تفسير سورة آل عمران ــ الدرس ( 37 )
من الآية ( 64) إلى الآية ( 76)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } آل عمران: ٦٤
{ قُلْ } يا محمد لهؤلاء { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } { إِلَى كَلِمَةٍ } قال { كَلِمَةٍ } لم يقل إلى كلام مع أن المذكور أكثر من كلمة فيطلق على الكلام ولو كان أكثر من كلمة يطلق عليه كلمة كما قال عز وجل عن ذلك الرجل حال الاحتضار { رَبِّ ارْجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا }
ونحن نقول كلمة التوحيد وهي ليست كلمة واحدة وإنما هي لا إله إلا الله
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ }
وصفها { سَوَاءٍ } عدل ، نصف { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }
{ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا } ما تفسير هذه الكلمة ؟
{ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ } الكلمة التي نقول تعالوا نحن وأنتم فيها نصف إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ما هي ؟ أعظم الكلام { أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ } ما نعبد غيره
{ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } لأن البعض قد يعبد الله ويقع في الشرك مع أن كلمة العبادة تتضمن ترك الشرك ، لكن ذكر هنا الشرك من باب أن بعضهم قد يعبد الله ويشرك به عز وجل ، ولذا بعض الناس ربما يصلي ويصوم ويحج وما شابه ذلك وتجد أنه يقرأ القرآن ، ومع ذلك ربما يأتي إلى الأولياء فيدعوهم من دون الله ويستغيث بهم ، هنا أين التوحيد ؟ وأين العبادة ؟ تلك العبادة باطلة
{ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } فنحن مخلوقون ، ليس لنا نصيب من الربوبية ، الرب هو الله عز وجل
وفي هذا التنديد بحال من ؟ بحال أهل الكتاب
ولذا قال عز وجل عنهم { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }
هؤلاء المدعوون إلى هذه الكلمة
{ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وقعوا في هذا الأمر من باب تحذيرهم من الوقوع في هذا الأمر
قال تعالى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ }
ثبت قوله عليه الصلاة والسلام لما قال عدي يا رسول الله نحن لا نعبدهم لا نصلي لهم قال : ( أليسوا إذا حرموا ما أحل الله حرمتموه ، وإذا أحلوا ما حرم الله أحللتموه ؟ قال : بلى ، قال : فتلك عبادتهم )
فإذن قال هنا { وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي انصرفوا ، { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا } لهم : { اشْهَدُوا } وهذا تصريح { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
وهذا يتعين على الإنسان أن يصدع بالحق وأن يصدع بالتوحيد
لما قالوا { اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } دل على أنكم لستم بمسلمين لأننا قمنا بهذه الكلمة فإذا لم تقوموا بها فإنكم لستم من أهل الإسلام ، ولذا مر معنا نظير هذا في سورة البقرة { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ١٣٨ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ١٣٩ }
أما أنتم فلستم بأهل الإخلاص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 65 هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ66 مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 67 } آل عمران: ٦٥ – ٦٧
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ } استفهام إنكاري { لِمَ تُحَاجُّونَ } أي تجادلون
{ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ } من أن إبراهيم كما زعمتم على دين اليهودية والنصراينة كما ذكر عز وجل عنهم { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا }
وأنكر عليهم { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ }
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ } فكيف يكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا وهو أسبق بسنين طويلة جدا من نزول التوراة والإنجيل ، فالتوراة والإنجيل لمن تنزل إلا بعده
{ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أين عقولكم ؟
فلا يقول هذا القول إلا من ذهب عقله ؛ لأنه كيف يكون إبراهيم أسبق من نزول التوراة والإنجيل { وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ } فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا ؟
{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } دل هذا على أنهم أصحاب هوى
{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي في شأن موسى وعيسى من أنهم على اليهودية والنصرانية
{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } باعتبار أن موسى أنزلت عليه التوراة وعيسى أنزل عليه الإنجيل
{ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي في شأن إبراهيم
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} والله يعلم بحال إبراهيم ، وإبراهيم ، الله عز وجل عالم بحاله من أنه على الحنيفية
ولذلك ماذا قال عز وجل لما قالوا { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٣٥ }
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فعندكم الجهل لأنكم لم تأخذوا بكتاب الله
ولذلك ماذا قال عز وجل عنهم في أول السورة { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ٢٣ }
ثم برأ إبراهيم { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا } برأه مما قالته اليهود والنصارى
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا } وهو المائل عن الشرك وعن الأديان المخالفة للإسلام
{ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
فما أنتم عليه شرك ، وأيضا : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } لما قال { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا }
