التفسير المختصر الشامل ( 35 )
تفسير سورة آل عمران
من الآية ( 38) إلى الآية ( 48)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ٣٨ } [آل عمران:38]
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ } { هُنَالِكَ } يعني : عند ذلك
عند ذلك لما رأى والإنسان يتأسى بغيره ويقتدي بغيره ويستفيد من غيره من أهل الخير ومن أهل الصلاح
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ } لما رأى ذلكم الرزق الذي يكون عظيما من حيث إما نوعه ، ومن حيث أيضا مجيئه من غير زمنه وهذا يظهر أيضا لأنه دعا ربه في زمن عمره لا يكون له ولد وامرأته عاقر فهذا مما يقوي من قال من أن هذا شيء من الفاكهة وهي فاكهة الصيف تأتيها في الشتاء والعكس
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ } ولا أحد يحتقر أحدا فإنها كانت امرأة ، وقد كفلها ومع ذلك لما رأى حالها وما رآه من رزق هنا تأسى بها ، فأهل الفضل يتأسون بأهل الفضل
ولو كان مع أن زكريا عليه السلام أفضل منها بلا شك لأنه نبي وأما مريم فقد اختلف في نبوتها كما سيأتي بيانه إن شاء الله والصواب أنها ليست بنبية كما سيأتي بيانه إن شاء الله
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ } يدل على ماذا ؟
يدل على أن العبد محتاج إلى الله في كل أحواله ، ولو كان له من الفضل والمكانة عند الله ما له فالعبد محتاج إلى الله ، وتأمل حال النبي عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه في غزوة بدر وما شابه ذلك ، مما يدل على أن العبد محتاج أن يدعو ربه
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي } أي أعطني { مِن لَّدُنكَ } من عندك { ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ } سأل الله عز وجل الذرية طيبة وقوله { ذُرِّيَّةٗ } هنا الذرية يدل على أنها تطلق على الجمع كما قال تعالى في الآيات السابقة { ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٖۗ }
وتطلق على الواحد لأنه سأل واحدا
في سورة مريم { إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ } وهذا الدعاء من زكريا عليه السلام على وجه الخفية ليس على وجه الإعلام
{ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا٣ قَالَ رَبِّ }
ففي سورة مريم تفصيل لما أجمل هنا { ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ٢ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا٣} الدعاء بنداء خفي ، ويتقرب إلى الله عز وجل بذكر حاله الضعيفة وما وصل إليه من السن
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا٤ وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي } أن يفسدوا دين الله ، وليس المقصود أن يمنعهم من الميراث كما أفسدت اليهود دين الأنبياء
{ وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا٥ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا٦}
فقال هنا : { ذُرِّيَّةٗ } المقصود من ذلك الواحد { ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ } ليست أي ذرية وإنما ذرية تكون طيبة ، ولذلك قال في سورة مريم : { وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا }
{ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } توسل إلى الله عز وجل وهذا هو أحد الأنواع الثلاثة في ما يجوز من التوسل كما مر معنا في الآيات السابقات
{ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } فهو يسمع الدعاء ويستجيبه ، يتضمن ذلك الاستجابة كما نقول : سمع الله لمن حمده بمعنى : استجاب الله لمن حمده
يتضمن ذلك أنه سميع فهو يسمع
{ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ٣٩ } [آل عمران:39]
{ فَنَادَتۡهُ } بحرف الفاء الذي يدل على الترتيب ، والتعقيب مما يدل على ماذا ؟ مما يدل على رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده
ومن ثم : فإن العبد مهما بلغ من الحالة السيئة بالنسبة إليه فلا يستعظم أمرا فيسأل الله عز وجل
{ فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ } الملائكة هنا قيل نداء من جميع الملائكة ، وهذا محتمل للفظ الآية
وقيل : جبريل باعتبار أنه يطلق على الواحد يطلق عليه لفظ الجمع كما قال تعالى { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } وهو نعيم بن مسعود { إِنَّ ٱلنَّاسَ } يعني أبا سفيان { قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ }
ولذلك ماذا قال تعالى ؟ قال { يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ } الذي ينزل الوحي من هو ؟ جبريل عليه السلام
فعلى كل حال ، قال عز وجل هنا :
{ فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ } انظر جملة حالية ، دل هذا على ماذا ؟ على عظم الصلاة فإن الملائكة نادته { وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ }
{ أَنَّ ٱللَّهَ } أي بأن الله { يُبَشِّرُكَ } والبشرى هي الخبر السار{ بِيَحۡيَىٰ }
ولذا قال تعالى { لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا }
{ يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا٧ }
وكلمة يحيى يدل على أن هذا سيحيى بإذن الله وحياته طيبة
{ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا } { بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا } بمن ؟
مصدقا بعيسى { مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ } يعني أن يحيى يصدق بمن ؟
بكلمة الله وهو عيسى ، لم ؟ لأن عيسى خلق بكلمة كن { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ٥٩ }
{ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ }
وأما ما يذكر من أن مريم لما حملت به وأتت عند امرأة زكريا وقالت امرأة زكريا ” إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك ” ، فهذا لا أعلم له دليلا صحيحا من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، ولاشك أن عيسى أفضل من يحيى
{ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا }
السيد : هو الذي جمع خصال السؤدد من الصفات الطيبة فيدخل في ذلك كل ما قاله المفسرون من الحكمة من العلم من الفهم كل ذلك يدخل
{ وَسَيِّدٗا } وانظر سبحان الله ! { قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ }
فسبحان الله ! أكرمه الله عز وجل بغلام وأي غلام ؟
له هذه الصفات : رضي ومصدقا بعيسى وسيد وحصور
{ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا } حصورا يعني من اسم الفاعل على الصحيح بمعنى أنه حصر نفسه عن الوقوع في الزنا خلافا لمن قال إنه محصور لا يشتهي النساء لعلة به ، وهذا لا يليق بالأنبياء ، وإنما الشرف أن يكون الإنسان قادرا على الوقوع في الفاحشة من حيث القدرة الجنسية وإذا به يمتنع ابتغاء وجه الله ، أما ما قيل من أنه على اسم المفعول بمعنى أنه ممنوع لآفة به وأنه عنين فهذا لا يليق بالأنبياء
{ وَحَصُورٗا } يمنع نفسه في الوقوع فيما يسخط الله ، طلب الذرية فقط طيبة وإذا بالبشرى تتلوها بشارات { وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ }
{ وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ }ولذلك ماذا قال عز وجل { يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا١٢ }
إضافة إلى تلك الصفات التي في سورة آل عمران لما قال في مريم
{ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا }
ما بعدها ؟ { يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا١٢ وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا١٣ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا١٤ }
ومع ذلك { وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ } سلام من الله عليه في مواطن تلك المواطن الثلاثة من أعظم ما يمر على الإنسان في حياته تلك المواطن حينما يخرج من بطن أمه ، وحينا يخرج من الدنيا ، وحينما يبعث { وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا١٥ }
فانظر إلى فضل الله عز وجل ، فأي إنسان يريد أن يتحقق له شيء ولو كان عظيما فلا يستعظم شيئا على الله
ولذلك في صحيح مسلم قال الله عز وجل قال : (( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد وسألني كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط ــ يعني الإبرة ــ إذا أدخلت البحر ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ٤٠ }
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ } أي كيف يكون لي غلام وليس هذا من باب الشك في قدرة الله عز وجل ، لا ، ولذلك ما قيل من أنه عوقب من أن لسانه حبس عن الكلام من أجل أنه قال هذا القول فليس بقول سديد ، إنما القول السديد من أنه سأل ربه عن الكيفية كما سأل إبراهيم عليه السلام { وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ}
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ }
انظر في سورة مريم { وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا }
هو الذي بلغ أشد العتي من السن
قال هنا { وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ } يعني أن الكبر هو الذي بلغ يعني أن الكبر تمكن منه ، ولذلك قال في مريم { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي } ضعف العظم مني { وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا }
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ }
يعني : لا تلد { وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ }
ولذلك يقولون :بيضة العاقر ، بيضة العاقر كما قال القرطبي إن صح ما قيل من أنها بيضة الديك يقولون : لا يبيض في حياته إلا مرة واحدة وهذا مشهور لدينا يقولون بيضة ديك ، بمعنى أنه يعني نادرة
والشاهد من هذا : فائدة لغوية إن صحت كما ذكر القرطبي
{ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ}
{ قَالَ كَذَٰلِكَ } أي ما ذكر لك من أنه سيكون لك ولد بهذه الصفات هو أمر الله ، وإذا قال الله عز وجل قولا { إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ٨٢ }
ولذلك في سورة مريم قال : { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا٨ قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ }
{ قَالَ رَبُّكَ } انتهى الأمر { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡٔٗا٩ } كنت في عدم فخلقتك ألا أخلق منك ومن زوجتك هذا الولد
وهذا بأمر الله عز وجل
{ قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ٤١}
{ قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ } علامة وآية
{ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ }
{ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ } أي مع الليالي لما في سورة مريم قال عز وجل :
{ قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا١٠ }
{ إِلَّا رَمۡزٗاۗ } يعني إلا إشارة
ولذلك قال عز وجل { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ } أوحى هنا أشار { فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا}
فحبس لسانه عن كلام الناس كآية وليس عقوبة كما مر
فحبس لسانه عن كلام الناس لكن ما حبس لسانه عن ذكر الله
ولذا قال بعدها { وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا } وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على فضل الذكر ، وأن الذكر من شكر نعمة الله
{ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ } أمر مع ذلك مع الذكر بالتسبيح القولي وأيضا بالصلاة ، وهذا يدل على أن من كان قبلنا لهم صلاة كما قال شيخ الإسلام ، والنصوص كثيرة كما سيأتي في قوله تعالى { يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ٤٣ }
لكنها صلاة تختلف من حيث هيئتها ، لكن عليهم صلاة ؟ نعم
ولذا قال تعالى : { وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَصَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا٥٤ وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ }
وقال عيسى : { قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا٣١ }
{ وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ }
{ بِٱلۡعَشِيِّ } هو من الزوال إلى الغروب
{ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ } من الفجر إلى وقت الضحى
{ وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ٤٢}
{ وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ } القول هنا من الملائكة هل هم جميع الملائكة أم جبريل ؟
مر معنا بيان ذلك في قوله تعالى عن زكريا { فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ }
{ وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ } قول الملائكة لمريم قال بعض المفسرين يدل على نبوتها
والصحيح : أنها ليست بنبية ، وذلك لأن الله عز وجل لما ذكر حالها مع حال ابنها قال { مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ }
فلو كانت نبية لذكر
وقال عز وجل : { وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ }
قال : { إِلَّا رِجَالٗا }
لكنها صديقة نعم
{ وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ } يعني اختارك
الاصطفاء هنا الاصطفاء الأول اصطفاء ذات كما اصطفى عز وجل غيرها
وهذا فضل من الله وفي هذا تمهيد ، تمهيد لم ؟ لأنها لم تحمل بعد فتمهيد لها من أنها إذا حملت من غير زوج لا يدل على سوئها أو خبثها بل إنها مصونة ومحفوظة من قبل الله فيما لو اتهمت بالزنا
ولذا قال تعالى { وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ }
سبحان الله !
يقول ابن القيم : ” إذا أراد الله أن يوقع شيئا قدر له أسبابه “
وقد تكون تلك الأسباب مؤلمة لكن في عواقبها الخير والرحمة
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ } وطهرك من الصفات الذميمة ومن ذلك الزنا والفاحشة
{ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ } كرر الاصطفاء هنا
الاصطفاء الأول اصطفاء ذات ، هنا اصطفاء على نساء العالمين
هل على كل العالمين بمعنى أنها أفضل من فاطمة وأفضل من عائشة وأفضل من خديجة ؟
قيل بهذا ، وبعضهم توقف في قضية فاطمة مع مريم
وخصوصا من يقول بأنها نبية تكون أفضل نساء العالمين
لكن على القول الآخر فيه خلاف ، ولذلك لها فضائل عدة
ولذلك : يقول ابن كثير في البداية يقول لو صح هذا الحديث مع أن بعض العلماء يصححه : (( سيدة نساء أهل الجنة فاطمة إلا مريم ))
يعني أن مريم أفضل منها
وعلى كل حال : ففاطمة لها فضلها وعائشة لها فضلها وخديجة لها فضلها
ومريم لها فضلها ، وآسية امرأة فرعون لها فضلها
ولذلك : قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه : (( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ))
وبعض العلماء جمع في قضة فاطمة وخديجة
فقال فاطمة أفضل باعتبار أنها بضعة من النبي عليه الصلاة والسلام
وعائشة أفضل باعتبار أنها نصرت الدين بما لديها من من العلم في آخر حياة النبي عليه الصلاة والسلام وبعد وفاته
وأما خديجة فهي أفضل باعتبار أول الأمر إذ نصرت النبي عليه الصلاة والسلام في أول البعثة
فعلى كل حال هؤلاء لهن فضل ولمريم فضل عظيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ٤٣ } [آل عمران:43]
{ يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي } القنوت هو الأمر بالطاعة والمداومة على هذه الطاعة
{ يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ } العبادة لا تكون إلا لله { وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ }
قدم السجود هنا على الركوع باعتبار كما قيل من أن صلاتهم لم يكن بها ركوع كما قال عز وجل عن بني إسرائيل في سورة البقرة { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ٤٣ }
وقيل إن الواو لا تقتضي ترتيبا ، وإنما قدم السجود أو الركوع فالواو ليست كالباء وليست كـ ” ثم “
الشاهد من هذا : أنه قال { وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ } أي مع المصلين ، وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن صلاة الجماعة لها فضل وأيضا قوله { وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ } لم يقل مع الراكعات من أجل أن يشمل هذا الركوع مع الذكور والإناث لأن الجمع الذي للذكور يدخل فيه الإناث وذكر السجود والركوع والسجود والركوع من أركان الصلاة
وليعلم : أنه متى ما ذكر الركوع أو ذكر السجود أو ذكر جزء ما يتعلق بالصلاة عن الصلاة فليعلم أن ذلكم الجزء ما أفرد إلا لأنه ركن من أركان الصلاة كما قال تعالى { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ } مما يدل عى أن هذا الجزء من هذه الصلاة يدل على أنه ركن
ثم هو ذكر عز وجل السجود والركوع بعد القنوت مع أن الصلاة من ضمن القنوت من باب بيان أهمية الصلاة
{ يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ } أمرها هل وفَّت ؟ نعم وفت { وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ١٢ } ولم يقل وكانت من القانتات من أجل أن يكون لها فضل إذ كانت من القانتين من الذكور ومن الإناث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ٤٤ }
ذلك يا محمد مما ذكر لك مما يتعلق بحال مريم وبحال زكريا { ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ } من أخبار الغيب
مما يدل على أنك رسول فأنت لما أخبرتهم بهذه القصص عن زكريا وعن مريم إنما ذلك لأنك رسول ونبي
{ ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ } { وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ } أي يا محمد { إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ } لما أتت امرأة عمران بمريم بعدما وضعتها وكان أبوها وهو عمران له شأن قالت دونكم هذه النذيرة فاختصموا فيها من يكفلها فأجروا القرعة وألقوا الأقلام ، ذكروا أن الأقلام رميت في النهر قالوا من وقف قلمه فهو الذي يكفلها فوقف قلم زكريا فإذن القرعة كانت بالأقلام
{ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ } هل هو في البحر هل هو في غير البحر ؟
لكن المفسرين يذكرون أن ذلك في الماء
{ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ }
من يكفلها ؟
{ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ } فكانت القرعة من نصيب زكريا عليه السلام
وفي هذا دليل على أن القرعة مشروعة خلافا لمن أنكرها
فنقول : هي مشروعة متى ؟ إذا كانت الأشياء مبهمة لا يعرف حق هذا من حق هذا ، أو حال الخصام
ولذلك : ثبت عنه عليه الصلاة والسلام (( أنه إذا أراد أن يسافر أقرع بين نسائه ))
والنبي عليه الصلاة والسلام قال كما ثبت عنه : (( لو يعلم الناس ما في النداء وفي الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه ــ أي يقترعوا عليه ـ لاستهموا عليه ))
فالقرعة دلت الأحاديث النبوية على ثبوتها بل في القرآن أيضا قصة يونس
{ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ١٤١ }
{ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ }
{ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ } في شأن مريم من يكفلها ، ولذلك كفلها زكريا عليه السلام
بعض أهل العلم لأن زوجة زكريا هي خالة لمريم ، والخالة بمنزلة الأم
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في ابنة جعفر جعل الكفالة والحضانة لخالتها فقال عليه الصلاة والسلام : (( الخالة بمنزلة الأم ))
قال هذا جملة من المفسرين يقولون زوجة زكريا هي خالة مريم
لكن :هذا فيه ما فيه ، كيف ؟
النبي عليه الصلاة والسلام كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في الإسراء والمعراج لما أتى قال : (( فرأيت ابني الخالة يحيى وعيسى ))
دل هذا على ماذا ؟ دل هذا على أن مريم أخت لزوجة زكريا إلا إن كان مقصودهم أن هذا من باب التوسع إطلاق اللفظ عليها فبها وإلا فالحديث واضح من أن زوجة زكريا هي أخت لمريم
{ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ } يا محمد { إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ } دل هذا على أن ما ذكر لك من هذا الخصام إنما هو من قبل الله ، ولذا قال عز وجل لما ذكر ما يتعلق بقصة نوح قال :
{ تِلۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهَآ إِلَيۡكَۖ مَا كُنتَ تَعۡلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوۡمُكَ مِن قَبۡلِ هَٰذَاۖ } أي من قبل هذا القرآن { فَٱصۡبِرۡۖ } على إنكارهم وعلى كفرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ٤٥ } [آل عمران:45]
{ إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ } هو عيسى لأنه مخلوق بكلمة كن ، وهذا هو أظهر ما يقال في هذا لأن النص واضح قال عز وجل : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ٥٩ }
{ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ } أي بكلمة من الله وفي هذا بيان أن عيسى مخلوق وليس جزءا من الله كما سيأتي بإذن الله بيان ذلك والرد على النصارى
{ ٱسۡمُهُ } لم يقل اسمها باعتبار الكلمة لأنه أصلا مما يدل على أنه مخلوق بكلمة كن
{ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ } إما لأنه ممسوح أي مسح باعتبارأنه مطهر من الذنوب ، أو باعتبار اسم الفاعل ماسح يعني يمسح المرضى فيعافيهم الله بإذن منه كما قال تعالى { وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ }
{ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ } صرح باسمه ونسبه إليها من باب التمهيد من أن هذا الابن ليس من رجل ، وإنما يخلقه عز وجل في بطنها كما ذكر عز وجل في سورة مريم : { وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا١٦ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا} يعني جبريل
{ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا} كلمة { رُوحَنَا } تدل على أن الأقرب في قوله { إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ } تدل على أن الأقرب هو جبريل
{ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا١٧ قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا١٨ }
إلى آخر الآيات كما سيأتي معنا
{ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا }
له وجاهة وله قدر في الدنيا باعتبار ما أكرمه الله من النبوة ومن إحياء الموتى بإذن الله ومن إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله
{ وَٱلۡأٓخِرَةِ } يعني وجاهته في الآخرة من أنه من أولي العزم من الرسل
وأيضا في حديث الشفاعة : (( لما يذكر الأنبياء يذكر كل نبي ذنبه وما فعل عيسى لم يذكر شيئا ، وإنما يقول : اذهبوا إلى محمد فهو عبد قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ))
فله وجاهة وله فضل
{ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ }فهو مقرب إلى الله عز وجل
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ٤٦ }
{ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا } انظر { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ }
تلك الصفات السابقة تدل على ماذا ؟ تدل على أن هذا الغلام له شأن عظيم من باب أن يخفف عنها
ولذلك : لما أتت إلى قومها كما سيأتي بيانه في تفسير سورة مريم استغربوا هذا الأمر
{ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا } { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ }
في المهد باعتبار أنها ماذا ؟ أنها معجزة ، يكلمهم على غير المعتاد
ولذا في سورة مريم لما أتت به : { فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡٔٗا فَرِيّٗا٢٧ يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا٢٨ فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا٢٩ قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا٣٠} الآيات
{ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ } وهو صغير وليس هذا بغريب
ولذلك قال عز وجل عن يحيى الذي اشترك معه في منزلته في الإسراء والمعراج { يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا١٢ }
{ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا } يعني ويكلمهم أيضا حال الكهولة
وذلك : بعد أن كان نبيا والكهل إما كما قيل من سن ثلاثين أو ثلاث وثلاثين إلى خمسين ، وليس الكهل المقصود منه هو من طعن في السن هذا خطأ
الكهل أعلاه وأشد الكهل أربعين سنة
فهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أنه أوحي إليه وهو كهل عليه السلام
والكهل كما قيل أو كما يتووهم من أنه من طعن في السن ، هذا خطأ
فمن كان من الخمسين إلى ثلاثا وثلاثين فهو كهل ، ومن تجاوز الخمسين فهو شيخ
ومن تجاوز السبعين فهو هرم ، ولا يلزم من الهرم أن يذهب عقله
لكن الذي يطلق عليه بأنه مخرف هو الذي ذهب عقله
{وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ٤٦ }
ولذلك ماذا قال عز وجل عن يحيى { وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ }
من جملة الصالحين ، وأعظم ما يكون من درجات الصلاح إنما يكون للأنبياء عليهم السلام ، والصالح : هو الذي قام بحق الله وقام بحق المخلوقين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ٤٧ } [آل عمران:47]
{ قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ } كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر
في سورة مريم { قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ }
دل هذا على أنه لما ذكر هنا ما يتعلق بالولادة ذكر هنا الولد باعتبار أول حاله وذكر لها بأنه غلام باعتبار أن هذا الولد سيبقى إلى أن يكون غلاما
{ قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ } لأن حصول الولد إنما يكون من الزواج قالت هنا { وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ }
يصدق على ماذا ؟ يصدق على الزاج ويصدق على الزنا
وهي طاهرة مطهرة وليست ذات زوج
ولذا صرحت بذلك في سورة مريم { قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا٢٠ } لم أكن زانية
{ قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ }
{ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ } كما قال عز وجل سيكون
ولذلك قال في سورة مريبم { وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا }
وتأمل هنا قال هنا { قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ }
في قصة زكريا { قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ }
صرح هنا بالخلق باعتبار أن عيسى هذا مخلوق من باب انتفاء أي شبهة من أنه ابن لله أو أنه هو الإله
ولذلك قال كذلك الله : { يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ } يعني هذا الولد إنما هو خلق من خلق الله عز وجل ، ولذلك قال عز وجل { رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ } ( كلمة كن ) { أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا١٧١ لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ }
{ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ }
فلا يعجزه شيء ، بكلمة كن
قال تعالى { وَمَآ أَمۡرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٞ كَلَمۡحِۢ بِٱلۡبَصَرِ٥٠ }
{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ٤٨ } [آل عمران:48]
تعداد لصفاته عليه السلام حتى تطمئن مريم حتى لا تظن أن هذا الولد عبء عليها وإنما به الخير
ولذلك في أول الأمر هو هذا الأمر في ظاهره أن به الشر ولذلك ماذا قالت { يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا }
لكن في عواقب الأمور السيئة أو الضارة أو التي لا تلائم الإنسان قد يمر بالإنسان ما يمر به مما لا يلائمه في حياته من مرض من فقدان مال أو مثلا من خسارة في تجارة أو ما شابه ذلك أو عدم تحصيل وظيفة أو ما شابه ذلك قد يكون هناك خيرات بل يكون هناك خيرات
فالله يخلق من الآلام المسرات
فانظر : حال مريم عليها السلام ومع ذلك كان لهذا الغلام ما له من الفضل
{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ٤٨ } { وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ٤٨ } الكتاب هنا قيل هو التوراة وعطفت تلك من باب تكرار الصفات لكن الصحيح { وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ } يعني الكتابة
والحكمة : الفهم والإصابة في القول والفعل
{ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ } التوراة أنزلت على من ؟ على موسى
والإنجيل أنزل على عيسى
وقوله { وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ٤٨ } [آل عمران:48]
قرن التوراة والإنجيل لعلم عيسى بهما لأن الإنجيل أتى لتكميل التوراة أو متمما للتوراة وما فيها من الأحكام
ولذلك : الله عز وجل بين من أن عيسى عليه السلام قال { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ }
فلم يأت الإنجيل ينسخ كل ما في التوراة وإنما أتى مبينا لبعض الأشياء التي تكون حلالا لبني إسرائيل
{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ } [آل عمران:48]