أو إذا عُرِفَ خَطُهُ ، وفى هذا العصر يكفى ختم القاضي أو ختم المحكمة .
مسألة :
قول الشخص لآخرٍ : اشْهَدْ أني أَشْهَدُ بكذا . فيُسمَّى الشاهد الأصلي ( شاهد الأصل ) والنائب عنه ( شاهد الفرع ) ولا تقبل إلا في الأموال ، ولها شروط .
الشرح :
لا يجوز أن يقول شخصٌ لآخرَ : اشْهَدْ عني في كذا . إلا بشروطٍ ، وأجيزت لدفع الحرج وإلا فالأصل أن الشاهد هو الذي يقوم بالشهادة ولا يُوَكِّلُ أحدًا . لكن بشرط .
مسألة
: أولاً : أن يأذن شاهد الأصل .
الشرح :
أن يأذن شاهد الأصل لشاهد الفرع بأن يشهد .
مسألة :
ثانيًا : أن تكون في حقوق الآدميين .
الشرح :
لأن حقوق الله عز وجل مبنِيّةٌ على الستر .
مسألة :
ثالثاً : أن تتعذر شهادة الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو نحوه .
الشرح :
أن تتعذر شهادة الأصل بأن يكون مريضًا لا يستطيع الحضور أو مسافرًا لا يستطيع ، فيجوز .
مسألة :
رابعًا : أن يستمر عُذْرُهُ إلى الحُكم .
الشرح :
أن يستمر عُذْرُهُ إلى الحُكم ، ولذا لو أنَّ الحكم لم يثبت فيه وقد حضر فإنه لا بد أن يأتيَ ويشهد هو .
مسألة :
خامسًا : دوام عدالتهما إلى الحكم .
الشرح :
كذلك دوام عدالتهما إلى الحكم فلا بد أن يكون شاهد الأصل وشاهد الفرع عدلين فإن كانا عدلين ، ثم زالت العدالة من أحدهما فلا شهادة هنا في فرعٍ ولا في أصلٍ .
مسألة :
سادسًا : أن يُعيِّنَ شاهدَ الفرع شاهدَ الأصل .
الشرح : أن يقول هذا الشاهدُ : أشهدُ بأن فلانًا يشهد بكذا . لا يجوز أن يقول : أشهد بأن شخصًا يشهد بكذا . فلا بد أن يُعَيِّنَهُ .
مسألة :
إنْ رجع شهود المال بعد الحكم فلا ينقض ويلزمهم الضمان وكذا إن حُكِمَ بشاهدٍ ويمينٍ غُرِّمَ الشاهدُ المالَ كلَّه وإن كان الرجوع قبل الحكم فلا حكمَ ولا ضمان .
الشرح :
لو أن الشهود رجعوا قبل أن يحكم القاضي فلا حكم ولا ضمان على الشهود ، لكن لو أن القاضي قد حكم بشهادة الشاهِدَيْنِ فإنهما يُغَرَّمان ، والحكم باقٍ لا يُنقَض وكذلك لو أن الحكم ثبت بشاهدٍ ويمينٍ لم يثبت بشاهدين وإنما بشاهدٍ ويمينٍ فإن الحكم لا يُنقض ويُغَرَّم الشاهد المالَ كلَه .
مسألة :
شاهدُ الزُّور يعزر ولو تاب ، ويُطاف به حتى يشتهر أمره ولا يُعَزَّر شاهدٌ بتعارض البيِّنَة ولا بِغَلَطِه .
الشرح : شاهد الزور وقد عظَّم النبيr شهادة الزور فإن تاب يُعزَّر حتى ينزجر وينزجر غيره ،لكن لو أنَّ الشاهد ليس بشاهدِ زور لكنه غلط فلا يُعَزَّر أو أن الشاهد لمَّا شَهِد أتى الآخر بشهودٍ فتعارضت البينتان فلا تعزير بهذا التعارض .
