التفسير المختصر الشامل ( 18 )
تفسير سورة البقرة
من الآية ( 197) إلى الآية ( 207)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل :
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) }
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } :
ذكر الله هذه الآية لما ذكر الأمر بإتمام الحج والعمرة ذكر ما يتعلق بالحج ، وذلك لأن زمن الحج زمن مؤقت بخلاف العمرة ، فإن العمرة تكون في أي يوم من أيام السنة إلا في حالة واحدة فيما لو كان الإنسان متلبسا بحج
أما بالنسبة إلى الحج فله زمن معين :
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } :
تلك الأشهر المعلومات : شوال وذو القعدة وذو الحجة على القول الصحيح لأنه قال { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } ولم يقل ( في أشهر معلومات) خلافا لما قال : ” إن زمن الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة “
ومما يقوي ما ذكرناه :
من أنهم قالوا عشر ذي الحجة ومعلوم أن الرمي يكون في أيام التشريق وهي بعد عشر ذي الحجة
ويترتب على هذا الخلاف تترتب عليه أحكام فيما لو أن الإنسان حلف فقال والله لا أدخل بيت فلان في أشهر الحج فإن دخله في اليوم الحادي عشر أو في اليوم العشرين من شهر ذي الحجة فإنه حينها على ما رجحنا تكون عليه كفارة يمين
أما على القول الآخر فلا كفارة عليه
ومما يستدل به ممن يقول من أنها تنتهي بعشر ذي الحجة قالوا إن قوله عز وجل { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } من باب التغليب كقوله عز وجل
{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } ومعلوم أنه لا يبقى يومين
ولكن الصحيح ما ذكرناه
وهذا يدل على أن الحج على القول الصحيح لا يصح إلا إذا عقد في زمنه فلو أن الإنسان نوى بالحج في رمضان أو في شعبان فإنه لا يعتبر حجا
وهل يعتبر هذا الإحرام لاغيا ؟
خلاف بين أهل العلم ، والصحيح أنه يكون إحرام عمرة يلزمه أن يأتي بعمرة
إذاً :
الحج لا يكون إلا في زمانه
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي من ألزم نفسه في هذه الأشهر بالحج مما يدل على أنه يلزمه أن يتم ذلك أنه قال { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } وهذا يؤكده ما سبق من قوله تعالى في الآية السابقة
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي في أشهر الحج ( فَلَا رَفَثَ ) الرفث يشمل كل ما يتعلق بالجماع وبدواعيه
فالرفث : ينهى عنه الحاج بمعنى أنه لا يجامع بمعنى أنه لا يداعب المرأة ولا يباشرها
بمعنى أنه لا يعدها كما لو قال : إذا فرغنا من الحج فعلنا وفعلنا يدخل ما يتعلق بالنكاح
فإذاً نهي الحج عن الرفث بجميع أنواعه التي ذكرنا
{ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } الفسوق شامل لكل ما حرمه الله عز وجل ويدخل في ذلك ما قيل من أنه السباب لقوله عليه الصلاة والسلام
(( سباب المسلم فسوق )) كما ثبت عنه
ويدخل فيه أيضا ( التنابز بالألقاب ) كما قيل
{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ }
فهذه أنواع من أنواع الفسوق
{ وَلَا جِدَالَ } نهي الحاج عن الجدال
بعض أهل العلم قال ينهى عن الجدال مطلقا
والصحيح أن الجدال قد يكون واجبا في الحج لبيان الحق وقد يكون مستحبا
فهو يختلف باختلاف أحواله وبتنوع مقاصده
ويدخل في ذلك الجدال في أحكام الحج
فإن أحكام الحج قد بينها الله وبينها النبي عليه الصلاة والسلام بيانا شافيا فلا يجادل المسلم فيها فهي واضحة وبينة
{ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }
[ ما ] هنا شرطية جوابها { يَعْلَمْهُ اللَّهُ } جزم لأنه جواب الشرط
{ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }
وهذا العلم علم كما سبق في قوله عز وجل { إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}
الله عالم بكل شيء وقبل أن يفعل العباد فهو عالم بكل ما سيفعلونه لكنه لما ذكر هنا العلم تبين هنا أن المقصود من هذا العلم هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء والحساب
{ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }
وإذا كان يترتب عليه الجزاء والحساب فكلمة الخير تدل على أن كل خير يحبه الله فيكون حينها من صرف هذا الخير أو أي عبادة من العبادات فإنه أشرك بالله عز وجل
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
وذلك لأن بعضهم إذا ذهب إلى الحج قالوا نحن نذهب إلى هذه الشعيرة ولم يتزدوا من الطعام ومن الشراب فنهوا عن ذلك
{وَتَزَوَّدُوا } من الطعام
{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }
لما ذكر الزاد وهو زاد الدنيا من الطعام والشراب نبه على أن التزود به خير ، وذلك ما يتقي به الإنسان من أن يسأل غيره وأفضل ما يتزود به الإنسان أن يتزود بالتقوى
كما قال عز وجل :
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ }
{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ } أمرهم بالتقوى والتقوى فعل أوامره واجتناب نواهيه
{ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } لأن الخطاب إنما هو لأصحاب العقول
ولذلك سمي العقل لبا لأن اللب هو خلاصة الشيء ومعلوم أن أفضل ما لدى الإنسان هو عقله ، وعقله في قلبه كما سيأتي خلاف أهل العلم في ذلك { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) }
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي ليس عليكم إثم { أَنْ تَبْتَغُوا } أن تطلبوا
{ فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } الفضل هنا هو التجارة ، وذلك لأنهم سألوا لو أننا حججنا وتاجرنا أيكون في ذلك حرج وإثم ؟
فخفف الله عليهم فبين أن من حج وأضاف إلى حجه المتاجرة فإنه لاجناح عليه
ولاشك أن تخصيص الحج دون أن يصحب معه مثل هذا الغرض لاشك أنه أرفع منزلة
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وهذا الفضل وهذه التجارة وهذا الخير إنما هو من عند الله والإنسان فقط مأمور بفعل الأسباب
{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }
{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ } أي دفعتم
(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) والمشعر الحرام هو الجبل الذي في مزدلفة ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام إذا صلى الفجر أتاه وذكر الله عز وجل ودعا الله عنده حتى يسفر جدا ثم ينطلق عليه الصلاة والسلام إلى منى
(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) وهو مشعر لأنهم كانوا في أول الأمر جعلوه علامة لهم لمعرفة مزدلفة
(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )
( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) وقد مر معنا قول الله عز وجل { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } فهداية الله للعبد من أفضل ما يكون وتلك الهداية من الله تستوجب على العبد أن يذكر الله وأن يعظم الله ومن أعظم ما يذكر الله به التوحيد
(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) أي من قبل هذا الهدى ولا تعارض بينه وبين من قال (مِنْ قَبْلِهِ) الضمير يعود إلى القرآن أو إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهي أقوال متلازمة
(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) قال الله عز وجل { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
{ ثُمَّ أَفِيضُوا } أي من عرفة { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }
وذلك أن قريشا يقولون : نحن أهل الحرم فلا نخرج من الحرم يقولون نبقى في مزدلفة ؛ لأن مزدلفة من الحرم ، ولا نخرج إلى عرفات ؛ لأن عرفات من الحل فقال الله { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }
و( ثم ) هنا أتت بعد ذكر مزدلفة ، ومعلوم أن الوقوف بعرفة أسبق من الوقوف بمزدلفة ثم هنا ليست للترتيب الزمني
الترتيب الزمني كما لو قلت : جاء زيد ثم عمرو أي جاء زيد أولا ثم هناك وقت بين مجيء زيد ثم جاء عمرو لكن هنا ترتيب ذكري لا يستلزم منه الزمن ، وهذا يكثر وهو الترتيب الذكري يكون في العطف بين الجمل
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }
وهذا نظيره من باب التقريب { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) }
أخَّر الإيمان ليس تأخيرا زمنيا لأن الإيمان مطلوب لأن تلك الأعمال لا تصح إلا بالإيمان وبالتوحيد
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}
وبعض العلماء يقول { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي ثم أفيضوا من مزدلفة إلى منى لكن القول الأول هو الأقرب
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أمروا بالاستغفار ، وذلك بعد الفراغ من العبادة
وذلك نحن نقول بعد السلام من الصلاة : ” أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله “
وذلك لأن العبد قد لا يقوم بهذه الشعيرة وبهذه العبادة على أكمل الوجوه فأمر بالاستغفار من باب أن يرقع ما يكون من خلل في تلك العبادة
لكن ليعلم أن هذا الاستغفار لا يكون بعد أي عبادة إلا إذا نص عليها الشرع حتى لا يقع العبد في البدعة لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))
{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } :
اسمان من أسمائه عز وجل :
(غفور ورحيم ) فهو عز وجل يغفر الذنب وهو يرحم وإذا اجتمع هذان الاسمان فإن الغفور يدل على مغفرة الذنوب وإزالة الذنوب والرحمة تأتي بالخير
ولذلك نحن نقول بين السجدتين : ” رب اغفر لي وارحمني “
فالمغفرة إذا أتت وحدها تتضمن مغفرة الذنب وحصول الخير
وكذلك الشأن في الرحمة لكن إذا اجتمعتا فيكون هذا التفريق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) }
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } أي فرغتم من مناسك الحج
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } ولم يقل : ” منسككم ” مما يدل على أن المشاعر في عبادة الحج متعددة ، ويطلق عليها من أن هذا نسك كذا وهذا نسك كذا نسك الطواف نسك السعي ونسك الرمي وما شابه ذلك
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
هذا من باب تنبيه أولئك الذين كانوا في الجاهلية يذكرون آباءهم ذكرا عظيما من باب بيان مكانة آبائهم
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في خطبته في عرفة بين عليه الصلاة والسلام أنه لا تفاخر بالأحساب ولا بالأنساب وحذر من ذلك في أحاديث كثيرة منه عليه الصلاة والسلام
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
ليكن ذكركم لله عز وجل كذكركم لآبائكم أو أشد ذكرا بمعنى أنه يكون أشد ذكرا أو أنه لا ينقص من أن يكون كذكركم لآبائكم
بل قال بعض العلماء : { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } من باب ماذا ؟
من باب أن الطفل لا يذكر على لسانه إلا أباه فدل هذا مع هذا دل على أن الذكر لا يكون إلا لله عز وجل وحده ويكون العبد في هذا الذكر مخلصا لله
{ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } ثم ذكر عز وجل ما يكون فيه أحوال الناس إذا انقسموا إلى قسمين
{ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) }
{ آتِنَا فِي الدُّنْيَا } ولم يقيد يريد أي شيء من الدنيا ولو كان هذا الشيء في الدنيا ولو كان ذميما ولو كان قبيحا أهم شيء أن يتحصل على أغراض
{ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) }
أي من نصيب لأن غرضه فقط الدنيا
كما قال عز وجل :
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ } وهذا هو الصنف المؤمن الذي أراد الخير وأراد وجه الله وأراد الآخرة
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }
قيد بالحسنة ، والحسنة تشمل كل حسن من زوجة صالحة من مال طيب من علم نافع ينتفع به فهو شامل وتتضمن أيضا هذه الحسنة التي طلبوها في الدنيا تتضمن دفع المكروه كما أنها في ظاهرها تكون للشيء المحبوب أيضا تتضمن دفع الشر عنه
ولذلك ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه دخل على رجل من أصحابه رضي الله عنهم وإذا به كالفرخ من المرض فقال :
(( يا رسول الله إني قلت يارب أي عذاب ستعذبني في الآخرة فعجل به لي في الدنيا ، فقال عليه الصلاة والسلام : إنك لن تستطيع ذلك ألا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة ))
هذا يتضمن دفع الشر بدلالة هذا الحديث { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
{ وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً }
وحسنة الآخرة أعظمها دخول الجنة وأعظم من ذلك أن يرى الله
وأيضا يتضمن ما يكون من حسنة في الآخرة أنه يجنب تلك الأهوال
{ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ } في يوم القيامة
{ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
{ وَقِنَا } أي نجنا ونحنا من عذاب النار
وأما ما ذكره بعض العلماء في تخصيص قوله : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } يعني الزوجة الصالحة { وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } يعني : الحور العين
{ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
يعني المرأة السيئة في الدنيا فإنه ولا شك أنه بعيد عن المقام
وإنما الصحيح ما ذكرناه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }
{ أُولَئِكَ } من ؟ الذين طلبوا الحسنة في الدنيا وفي الآخرة
{ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ } أي حظ { مِمَّا كَسَبُوا } { مِمَّا } أي لأجل ما كسبوا وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن العبد له مشيئة وله كسب خلافا للجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور على فعله فإنه لما حرك يده كاتحريكي ليدي قالوا إنما هذا يكون بمثابة الرعشة ويكون بمثابة تحرك الأشجار وليس للعبد إرادة ، كلا
أنا أردت أن أرفع يدي لكن لا يمكن أن أرفع يدي إلا إذا أراد الله
ولذلك :
ذلكم الرجل الذي في صحيح مسلم لما أكل بشماله فقال عليه الصلاة والسلام: (( كل بيمينك ))
قال : لا أستطيع
قال : (( لا استطعت ))
فما رفعها إلى فيه
أراد أن يرفعها لكن لم يستطع لأن الله لم يرد ذلك
{ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } فيحاسب الناس بأسرع ما يكون وذلك لأنه عز وجل لا يكون كالمخلوق يحتاج إلى استذكار أو أنه ينسى بل هو الكامل عز وجل الذي أحاط بكل شيء علما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } أمروا بالذكر في هذه الأيام المعدودات وهي أيام التشريق
أما قوله عز وجل : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }
فهذا على رأي الجمهور كما سيأتي معنا في الحج هي عشر ذي الحجة
أما هنا { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } المذكور منها أيام التشريق ومن الذكر في أيام التشريق التكبير
ولذلك :
قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم :
(( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل ))
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} بمعنى أنه رمى اليوم الثاني عشر ثم خرج قبل غروب الشمس خرج من منى
{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } فلا حرج عليه
{ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } : أيضا من تأخر فلا إثم عليه
ولا شك أن التأخر أفضل لفعله عليه الصلاة والسلام ولأنه أكثر عبادة ولكن قيد ذلك كله بالتقى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } فالعبرة بالتقوى متى ما تحققت التقوى تحقق كل خير سواء كان الإنسان متعجلا، إن تعجل مع التقوى وتأخر بدون التقوى فالتعجل أفضل
وإن حصلت التقوى في التعجل في يومين أو في ثلاثة أيام فلا شك أن التأخر أفضل
ثم قال { لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ } أمروا بالتقوى في جميع أحوالهم ليست التقوى محصورة في قضية عبادة معينة
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا } أمروا بأن يعلموا لأن هناك أمرا عظيما كما يقال لإنسان تنبه لأن هناك أمرا عظيما يجب أن تستحضر القلوب له وأن تحضر القلوب له
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي تجمعون وذكر الحشر هنا للتذكير بالحشر يوم القيامة ؛ لأنهم انصرفوا من مكان اجتمع الناس فيه وذلكم المكان ، وذلكم الزمن ذكرهم بالحشر إذ إنهم ما كانوا يلبسون ، وكلهم في لباس وعلى لباس واحد الإزار والرداء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) }
تلك الأحكام السابقة الناس انقسموا فيها على قسمين
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } وهذا هو حال أهل النفاق
{ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ }
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } :
الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصح له الخطاب له ممن هو حريص على الإيمان ، فالعجب ليس من أجل فصاحته ، لا ، العجب أو التعجب والخيرية في هذا التعجب أو الاستحسان في هذا التعجب إنما لأنه أظهر الخير بلسانه
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فقط قوله إنما هو حسن في الحياة الدنيا لكنه إذا أتى إلى الله عز وجل يوم القيامة فإن قوله يكون وبالا عليه
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ } انظر إلى عظم الطغيان وعظم الذنب وعظم الظلم إذ إن الإنسان إذا بعد عن شرع الله عز وجل طغى وتكبر وتقول على الله { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } يشهد الله أن ما في قلبه هو نفس ما يقوله بلسانه من الحق وقد كذب
{ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } وهذا يدل على أن هذا الرجل لم يعظم الله لأنه لو عظم الله ما نسب إلى الله هذا القول الذي قاله
{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}
{ أَلَدُّ } أي شديد الخصام فهو شديد الخصومة وهو بغيض عند الله
بغيض عند الله من هو شديد الخصومة فكيف بمن أشهد الله كذبا يظن أن الله لا يعلم
وهذا يدل على أنه ما عظم الله
ولذلك النبي عليه الصلاة السلام كما ثبت عنه في الصحيح قال :
(( إن أبغض الناس عند الله الألد الخصم ))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) }
{ وَإِذَا تَوَلَّى } : المفسرون يقولون هذه نزلت في الأخنس بن شريق قال هذا القول
وعلى كل حال سواء نزلت فيه أو في غيره فإنها وعظ وتذكير لمن اتصف بصفته
{ وَإِذَا تَوَلَّى } يعني انصرف عنك أو تولى يعني تولى ولاية
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ } انطلق في الأرض { لِيُفْسِدَ فِيهَا } يفسد في الأرض التي أمر الله عز وجل بإصلاحها (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا )
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ } يعني الزرع
{ وَالنَّسْلَ } يعني البهائم لأنه لما انصرف عن النبي عليه الصلاة والسلام مرعلى زروع قوم بينهم وبينه خصومة فأحرق زرعهم وقتل بهائمهم
{ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ }
وقد قال عز وجل { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } وإذا كان لا يحب الفساد فإنه يحب الصلاح والإصلاح وأهل الصلاح
{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وهذا الرجل جمع بين سيئتين بين سيئة القول لما تكلم بالكلام الحسن على أنه من أهل الإيمان وجمع مع ذلك سيئة الفعل { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) }
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ } يعني مع تلك الأفعال وتلك الأقوال المشينة إذا قيل له اتق الله حتى ينصرف عن هذا الفعل السيء وعن هذا القول السيء
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } أي أخذته العزة على العمل بالإثم وكذلك لما في قلبه من العزة التي دعته إلى أن يقع في الإثم وقيد هنا { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } لِمَ ؟
لأن هناك عزة محمودة عزة أهل الإيمان فهم أعزاء بمعنى أنهم يحبون أهل الإيمان وهم أعزاء على أعداء الله
ولذلك قال تعالى { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }
وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ }
يعني ليطلبها من الله وقال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }
ولذا :
من أبغض الكلام أن يقال للإنسان اتق الله فيقول عليك بنفسك
ثبت في الحديث حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( إن أبغض الكلام عند الله أن يقال للرجل اتق الله فيقول عليك بنفسك ))
{ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ } أي كافيه { جَهَنَّمُ } جهنم تكفي هذا الذي تكبروأفسد بقوله وبفعله
ولذا قال عز وجل :
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ 5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) }
أمثال هؤلاء تحطمه النار
ولذلك النار أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من أنها احتجت مع الجنة فقالت : (( يدخلني المتكبرون ))
{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } بئس فعل ذم المهاد يعني الفراش كالمهد الذي يلف فيه الطفل فهو بحاجة إلى المهد فهؤلاء مهادهم ومقرهم النار
وبئس المقر وبئس الفراش وبئس المهاد النار
{ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } ولذلك قال عز وجل { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } هذا الصنف الآخر الذي هو خلاف الصنف السيء
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي } يبيع لم يقل يشتري { مَنْ يَشْرِي } بمعنى كما مر معنا يشري يعني يبيع
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } يبيع نفسه لغرض { ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } يرجو ما عند الله
المفسرون يذكرون أنها نزلت في صهيب الرومي رضي الله عنه لما أراد أن يهاجر قالوا أتيتنا وأنت فقير فلا تخرج
فقال : أدع لكم أموالي وتتركونني فأخذوا الأموال وتركوه
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } وهذا لا يخص صهيبا وإنما هوعام في كل مسلم
فمن باع نفسه ابتغاء مرضات الله عز وجل دخل في هذا الأمر
من باع نفسه فجعل وقته كله للعلم ولنشره ولبيانه ولتوضيحه فإنه يدخل ضمن هذه الآية
من جعل نفسه لله عز وجل وأوقف نفسه لله من أجل أن يدافع عن دين الله وأن يصد البدع وأن يترك ما يفعله غيره من الحرص على الدنيا فإنه يدخل ضمن هذه الآية
من أنفق أمواله ابتغاء وجه الله كل ذلك يدخل
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } يبيع نفسه
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
مع هذا كله فمن باع نفسه لله فالله عز وجل أرحم به من نفسه ومن والدته { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
اسم الرءوف يتضمن صفة الرأفة ، وصفة الرأفة أخص كما قال العلماء من الرحمة ولعل ما ذكروه من أنها أخص دلالتها كما يظهر لي من قوله تعالى في قضية إقامة الحدود :
{ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } ولم يقل رحمة بمعنى أنه لا يقع في قلوبكم أخص ما يكون من الرحمة
{ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
رءوف ليس بهذا وحده بل هو عز وجل رءوف بالعباد فمن أقبل على الله ومن أطاع الله ومن جعل قصده لله ولو فاته ما فاته مما يكتسبه الناس من الدنيا أو ما يناله ما يناله من التعب والنصب ابتغاء مرضات الله فإن الله سيكافئه
ولذا ختم الآية بقوله { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
هنا أثنى عليه ولم يذكر ثوابه وإنما ذكر اسما من أسمائه عز وجل
مما يدل على أن الاسم إذا ذكر في الآية اسم الله إذا ذكر في الآية فإن له ارتباطا
{ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
فرحمته عز وجل ستكون لهذا ولغيره