قال { وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
أيضا فيه الرد على الأميين على كفار قريش لأنهم يقولون نحن على ملة إبراهيم ، وعندنا بقايا من ملة إبراهيم ولذك يحجون وما شابه ذلك
ولذا ماذا مر معنا ؟ { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } وذكرنا ذلك من أن الإسلام هو الذي كان عليه إبراهيم { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } آل عمران: ٦٨
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } أولى الناس منزلة وقربة ومحبة واتباعا
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } إن أولى الناس محبة وقربة وانتسابا ليس بالقول كما قلتم من أنه كان يهوديا أو نصرانيا وإنما بالاتباع
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } أي في وقته
{ وَهَذَا النَّبِيُّ } وهو محمد عليه الصلاة والسلام
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ } يامحمد { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }
وقال تعالى { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }
{ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا } { آَمَنُوا } وهم أتباع محمد عليه الصلاة والسلام
ثم لما ذكر الولاية فيما يتعلق بين إبراهيم وبين هؤلاء أتى ختام الآية { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } بمعنى أن الله ولي المؤمنين الولاية الخاصة ، ومر معنا والولاية العامة لجميع الخلق ، والولاية الخاصة التي تقتضي النصرة والتوفيق والتسديد وما يتعلق بهذا عند قوله تعالى في آخر سورة البقرة { أَنْتَ مَوْلَانَا } وعند قوله { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا }
{ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } جميع المؤمنين
الذين هم هؤلاء ، هو ولي إبراهيم وولي محمد عليه الصلاة والسلام
وولي من اتبعهما إلى قيام الساعة
{ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } ومن يتولاه الله عز وجل كما قال تعالى { بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ١٥٠ }
وكما أن الولاية من الله للمؤمنين كذلك يجب على المؤمنين أن يتولوا الله
وولاية المؤمنين لله القيام بشرعه ، قال تعالى { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ٥٦ }
وفي هذا التذكير بما مر في الآيات السابقات { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ﭧ ﭨ ﭽ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﯽ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﰆ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﭛ ﭼ آل عمران: ٦٩ – ٧١
{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ } أي أحبت طائفة ، والود من أعظم درجات المحبة لأن درجات المحبة عشرة أقسام من أعلاها الود { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } أنتم يا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام
وهذا أيضا فيه تحذير لمن جاء بعدهم إلى قيام الساعة
{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } كما قال عز وجل { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ }
{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال هنا { طَائِفَةٌ } في سورة البقرة { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ }
لعل والعلم عند الله أن الطائفة المذكورة هنا من باب الكثرة يتوافق مع الآية السابقة ،وقد بينا التوافق بين قوله عز وجل { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال { كَثِيرٞ } ، وفي الآية التي قبلها أيضا في سورة البقرة { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ } الجميع ، وذكرنا التوجيه بين هذه وبين هذه
المهم : سواء كان هؤلاء أهل الكتاب على وجه الجمع الكل أو البعض أو القلة من الطائفة ففي هذا تحذير للمسلمين من اتباع هؤلاء سواء كانوا جميعا ولعل الآيات أتت { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ } للجميع ، وأتت { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا } ذكر الكثرة
وهنا ذكر الطائفة ولا تدل الطائفة من حيث الأصل على الكثرة من باب التنبيه والتحذير من أن يكون المسلم متبعا لهؤلاء أو سامعا لهم إذا اجتمعوا أو كثروا أو قلوا بل ربما يؤيد هذا ما سيأتي قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ١٠٠ }
{ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } يعني الضلال يعود إليهم ، لم ؟
لأنهم على ضلال وأرادوا أن يقع غيرهم ممن هداه الله إلى الضلال
فيكون هؤلاء تحملوا آثام غيرهم مع آثاهم
{ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
{ وَمَا يَشْعُرُونَ } بحقيقة هذا الأمر ، فنفي عنهم الشعور باعتبار ماذا ؟
باعتبار أنهم لم يعقلوا ولم يؤمنوا ، وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن أصحاب العقول التي انتفعوا بها هم أهل العلم وأهل الشعور
ولذا قال : { وَمَا يَشْعُرُونَ }
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ٧٠ }
{ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ } صدر السورة { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }
{ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }
تشهدون أنها حق وأن ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام حق وأن إبراهيم ليس على دينكم
{ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } وهذه الشهادة سوف تسألون عنها ، لم ؟ لأنكم أصحاب علم لكنكم لم توفقوا لأن الله أشهد أهل العلم على أعظم ما يكون وهو التوحيد { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ١٨ }
وقال تعالى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ }
عندكم علم من الله بأن محمدا عليه الصلاة والسلام نبي وأن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا فكيف تكفرون بالقرآن ؟!
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٧١ }
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ } استفهام إنكاري
{ لِمَ تَلْبِسُونَ } أي تخلطون { الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } تعلمون أن ما تفعلونه ضلال وتعلمون مغبة من صنع ذلك
وقال هنا { لِمَ تَلْبِسُونَ } لأن السياق سياق استفهام
في سورة البقرة { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } لم يأت بالنون لأنه نهي
هنا استفهام ينكر عليهم ، وهناك نهي أن يصنعوا هذا الصنيع
{ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٤٢ } وبيَّنا هناك في سورة البقرة من أن هؤلاء وقعوا في أمرين عظيمين :
ــ لبس الحق بالباطل ويترتب من خلط الحق بالباطل أن يكتم الحق بل يظهر الباطل على أنه حق ، وهذا تحذير منه عز وجل لهؤلاء ويذكرون بما جاء في الآية ممن يتبع المتشابه
قال عز وجل عن هؤلاء { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ }
وأخطر ما يكون على دين المسلمين أن يأتي شخص ممن ينتسب إلى العلم وإلى الدعوة وإذا به يأتي إلى الحق ويدخل معه شيئا من الباطل فيروج للناس حتى يقعوا في الفتنة يروج لهم من أن هذا الباطل من أنه حق { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 72 وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 73 يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 74} آل عمران: ٧٢ – ٧٤
{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ } انظروا إلى نوع من أنواع التلبيس والتدليس من باب أن يظهروا للصحابة من أن دين محمد ليس بدين صحيح ولذا قال كبراؤهم لضعفائهم : { آَمِنُوا } بما أتى به محمد
{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا }
قالوا هنا { بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا } ولم يقولوا على محمد من باب إدخال الشكوك والريب على أهل الإيمان
{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ }
{ وَجْهَ النَّهَارِ } هذه الكلمة معناها أول النهار يبينها قوله { آَخِرَهُ } وهذا كما مر معنا من أنواع التفسير أن الكلمة تتضح بالكلمة التي بعدها ومر معنا قوله عز وجل في شهادة النساء{ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى }
{ أَنْ تَضِلَّ } أي تنسى وضح ذلك { فَتُذَكِّرَ }
هنا { وَجْهَ النَّهَارِ } أول النهار ، ما الذي وضحه ؟ { وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ } يعني آخر النهار
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فإنهم إن رأوكم دخلتم في أول النهار وهذا نوع من التلبيس والتدليس ، إذا دخلتم في أول النهار ثم إذا بكم في آخر النهار رجعتم قالوا إن هؤلاء يعني أهل الكتاب هم أهل علم إذن لما دخلوا ما خرجوا من هذا الدين إلا لأنه دين باطل
{ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ } هذه الآية قال عنها القرطبي أشكل آية في سورة آل عمران ، ولاشك كما قال من حيث اللفظ ولكن ليس هناك ما يشكل في كتاب الله ولم أجد إشكالا في هذا الإشكال الذي ربما دعا القرطبي إلى أن يقول هذا القول ، لكن يمكن قول القرطبي أشكل آية باعتبار الضمائر تعود إلى من ؟ باعتبار القراءات ، لكن الآية واضحة ولله الحمد
{ وَلَا تُؤْمِنُوا } الخطاب هل هو من قول أهل الكتاب أو من قول أهل الإيمان ؟
إما أن يكون من قول أهل الكتاب { وَلَا تُؤْمِنُوا } يعني الرؤوساء يقولون لهؤلاء الذين دخلوا في دين محمد أول النهار
انتبهوا كونوا على حذر إن دخلتم فلا تبقوا { وَلَا تُؤْمِنُوا } أي لا تصدقوا { إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ } أي إلا من تبع { إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ }
فأتت هذه الجملة { قُلۡ } يامحمد { قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } وليس الهدى الذي أنتم عليه
ثم بعد ذلك قال { أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ } أي لا تؤمنوا { أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ } فلكم خصيصة ومزية يقول الرؤوساء لهؤلاء
{ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ } أي لا تؤمنوا ولا تصدقوا بما يقولون ولا تظهروا لهم ما لديكم حتى لا يحاجوكم عند ربكم
ولعل هذه الآية نظير الآية من بعض الوجوه التي في سورة البقرة { وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ}
إذن هذه الآية إما تكون في سياق أهل الكتاب فيما بينهم ، وهذا هو الأظهر عندي ويصدق أيضا ولا مانع من ذلك لكن الأول أظهر والعلم عند الله أن هذا من قول أهل الإيمان
{ وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ } أي لا تصدقوا أنتم أيها المؤمنون إلا من تبعع دينكم ودخل في هذا الدين عن رغبة ليس كحال هؤلاء الذين دخلوا تدليسا ، ولذا قال { قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } يعني ما أنتم عليه هو الهدى وما فعله هؤلاء ليس بهدى
{ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ } ولا تؤمنوا ولا تصدقوا لهؤلاء أن يكون هؤلاء لهم من الفضل مثل ما لكم لأنكم على الهدى وهم على الضلال
{ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ } لا تظنوا ولا تقروا من أن هؤلاء يكون لهم حجة عليكم عند ربكم
إذن ولله الحمد لا أظن أن هناك إشكالا عظيما
ولاشك أن من قرأ في التفاسير وجد مثل هذه فيه قراءات وفيه ضمائر
لكن هذا هو الذي يظهر لي ، وكلاهما قول قوي وهي محتملة سواء الأول أو الثاني ، لكن المسلم عموما يجب أن يكون حذرا من تدليس أهل الضلال والكفر
{ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ}
{ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } ومما يقوي الاحتمال الأول أنه قال هنا { قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ}
مما يقويه أن أهل الكتاب يظنون أن لهم فضلا عظيما على أمة محمد عليه الصلاة والسلام ولذا قال في آخر سورة الحديد {لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ٢٩ }
{ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } قل هنا { بِيَدِ ٱللَّهِ } مر معنا { بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ }
وهنا إثبات صفة اليد لله عز وجل بما يليق بجلاله وبعظمته
معتقد أهل السنة والجماعة : لله يدان تليقان بجلاله وبعظمته ، وهي من الصفات الخبرية ، هي بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء لكن لا نقول هي أبعاض لله { لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ }
ولكن نقول هي صفات خبرية بمعنى أتى الخبر بها ، فلله يدان تليقان بجلاله وبعظمته ، قال تعالى في سياق الثناء { يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ }
{ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ }
واليدان هنا ذكرتا في سياق الفضل والثناء ولفظ التثنية نص في العدد ليس كلفظ الجمع وليس كلفظ الإفراد
قال هنا { قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } لو قال قائل هنا ذكرت يد واحدة وفي الآية الأخرى { بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ }
فالجواب عن هذا :
من أن الكلمة إذا أضيفت إلى معرفة فإنها تكون أكثر من واحدة
{ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ } فهنا يد وأضيفت إلى الكاف الضمير معرفة
فتبين أنها أكثر من يد ، هل هي يدان أو أكثر ؟
التي في الآية { مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ } نص في التثنية
دل على أنهما اثنتان ، هنا قال { قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ }
أضيفت اليد إلى اسم الله الظاهر
أيضا إذا أضيفت تكون من باب الأكثرية يعني من باب أنها أكثر من واحدة لكن قيدت هنا من أنها يدان
{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ }
ولو قال قائل : قوله عز وجل {أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيۡدِينَآ أَنۡعَٰمٗا فَهُمۡ لَهَا مَٰلِكُونَ٧١ }
قال { أَيۡدِينَآ } هنا هل هي أكثر من يدين ؟الجواب : لا
لأنه لو كانت أكثر من يدين لذكرهما في سياق الثناء ما منعك أن تسجد لما خلقت بأيدينا
لكن قاعدة :
وهي من أن كلمة [ نا ] للجمع ، للجمع وتطلق على الواحد من باب التعظيم مثل ما يقول أحد الرؤوساء أو الملوك ولله المثل الأعلى نحن فلان بن فلان أمرنا بكذا
فهنا أيدينا لما أضيفت إلى [ نا ] وهو ضمير الجمع باعتبار أصله ، وهنا أضيفت إلى الله وقال [ نا ] هنا باعتبار التعظيم لله وإلا فالله واحد
إذا كان المضاف إليه جمعا كما هنا وهو ولاشك هنا الله هو الواحد لكن [ نا ] هنا باعتبار التعظيم يكون المضاف إليه جمعا يكون المضاف إليه جمعا
وهذه اليد تليق بجلاله وبعظمته ، ليست بمعنى النعمة وليست بمعنى القدرة
لأنه لو كما قالوا وحرفوا { مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ }
يعني بنعمتي أو بقدرتي ، ما يتفق ، فدل هذا على أنهما يدان تليقان بجلاله وعظمته
ولو قال قائل قوله عز وجل {وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ } قال { بِأَيۡيْدٖ }
هنا ليست جمعا بل هي مصدر من آد يئيد من آد يعني قوي من آد يئيد أيدا
بمعنى المصدر يعني القوة
ولذلك : {وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ } أي بقوة فسرها السلف بأنها قوة
لو قال كيف تحرفونها إذن أنتم حرفتموها وأولتموها فنقول لا لأن الأيد هنا في الآية {وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ } ليست اليد التي في أذهانكم وإنما مصدر من آد يئيد أيدا ، بل حتى لم تضف إلى الله
لم يقل بأيد الله وإنما قال { بِأَيۡيْدٖ }
فالشاهد من هذا :
قوله عز وجل { قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ } ولا أحد يحصر فضل الله ، ولذا قال بعدها { وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ }
واسع الفضل واسع العطاء واسع الرحمة واسع المغفرة
وهو عليم عليم بمن يستحق هذا الفضل
فهو واسع الفضل يمن به على من يشاء عز وجل
{ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ٧٤ }
{ يَخۡتَصُّ } أي يخص
{ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ٧٤ }
فضله عظيم وأعظم الفضل أن يتفضل الله عز وجل على عبده بالإيمان ولذلك : ماذا قال عز وجل عن أولئك اليهود والنصارى والمشركين {مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ خَيۡرٖ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ١٠٥ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ٧٥ بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ٧٦ } [آل عمران:75 ، 76]
{ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ }
{ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ } فصل هنا حال أهل الكتاب من حيث الأمانة من حيث أداء الدين ومن أهل الكتاب { مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ } القنطار هو المال الكثير ومر معنا تفسير ذلك في قوله تعالى { وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ } وخلاف أهل العلم في ذلك لكن هو المال الكثير
{ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ } وفيا كعبد الله بن سلام وكغيره ممن آمن
{ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ } إلا ما دمت عليه ملازما القائم يعني الملازم بحيث يكون معه في كل وقت وفِّ ديني وفِّ ديني وهذا مال قليل
{ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ } الصنيع من هؤلاء صنيع لخبثهم للكبر الواقع بهم ، ولذلك يقول شيخ الإسلام أعظم صفة في اليهود هي الكبر { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ }
{ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ } أي بسبب أنهم { قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ سَبِيلٞ } { ٱلۡأُمِّيِّۧنَ } العرب ما علينا من حرج ولا سبيل فيما لو أخذنا أموالهم فأموالهم مستباحة لنا ، وهذا من باب ماذا ؟ التقول على الله عز وجل
والقول على الله بلا علم
ولذا قال لما قالوا { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ } أنهم كذبة ويعلمون خطورة من كذب على الله ، ودل هذا على أن اليهود مع أنهم أصحاب ضلال وأصحاب تدليس هم أصحاب خيانة وخداع وتقول على الله عز وجل
{ بَلَىٰۚ } أي بلى عليهم سبيل وعليهم إثم وحرج ، ثم قال بعدها { بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ } { مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ } أي بعهد الله وقيل راجع إلى المخلوق بعهد المخلوق ولا تعارض بينهما وإن كان الأظهر بعهد الله للآية التي بعدها { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ } لأن من وفى بعهد الله وفى بعهدهم
من أوفى بعهده وأعظم العهود التي لله عز وجل أن يعبد وأن يتقى
{ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ }
إثبات صفة المحبة لله بما يليق بجلاله وعظمته ومر معنا توضيح ذلك وتفسيره عند قوله تعالى { فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ }
{ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ } هل ذكر ثوابا لهم ؟ لا
وإنما علقه بالمحبة { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ }
دل هذا على ماذا ؟ على أن ذكر الصفة في الآية يدل على بيان الحكم وبيان الثواب وأعظم بأناس يحبهم الله عز وجل كيف يكون لهم الأجر ؟
يكون أجرا عظيما