مسألة :
اليمين في حقوق الآدميين
أما حقوق الله فلا يستحلف فيها ولو حدَّ قذفٍ لأنه يستحب سترها ولا تعتبر إلا إذا أمره الحاكم على صفة جواب المُدَّعي في مجلس الحاكم حالفًا بالله أو بصفةٍ من صفاته سواء كان الحالفُ كافرًا أو مسلمًا .
الشرح :
اليمين من المُدَّعَى عليه أو من المُدَّعِي إذا رُدَّت إليه تكون في حقوق الآدميين أما حقوق الله عز وجل فلا يُستحلف عليها
لو قيل له : احلف بالله أنك صلَّيت اليوم صلاة العشاء
فإنه لا يُلزم بذلك حتى ولو كان هذا الحق حدَّ قذفٍ لأنَّ حقوق الله مبنيَّةٌ على الستر ،
وهذه اليمين متى تعتبر ؟
إذا أمره الحاكمُ فلا بد أن تكون اليمين مؤداةً بأمر الحاكم وعلى صفة جواب المُدَّعي في مجلس الحكم وذلك بأن يدَّعي شخصٌ : بأن هذه الساعة له وليست عنده بيِّنة . فيقول المُدَّعَى عليه : والله إنَّ هذه الساعة ليست له وإنما هي لي .
فلا بد أن تطابق اليمين ما ادَّعى به المُدَّعِي
فلو قال : والله إن هذه الساعة لي .
ثم يقول المُدَّعى عليه : والله إنَّ هذا القلم ليس له . فلا اعتداد بهذه اليمين ولا بد أن يكون الحلف بالله أو بصفةٍ من صفاته سواءٌ كان الحالف كافرًا أو مسلمًا . فالكافر يجب عليه أن يحلف بالله عز وجل حتى تُقْبَل يمينه .
مسألة :
لا تُغَلَّظُ اليمين إلا فيما له أهمية كبرى فتُغَلَّظ على المسلم والكافر .
الشرح :
لا تُغلَّظ اليمين إلا فيما له أهمية كُبرى كمالٍ كثيرٍ فيقال له : لِتُغَلِّظ اليمين . بحيث يحلف بأسماءٍ من أسماء الله عز وجل وبكثير من صفاته جل وعلا لكي يُعْظِمَ هذا الأمر ، أما إن لم يكن إلا شيءٌ يسيرٌ فإنها لا تُغَلَّظ .
مسألة :
من أبى التغليظ لم يكن ناكلاً ، والتغليظ حَسْبَ ما يراه الحاكم من المصلحة .
الشرح :
التغليظ يرجع إلى الحاكم إن رأى أن اليمين تُغلظ لكي ينزجر الحالف فله ذلك
وذلك بأن يقول : أحلفُ بالله عز وجل الذي فلق السماء والذي أنبت الزرع والذي أنزل القرآن على محمدr .
ويأتي بهذه العبارات التي تُعظم اليمين لكن لو كان المُدَّعَى عليه رافضًا للتغليظ فلا يحكم عليه
لو قال : أنا لا أغلِّظ اليمين . أنا أحلف دون تغليظٍ .
فلا يحكم عليه بذلك لأنَّ النبيr قال : ( البَيِّنَةُ على المُدَّعِي واليمين على من أنْكَر ) .
باب : الإقرار .
الإقرار وسيلة من وسائل إثبات الحكم إما بالبيِّنَةِ وهي الشهود ، وإما باليمين وهنا بالإقرار . والإقرار من أعظم وسائل إثبات الحقوق . فمن أقرَّ على نفسه حُكِمَ عليه .
مسألة :
الإقرار : الاعتراف بالحق ويُشترط في المُقِرِّ أن يكون مكلفًا ويصِحُّ من الصغير في حدود ما أُذِنَ له فيه .
الشرح :
لا بد أن يكون هذا المُقِرُّ مكلفًا . أي بالغًا عاقلاً ، لكن لو أن الصغير أقرَّ بشيءٍ فيما يجوز أن يتصرف فيه كما سبق معنا في البيع يجوز أن يبيع وأن يشتريَ في حدود العُرْفِ فيكون إقراره صحيحًا .
مسألة :
يشترط أن يكون مختارًا غير محجورٍ عليه .
الشرح :
فإن كان المُقِرُّ مكرهًا على أن يُقِرَّ فإنه إقرارٌ لا يصح ولا بد أن يكون غير محجورٍ عليه وسبق معنا من هم الذين يُحجر عليهم ، لكن لو أقرَّ المفلس بشيءٍ فكما سلف لا يثبت إقراره في هذا المال وإنما يثبت في ذمته .
مسألة :
يشترط أن لا يُقِرَّ بشيءٍ في يد غيره .
الشرح :
لأنه لا يملكه فلو قال : أُقِرُّ بأن هذه الساعة ملكٌ لفلانٍ ، فنقول : بأنَّ هذه الساعة هي ملكٌ لصاحبها ولا يحق لك أن تُقِرَّ لأنك لا تملكها .
مسألة :
إن ادَّعى أنه مُكْرَهٌ قُبِلَ مع قرينة .
الشرح :
إن ادَّعى أنه مُكْرَهٌ قال : أُكْرِهْتُ حتى أقر. لم أقِر بمحض اختياري . فإنه يُقبل مع قرينة ولذا لو أنَّ الجاني أقرَّ نتيجة الضرب الذي قد ينزل به ثم جاء عند القاضي فقال : يا أيها القاضي ما أقررت إلا لشدة الضرب الذي وقع بي . فيُقبل مع قرينة ، كأن تُرى عليه علامات الضرب .
مسألة :
يصح إقرار المريض بمالٍ لغير وارثه .
الشرح :
سبق معنا أنه في مرضه المخوف لا يجوز له التصرف في ماله إلا في حدود الثلث ، لكن لو أنه أقرَّ بشيءٍ أكثر من الثلث لشخصٍ غير وارثه لأنه لو أقرَّ لوارثه فهناك تهمة لكن لو أقرَّ لشخصٍ ليس بوارث له فإن هذا الإقرار معتبرٌ . لِمَ ؟ لأن الإنسان في حالة المرض يريد أن يُبرأ ذِمَتَه .
مسألة
: يصح بكلِّ لفظٍ .
الشرح :
كأن يقول : أُقِرُّ بكذا . أعترف بكذا .
مسألة :
يصح استثناء النصف فأقل وعند الجمهور يصح الأكثر إن كان متصلاً باللفظ فلو قال : له عليَّ مائة . ثم سكت سكوتًا يمكنه الكلام فيه ، ثم قال مؤجلاً لزمته مائة حالة .
الشرح :
لو قال : له عليَّ مائة ريالٍ ثم سكت ، ثم بعد سكوته قال :مؤجلاً . فنقول له : تثبتُ عليك حالَّةٌ . لِمَ ؟ لأن هذا حقٌ لآدميٍّ والأصل أن إقرارك بالمائة أنها حالَّة .
مسألة :
إن باع شيئًا ، وأقرَّ أنه لغيره لم ينفسخ ويُغَرَّم .
الشرح :
فلو قال : بِعْتُ هذه الساعة . وهذه الساعة لمحمدٍ وقد بعتها لخالدٍ . فلا ينفسخ البيع وإنما يُقال : البيع ثابتٌ ويا فلان يا من بِعْتَ وتَطَفَّلْتَ تلزمك قيمة هذه الساعة لصاحبها .
مسألة :
يصح الإقرار بالمُجْمَلِ ويُحبس حتى يفسره فإن قال : لا أعلم حلف وغُرِّم أقل ما يقع عليه الاسم وإن مات قُبِل تفسيره ولم يؤاخذ وارثه بشيءٍ ، لاحتمال أن يكون غير مال
الشرح :
يصحُّ أن يقول : أُقِرُّ على نفسي بشيءٍ بهذا اللفظ . هنا اللفظ مجملٌ ، فيُقال له : فَسِّرْهُ . قال : لا أفسره . فيُحْبَس حتى يفسره فإن قال : لا أعلم ما هو هذا الشيء . يقال له : احلف بأنك لا تعلم ويُغرم أقل ما يقع عليه هذا الاسم ، فلو قال : أُقِرُّ بسيارة عليَّ فننظر إلى أقل سيارة وتؤخذ منه لكنه لو مات قبل أن يفسره لا يؤاخذ ورثته بشيءٍ .
لِمَ ؟
لأنه قد يُقِرُّ بشيءٍ غير مال ، ولا يُلزم الورثة بشيءٍ .
مسألة :
إن قال : له عليَّ مائة إلا قليلاً . حُمِلَ على ما دون النصف .
الشرح :
لو قال : عليَّ مائة إلا قليلاً . فإنَّ هذا القليل يُحمَلُ على ما دون النصف بمعنى أن يُقال : عليك تسعةٌ وأربعون .
مسألة :
إن أقرَّ لشخصٍ بشجرة ٍ لم يشمل موضعها بخلاف ما لو أقرَّ ببستانٍ .
الشرح :
إن أقرَّ لشخصٍ بشجرةٍ قال : هذه الشجرة أُقِرُّ بأنها لفلان . فنقول : هذه الشجرة فلان . لكن الموضع لا يكون لفلان ، بخلاف ما لو قال : هذا البستان أقرُّ بأنه لفلانٍ . فإن فلانًا يملك البستان بأرضه وأشجاره .
مسألة :
إن قال : له عليَّ تمرٌ في جرابٍ . فالتمر فقط . فهو مقرٌّ بالمظروف دون الظرف وإن قال : هذا مشترك بيني وبين فلانٍ . فيُبَيِّن حصته . وقيل : يكون بينهما نصفين .
الشرح :
إن قال : له علي تمرٌ في جرابٍ أو في كيسٍ . فنقول : عليه التمر . أما هذا الجراب فلم يُقر به وإن قال : هذا بيني وبين فلانٍ . فيُقال له : بيِّن نصيب فلانٍ . فإن لم يبيِّن فإنَّ هذا الشيء يكون بينهما نصفين .
مسألة :
الحُكْمُ بالإقرار واجبٌ فهو أولى من البيِّنَة .
الشرح :
الواجب على القاضي أن يحكم بالإقرار ، لأنه أوضح وأقوى من البيِّنة .
مسألة :
إن اتفقا على عقدٍ وادَّعى أحدهما فساده والآخر صحته ولا بينة ، فَقَوْل مدَّعي الصحة بيمينه .
الشرح :
لو ادَّعى اثنان فقال أحدهما : عقدنا على هذه السلعة عقدًا فاسدًا وقال الآخر : لا بل عقدنا على هذه السلعة عقدًا صحيحًا فيُقال لمن يقول إنه عقدٌ فاسدٌ . يُقال له : أحضر البيِّنَة فإن قال : لا بيِّنَة عندي فإننا نقول : الأصل في العقود الصحة . فَقَوْل مدَّعي الصحة لكن بيمينه .
مسألة :
من قال في مرض موته هذه ألفٌ لُقَطَة ولا مال له غيره لزم الورثة الصدقة بجميعه ولو كذبوه . وقيل : الثلث .
الشرح :
من قال في مرض موته : هذه الألف وهي التي يملكها فقط هذه لُقَطَة . ولا مال له سوى هذه الألف فيلزم الورثة أن يجعلوها لُقَطَة . والواجب عليهم أن يُعَرِّفوها . وقال بعض العلماء : يؤخذ منها الثلث ولكن الأقرب : أنه يؤخذ بقوله لأنه في مثل هذه الحال يريد أن يُبَرِّأ ذمته .
وبهذا انتهت هذه المسائل ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد