التفسير المختصر الشامل ( 31 )
تفسير سورة آل عمران
من الآية ( 1) إلى الآية ( 13)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة آل عمران
تفسير سورة آلأ عمران
قوله تعالى :
{ الٓمٓ١ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ٢ }
{ الٓمٓ } مر الحديث عن هذه الحروف المقطعة في أول سورة البقرة
{ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ } لا معبود بحق إلا هو
{ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ } اسمان { ٱلۡحَيُّ } يتضمن : الصفات الذاتية لله
{ ٱلۡقَيُّومُ } يتضمن الصفات الفعلية لله عز وجل
ولذلك قال من قال من أهل العلم من أن الاسم الأعظم هو { ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ } ومر هذا مفصلا في قوله تعالى في سورة البقرة { وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ١٦٣ }
ومر تفسير ما يتعلق بقوله تعالى { ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ } وما فيها من فوئد في آية الكرسي { ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ }
{ نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ٣ مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ٤ }
{ نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ } أي نزل عليك يا محمد الكتاب وهو القرآن
{ نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ } فتنزيله حينما أنزل في ثنايا نزوله بحق وهو متضمن الحق
كما قال عز وجل { وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ }
{ مُصَدِّقٗا } أي هذا الكتاب { لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ } من الكتب السابقة
{ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ } قال هنا { وَأَنزَلَ } لم يقل نزل ، وذلك لأن كلمة ” أنزل ” تدل على أنها نزلت جملة واحدة بينما كلمة ” نزل ” تدل على أنه نزل حسب الوقائع والأحداث ، يعني نزل منجما يعني مفرقا
وقد يوصف القرآن بالفعل أنزل { إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ١ } [القدر:1]
باعتبار أنه نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم بعد ذلك نزل مفرقا
وبعض المفسرين يقول : ليس هذا الكلام صائبا ؛ لأن الله عز وجل قال { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا٣٢ }
{ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗ } وذكر نزل التي تدل على ماذا ؟ على التنجيم
فالجواب عن هذا :
من أن كلمة { جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗ } وضحت كلمة نزل من أنه نزل جملة واحدة
{ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ٣ مِن قَبۡلُ } أي من قبل القرآن
{ هُدٗى لِّلنَّاسِ } أي في زمانهما ، ولذلك قدم { مِن قَبۡلُ } يعني أن هداية التوراة والإنجيل في ذلكم الزمن لكن بعد مجيء هذا القرآن فهذا القرآن نسخ الكتب السابقة
ولذلك قال عز وجل مبينا أن هذا القرآن هيمن على الكتب السابقة
{ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ }
ومن ثم :
إذا وصفت التوراة والإنجيل كما قال عز وجل : { وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ }
وما شابه ذلك من الآيات لو حاججك شخص لأن العقلانيين كثروا في هذا الزمن ، فلو قال في القرآن ما يدل على أن التوراة والإنجيل فيها النور والهدى فهذا هو الجواب { هُدٗى وَنُورٞ } باعتبار الزمن السابق
{ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ } { ٱلۡفُرۡقَانَ } : قال بعض المفسرين : القرآن ، وكرر من باب الثناء على القرآن
والذي يظهر القول الآخر { وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ } أي أنزل الكتب كلها لأن الكتب السماوية بها الفرقان التفريق بين الحق وبين الباطل ولاشك أن القرآن فرقان وجاءت الآيات في ذلك { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ }
{ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ }
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ }
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ } شامل لآياته الشرعية مما جاء في الكتاب والآيات الكونية مما خلقه عز وجل وفي هذا تعريض بمن ؟
تعريض بأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، ولاسيما النصارى لأن أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية نزلت في نصارى نجران لما أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في آخر حياته
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ }
شديد من حيث النوع من حيث نوع العذاب ومن حيث قوته
{ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ } قوي ، العزيز هو القوي الغالب الذي لا ينال بسوء
وإذا شاء أن ينتقم من أحد قال تعالى { وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيۡهِ }
{ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ }
{ ذُو ٱنتِقَامٍ } لمن شاء أن ينتقم منه فلا أحد يستطيع أن يرد ما قضاه الله عز وجل وقدره على أحد
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ٥ } [آل عمران:5]
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ } { شَيۡءٞ } نكرة في سياق النفي فتعم أي شيء مهما صغر وكبر
{ وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى٧ } [طه:7]
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ٥ }
ولذلك إبراهيم ماذا قال عليه السلام { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِي وَمَا نُعۡلِنُۗ }
وإذا أيقن العبد واعتقد بأن الله لا يخفى عليه شيء هنا يجعله أكثر مراقبة لله عز وجل وإقبالا على الله وإيمانا بالله وتعظيما لله عز وجل
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ٥ }
{هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ٦ } [آل عمران:6]
{ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ } من حيث الأنوثة من حيث الذكورة من حيث الأطوار من حيث نقصان الجنين من عدم ذلك
ولذلك قال : { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ }
ولذلك قوله { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ } يدل على إثبات صفة التصوير لله
ولذلك عظم الوعيد الشديد في حق من يصور
(( ومن أظلم ــ كما في الحديث الصحيح ــ ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة أو ليخلقوا ذرة ))
والأحاديث في التصوير واضحة وبينة
ولذلك حتى من أسمائه المصور كما في أواخر سورة الحشر
{ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ }
هذا التصوير بينه عز وجل في سورة الحج : { يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا }
وبينه عز وجل في أول سورة المؤمنون :
{ ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ١٤ }
{ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ }
أي لا معبود بحق إلا هو { ٱلۡعَزِيزُ } القوي الغالب الذي لا ينال بسوء
{ ٱلۡحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء في مواضعها ، ومن ذلك قدرته عز وجل
كيف صور ما يكون في الأرحام وحكيم : إذ جعل هذا الجنين أنثى أو جعله ذكرا أو جعله ناقصا أو جعله كاملا
وفي هذا التعريض بنصارى نجران إذ بهذا بيان من أن عيسى مصور في الرحم فكيف يكون إلها ؟
{ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ } ومنهم عيسى عليه السلام
ولذلك ستأتي آيات تبين هذا الأمر
ومن كان العزيز القوي فإنه هو الذي يستحق الألوهية ويستحق العبادة
ولذلك قال تعالى : { مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ }
ــــــــــــــــــــــــــــــ
{ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ٧ } [آل عمران:7]
{ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ }
هذه الآية اختلف فيها المفسرون اختلافا كثيرا ، ولله الحمد واضحة جدا ما هي المحكمات ؟ وما هي المتشابهات في هذا القرآن ؟
لكن لتعلم أن الله أطلق على هذا القرآن بأنه كله متشابه { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا } ووصفه بأنه كله محكم{ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُ }
فهو محكم من حيث الإتقان ليس به عوج
قال عز وجل { وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ١ قَيِّمٗا } وقال عز وجل عن القرآن { قُرۡءَانًا عَرَبِيًّا غَيۡرَ ذِي عِوَجٖ } فهو محكم متقن
ولذلك قال تعالى { لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ٤٢ }
وهو متشابه من حيث الحسن والإتقان ويشبه بعضه بعضا
أما هنا قال { مُّحۡكَمَٰتٌ } وقال { مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ }
{ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ }
فاختلف في ذلك :
قيل المحكمات ما يتعلق بالتوحيد كما قال عز وجل { قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ } إلى آخر الآيات
واختلف في ذلك فيما يتعلق بالمتشابه
فالمحكمات هي الآيات الواضحات البينات واضحة المعنى
أما المتشابه فهي ما خفي معناها ليس على الأمة ، لكنها تحتاج لبيان ما خفي معناها وتحتاج إلى دليل يوضحها
فالمحكمات : هي الواضحة من حيث المعنى فمعناها واضح
المتشابهات : هي التي خفي معناها وتحتاج إلى دليل من أجل أن يتضح هذا المعنى
{ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ } أي المحكمات
{ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ } أصل الكتاب ، فالأكثر في الآيات الوضوح وضوح المعنى
ولذلك قال { هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ } ولم يقل ( أمهات الكتاب ) لأن الآية الواحدة بمثابة الأصل
{ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ } أي من الآيات { مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ }
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ } القلوب إذا فسدت وزاغت قال تعالى { فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ }
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ } يتبعون المتشابه مع أنه قليل ويدعون المحكم ، وهذا من الزيغ
وأيضا من الزيغ الذي في قلوبهم { ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ } يطلبون الفتنة أن يوقعوا الناس في الفتنة في الشرك بالله عز وجل في التشكيك في دين الله عز وجل
لم ؟
لأنهم يقولون نحن نستدل بالآيات ، لكن أي آيات ؟ المتشابهة ، كحال العقلانين في مثل هذا الزمن
{ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ }
أي { ٱبۡتِغَآءَ } طلب تفسير هذا المتشابه لأن التأويل يطلق على التفسير
ولذلك قال الصحابي رضي الله عنه في حجة الوداع قال : ( وفينا رسول الله عليه الصلاة والسلام ينزل عليه الكتاب ويعلم تأويله )
قال تعالى { نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ } أي التفسير
ويطلق التأويل على ما يؤول إليه الشيء من عاقبة{ هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُ} يعني هل ينظر هؤلاء الكفار إلا تأويل أي عاقبة ما ذكر لهم في هذا القرآن يوم القيامة يستبين لهم هذا الأمر
{ هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ }
وهناك نوع من التأويل الباطل وهو في الحقيقة تحريف لكنهم يسمونه تأويلا بحيث يروج على الناس كمن قال في قوله تعالى وهذا كمثال { ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ٥ } قال استولى
يقولون هذا تأويل هذا تحريف
{ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ }
هل يصل الإنسان بمعنى { وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ }
يعني يعلمون تأويله فتكون الواو عاطفة
أو{ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ } يقف ثم يستأنف الواو استئنافية{ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ }
قيل بهذا وقيل بهذا
ولكن كيف لا يعلم الراسخون في العلم وهم راسخون في العلم كيف لا يعلمون المتشابه ؟
فإذا لم يعلم الراسخون ما يتعلق بهذا المتشابه مما خفي معناه فإذن من يعلمه ؟
والصحيح أن قوله تعالى { وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ }
المتشابه نوعان : متشابه حقيقي ومتشابه نسبي
المتشابه الحقيق هو الذي لا يعلمه إلا الله كحقيقة ما يكون في يوم القيامة
{ فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٧ } نعرف أن في الجنة ثمارا ؟ نعلم ، لكن كيفيتها { فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُن }
في الحديث الصحيح :
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ))
كيفية أسمائه وصفاته لا نعرف الكيفية هي لها كيفية لكن لا نعرف هذه الكيفية ، لكن نعلم معنى أسماء الله وصفاته
هذا هو المتشابه الحقيقي
فإذا كان هذا هو المقصود فيجب الوقف { وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ } ثم نستأنف { وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ }
أما إذا كان المقصود المتشابه النسبي وهو خفاء بعض معاني الآيات
فهذه يعلمها الراسخون في العلم لأنه متشابه نسبي لأنه ليس هناك شيء متشابه على الأمة في القرآن وهو المتشابه النسبي
{ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ } يعلمون تأويله
ولذلك : ابن عباس رضي الله عنهما يقول : ” في القرآن ما لا يعلمه إلا الله تفسير لا يعلمه إلا الله ، وهناك في القرآن ما يعرف عن طريق لغة العرب ، وهناك ما لا يعذر أحد بجهله ، يعرفه عامة الناس ، وهناك ما يعرفه الراسخون في العلم ، وأنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله “
فاتضح الآن إن وصلت فالمراد المتشابه النسبي إن وصلت ، وإن وقفت فالمتشابه متشابه حقيقي
ولذلك هذا المتشابه النسبي بعض الناس يأتي إلى كمثال والأمثلة كيرة
مثلا قول النبي عليه الصلاة والسلام : (( أفلح وأبيه إن صدق ))
فيقول : يجوز الحلف بغير الله
يأخذ بهذا الحديث الواحد ويترك الأحاديث الكثيبرة التي حرمت الحلف بغير الله من باب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
يأتي إلى أحاديث التصوير قال عليه الصلاة والسلام : ( إلا رقما في ثوب )
فيأخذ هذا الحديث ويدع الأحاديث الواردة الكثيرة في تحريم التصوير
هذا هو من في قلبه زيغ
ولذا قال عز وجل { وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ }
{ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ } انظر { وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ }
ليسوا علماء وإنما هم راسخون في العلم يعني بلغوا قوة عظيمة في العلم والرسوخ يدل على الثبات والتثبت مما يدل على أن هؤلاء جمعوا بين العلم وبين العبادة
{ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ } آمنا بالمحكم وبالمتشابه
{ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ } وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض إنما التناقض في شأن من في قلبه زيغ ، ولذا قال عز وجل عن القرآن { قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا٨٨ } [الإسراء:88]
وقال تعالى { وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا }
وقال تعالى { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ٦ }
فكيف يكون هناك تناقض ؟
ولذلك هؤلاء هم أهل العلم جمعوا بين رسوخ العلم وبين الإيمان والتصديق بالله عز وجل
{ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ } ولكن الموفق من وفقه الله { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ } وما يتعظ بذلك إلا أصحاب العقول
وأصحاب العقول هم كحال الراسخين في العلم
{ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ }
{رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ٨ } [آل عمران:8]
{ رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا } دعوا الله ، فالعبد محتاج مهما بلغ من قوة العلم والعبادة فهو محتاج إلى الله فتذكروا زيغ وهؤلاء الذين ضلوا في المتشابه وفي المحكم فسألوا الله ألا يزيغ قلوبهم كما أزاغ الله قلوب هؤلاء
{ رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا } أي لا تمل قلوبنا عن الهدى
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في الحديث الذي لا بأس به كان أكثر ما يقول : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ))
{ رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا } القلوب لأنها محل التلقي
{ وَهَبۡ لَنَا } أعطنا هبة من عندك { وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ } شاملة
هب لنا من لدنك رحمة فنحن محتاجون ومن ذلك من رحمتك أن تثبتنا وألا تزيغ قلوبنا ، ومن الرحمة أن تزيدنا علما وتوفيبقا
{ وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ }
توسلوا باسم من أسمائه عز وجل وهو الوهاب ، وقد مر معنا في الآية السابقة أقسام التوسل
وهذه الآية جاء في موطأ الإمام مالك أن أبا بكر رضي الله عنه دعا بها قال النووي إسنادها صحيح ، دعا بها في الركعة الثالثة من صلاة المغرب لما قرأ في الركعتين الأوليين بعد الفاتحة من قصار المفصل قرأ {رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ٨ } فقال بعض العلماء : هذه تقرأ باعتبار أنها من الآيات
وبعضهم قال إنما قال بهذا من باب أنه كان يقنط من أجل ما جرى من المرتدين ممن ارتد بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام
والصحيح الذي يظهر من أنها قرءاة لأنها لو كانت قنوتا لبين في الحديث
ومن ثم فإنه لو أن الإمام أطال مثلا وأنت فرغت من الفاتحة في الركعة الثالثة من صلاة المغرب فاقرأ هذه الآية ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه قال : (( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ))
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ٩ } [آل عمران:9]
{ رَبَّنَآ } أعادوا اسم الله الرب من باب التكرار والثناء على الله وحاجة هؤلاء
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ }
تذكروا ما يكون في يوم القيامة والذي يردع الإنسان أن يتذكر ما سيؤول إليه مما يكون في يوم القيامة لأن الله عز وجل إذا أزاغ قلب العبد فهو الخاسر يوم القيامة
ولذلك تذكر من أنهم سيرجعون إلى الله
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ } وأكدوا ذلك { جَامِعُ ٱلنَّاسِ } أي كل الناس
{ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَوَّلِينَ وَٱلۡأٓخِرِينَ٤٩ لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ٥٠ }
{ هَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِۖ جَمَعۡنَٰكُمۡ وَٱلۡأَوَّلِينَ٣٨ }
{ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ } أي لا شك فيه فمجيئه حق
ولذلك قال تعالى : { ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا٨٧ } [النساء:87]
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ }
{ وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُ }
وهذا من باب الثناء على الله عز وجل فإنه لا يخلف هذا الميعاد وسيجازي كلا بحسب عمله
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡٔٗاۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ وَقُودُ ٱلنَّارِ١٠ } [آل عمران:10]
لما ذكر ما يتعلق بما يكون في يوم القيامة وأن الناس صائرون إلى الله فإن الكفار لن تفيدهم تلك الأموال وأولئك الأولاد من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡٔٗاۖ }
وانظر إلى أول السورة :
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ }
قال هنا { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ } لن تفيد
قال عز وجل { يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ٨٩ }
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡٔٗاۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ وَقُودُ ٱلنَّارِ١٠ } يعني حطب النار
ومر معنا في قوله تعالى في سورة البقرة { فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ }
{ إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي حطب جهنم
{كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ١١ } [آل عمران:11]
{ كَدَأۡبِ } أي كعادة الآيات هنا تذكر كفار قريش تذكرهم بما صب الله عز وجل من عذابه على آل فرعون ومن قبله
وهنا قال { كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ } يعني عادة هؤلاء وطريقة هؤلاء كطريقة آل فرعون ، ويدخل فيه فرعون ومن قبله { كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا } كما أنتم كذبت بالآيات كذب أولئك { كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ } ليس ظلما منه عز وجل
ولذا قال تعالى في سورة الأنفال { كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلّٞ كَانُواْ ظَٰلِمِينَ٥٤ } [الأنفال:54]
{ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ } في هذه الآية
ويذكر الله عز وجل حسب التأمل يذكر عز وجل حال آل فرعون ومن قبله وكثيرا ما يذكر ويذكر عز وجل هؤلاء الكفار كفار قريش الذين كذبوا بالنبي عليه الصلاة والسلام يذكر حال آل فرعون
والعلم عند الله لأنهم آخر من استئصل بالعذاب ، فالعذاب لم تستأصل به أمة من الأمم بعد آل فرعون { وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ }
فهذه لآية وغيرها من الآيات تدل على أن آخر أمة استأصلت بالعذاب آل فرعون ، ولذلك قال تعالى { هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلۡجُنُودِ١٧ فِرۡعَوۡنَ وَثَمُودَ١٨ }
لهذه العلة ولهذا السبب والله أعلم
{ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} شديد العقاب لمن خالف أنبياءه وكتبه
ولذلك في أول السورة { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ }
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ١٢ } [آل عمران:12]
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ }
قيل هي في اليهود وقيل في قريش ، والظاهر من سياق الآيات من أنها في اليهود ويدخل في ذلك كل كافر ومنهم كفار قريش
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ } لأن اليهود لما انتصر النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر قالوا : يا محمد إنك واجهت أقواما لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت أننا القوم فقال تعالى { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ }
وكما أن هذا الخطاب في ظاهره كما أنه موجه لليهود أيضا مثل هذه الآيات وجهت إلى كفار قريش قال تعالى في سورة الأنفال {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ٣٦ } [الأنفال:36]
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ } أي تهزمون لو واجهتم النبي عليه الصلاة والسلام
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ } فالهزيمة لكم في الدنيا والعاقبة لكم في الآخرة النار
{ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ } بئس فعل ذم
{ ٱلۡمِهَادُ } أي الفراش كالمهد للطفل وكالمأوى للإنسان فجهنم بئس المهاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ١٣ } [آل عمران:13]
{ قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ } لم يقل قد كانت لكم آية إما للفاصل { لَكُمۡ } أو بمعنى أن الآية البيان
{ قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ } الفئة مجموعة لأن الإنسان يفيء إليها يفيء إلى جماعته
{ قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } { فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهم النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في غزوة بدر
{ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ } وهم كفار قريش
{ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ } من الذي يرى ؟ هل الكفار يرون أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أضعافا لهم أو العكس ؟
أقوال للمفسرين في هذا وفي هذا
وهذه الاية في ظاهرها قد تشكل مع قوله عز وجل
{ إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ٤٣ وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ٤٤ }
فكيف يكون هذا مع هذا ؟
والذي يظهر لي من خلال الاختلاف الطويل من أن كفار قريش وهذا مشتهر في السير من أن كفار قريش أضعاف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهؤلاء فوق التسعمائة
لكن قال { يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ } { مِّثۡلَيۡهِمۡ } يعني مرتين
هذا أسلوب بمعنى { يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ } كما لو قلت عندي درهم وأحتاج إلى درهيمن وتكون ثلاثة ويكون المعنى من أن كفار قريش كان عددهم أكثر من عدد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أضعاف ، فنام النبي عليه الصلاة والسلام فرأى أن كفار قريش في غزوة بدر كانوا قليلا فأخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أصحابه ، فلما جاء وقت القتال أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يرون هؤلاء قلة طبعا في أول الأمر رأى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم أضعاف مضاعفة من أجل أن يتوكلوا على الله
ولذلك قال تعالى كما في سورة الأنفال :
{ إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ }
كيف يقدمون على أن يحاربوا مثل هذا العدد ؟
فرأوهم رأى أصحاب النبي عليه الصلا ة والسلام هؤلاء بهذا العدد الكبير من أجل أن يتوكلوا على الله
فأرى الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام بأنهم قلة فأخبرهم فالصحابة رضي الله عنهم لما التقى الجيشان قلل الله عز وجل عدد الكفار في أعين الصحابة وقلل أعداد الصحابة في أعين المشركين من أجل أن يقدم كل طائفة على الأخرى
فلما أقدمت ولذلك قال { وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ }
فلما التقوا هنا أرى الله بعد الالتحام أرى الله كفار قريش عدد الصحابة أضعافا مضاعفة من أجل أن يلقي الرعب في قلوبهم
وهذا هو الذي يجمع كل ما ذكره المفسرون وتجتمع بذلك الآيات
{ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ }
{ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ }
ولو شاء الله عز وجل لنصرهم من غير حرب
{ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ } عظة وموعظة { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ } أصحاب البصائر والبصيرة والبصر
{ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ } فكيف نصر الله عز وجل هؤلاء وهم عدد قليل بل ما كان معهم إلا فرسان وهم قليل العدد والعتاد ومع ذلك هي عبرة وعظة
وهذا يذكرنا بما مر معنا في تفسير قوله تعالى { كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ }