التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية (98) إلى (108) الدرس (40)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية (98) إلى (108) الدرس (40)

مشاهدات: 589

تفسير سورة آل عمران ــ الدرس (40)

من الآية (98) إلى (108)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ  } آل عمران: ٩٨

هذه الآية ذكرت تنديدا بحال أهل الكتاب فإن الآيات السابقات دلت على أن أهل الكتاب إنماهم أهل ضلال وذكر هنا قوله عز وجل آمرا النبي عليه الصلاة والسلام { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ }

 وأهل الكتاب كفروا بآيات الله عز وجل  كما مر معنا في أول السورة{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }

وفي ثنايا السورة : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ }

ومر معنا قبل هذه الآيات بآيات قليلة { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ٧٠ } تشهدون أنكم كفرتم بذلك وتعلمون أن ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام حق

وتأمل ما هاهنا هنا ذكر { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ  }

الله شهيد على عملكم على كل عمل ، ومن ذلك ما جرى منكم من الكفر بآيات الله  قال هنا { وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } في الآيات السابقة { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ٧٠ }  أنتم تشهدون على أنفسكم كما في الآية السابقة ، وهنا الله عز وجل شهيد على أعمالكم وهذا يتضمن الوعيد الشديد لهؤلاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } آل عمران: ٩٩

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ } وهذا استفهام إنكاري { لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي تصدون الناس عن الدخول في دين الله ، ومن ذلك ما صنعوه من لبس الحق بالباطل كما مر معنا في آيات { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٧١ } ولاشك أن هذا صد للناس عن الدخول في دين الله وأيضا صدُّوا الناس عن الدخول في دين الله بالفعل كما قال عز وجل { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٧٢ }

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ } يعني من يريد الإيمان ومن دخل في الإيمان { تَبْغُونَهَا } أي تطلبونها ، أي تطلبون هذه السبيل وهو سبيل الله { تَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي معوجة تريدون أن تُضلوا الناس عن الصراط المستقيم ، وذلك بفعلكم وبقولكم الشنيع { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } فأنتم تشهدون على أنفسكم وتقرون بذلك  وتعرفون أن ما أنتم عليه إنما هو ضلال مبين ؛ لأن من صد الناس عن دين الله فإنه ليس على هدى وأنتم أهلعلم لكنكم أصحاب هوى ، ولذا قال { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ }

وختم الآية { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وهذا يتضمن كما سلف الوعيد الشديد لهؤلاء وأيضا يتضمن من أن الله ليس بغافل بمعنى أنه عالم بكل شيء فقوله تعالى { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } لكمال علمه وإحاطته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }  آل عمران: ١٠٠

هذا فيه تحذير للمسلمين من أن يطيعوا أهل الكتاب ، وذلك عام ، ومن ضمن ذلك ما ورد في سبب نزول الآية فإن بعض اليهود لما مروا بالصحابة بالأوس والخزرج ورأوا ما هم عليه من الاتفاق ذكروهم بما كان بينهم من حروب في الجاهلية فكأن العصبية والحمية السابقة بدأت بين بعض هؤلاء الأنصار فذكر عز وجل هذه الآية وهي شاملة تحذير للأمة إلى قيام الساعة

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }

يعني بعد هذا الإيمان الذي حظيتم به ، وأنعم الله به عليكم تعودون إلى الكفر ، وفي هذا تحقيق لما كانت قلوبهم تحبه كما قال عز وجل { وَدَّتْ طَائِفَةٌ } في نفس السورة { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } وكما قال تعالى { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا }

{ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } وهذا إن جرى منكم  فإنه ردة عن دين الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }  آل عمران: ١٠١

{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }

{ وَكَيْفَ } الاستفهام هنا إما أن يكون على سبيل التعجب يعني يتعجب من حال من يكفر بعد أن أتته الآيات والنبي عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم والذي يظهر أن هذا الاستفهام من باب الاستبعاد ، يستبعد أن يقع منكم هذا الكفر وآيات الله تتلى عليكم والنبي عليه الصلاة والسلام بين أظهركم وذلك لعظم مكانة الصحابة رضي الله عنهم

{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ } وهي آيات القرآن { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

دل هذا على أن من اعتصم بالله فإن الثمرة أن الله عز وجل يهديه إلى الصراط المستقيم ، ومن ثم فإن ما تسعى إليه اليهود ، وما يسعى إليه أهل الكتاب في قوله تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا } هنا من اعتصم بالله وأخذ بكتاب الله وبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن الثمرة هنا أنه يهدى { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو صراط الله والاعتصام بالله كما أن به هداية أيضا به مزايا أخرى قال تعالى في سورة النساء { فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ١٧٥ }

ومن ثم فإن على المسلم أن يسأل الله أن يعصمه من السوء ، وقد ظن بعض الناس أن قول القائل ” اللهم إني أسألك العصمة ”  ظن أن هذا فيه تعدي في الدعاء قال لأن العصمة إنما تكون للأنبياء

والجواب عن هذا :

من أن المراد من قول الإنسان ” اللهم إني أسألك العصمة ”  مع أنها وردت على ألسنة بعض من السلف إلا أن النصوص الشرعية تؤيد هذا الدعاء ” اللهم إني أسألك العصمة ”  فالعبد إذا قال ” اللهم إني أسألك العصمة ”  المراد من ذلك الحفظ أن يحفظك الله وأن يمنعك من السوء ولذلك في الدعاء الثابت عنه عليه الصلاة والسلام ( اللهم أصلح لي ديني  الذي هو عصمة أمري )

وثبت عنه عليه الصلاة والسلام عند الخروج من المسجد أن يقول الإنسان ( اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم )

وثبت عن البزار ( اللهم اعصمني من السوء )

وأيضا ثبت عند البخاري في صحيح البخاري لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الخلفاء والأمراء من أنه ما من خليفة إلا وله بطانة صالحة تأمره بالخير وبطانة تأمره بالسوء قال في ختام الحديث ( والمعصوم من عصم الله )

وعند البيهقي ( والمعصوم من عصمه الله )

فدل هذا على أن المراد من قول الإنسان يارب أسالك العصمة المقصود الحفظ والمنع وليس المراد العصمة المطلقة فإنه لا يسأل ذلك لأن من سأل العصمة المطلقة كأن يقول اللهم اعصمني في كل حركاتي وفي كل أقوالي وفي كل أعمالي واعصم قلبي من كل الشكوك ومن كل شيء فإن هذا تعدي في الدعاء فالمقصود من العصمة هنا العصمة النسبية بمعنى الحفظ والأدلة السابقة بينت ذلك

{ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ  } آل عمران: ١٠٢

مر معنا وهذه قاعدة مطردة :

ابن مسعود رضي الله عنه يقول ” إذا مر بك قول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } فارع لها سمعك فإما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه “

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } صدر الآية بنداء أهل الإيمان وأمرهم بالتقوى مما يدل على ماذا ؟

مما يدل على أن الإيمان سبيل للتقوى ، وأن التقوى مما تزيد الإيمان      { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }

قال بعض أهل العلم : اتقاء الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر

وتقوى الله هي بفعل أوامره وباجتناب نواهيه فيدخل في ذلك ما ذكر هنا ، ويدخل فيه أيضا من قال من أن التقوى هي ترك الذنوب كلها

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } الأمر بالتقوى هنا يدل على ماذا ؟

يدل على أن من اتقى الله عز وجل فإنه سيعتصم بالله عز وجل لأن الله قريب من أهل الإيمان والتقى

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } بعض أهل العلم قال إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }

والصواب والمقرر وهي قاعدة فيما يتعلق بالقرآن وبالسنة الأصل عدم النسخ ولا يلجأ إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الدليلين ، فإن تعذر الجمع وعلم التاريخ المتقدم من المتأخر هنا يكون النسخ

والصحيح أن هذه الآية ليس بها نسخ ، وإنما هذه الآية بيان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } هذه الآية بينتها الآية الأخرى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } بمعنى أن الإنسان يبذل قصاره جهده في تقوى الله ، لكن في حدود استطاعته كما ثبت عنه قوله عليه الصلاة والسلام      ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فالآية محكمة ، وليس بها نسخ ونظيرها مما يدل على عدم النسخ قوله تعالى { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ  } هذا يتضمن ماذا ؟

معلوم أن الإنسان لا يعرف متى وقت وفاته وإنما الآية فيها الحث ، الحث على ماذا ؟ أن يبقى الإنسان على الإسلام وأن يتمسك به حتى يلقى الله مسلما ، وهذا يتضمن ماذا ؟ يتضمن أن الإنسان يذكر الموت ويكون على ذكر مستمر للموت ، ولذلك عند الترمذي قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه ( أكثروا من ذكر هادم اللذات )

ويتضمن أيضا أن العبد يسأل الله الثبات على هذا الدين حتى يتوفاه الله وأيضا يتضمن ماذا ؟

يتضمن أن من ثبت على الدين وحرص عليه فالله عز وجل كريم ، ولذلك

في صحيح مسلم : قوله عليه الصلاة والسلام  ( يبعث كل عبد على ما مات عليه )

{ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ  } ومر معنا ما يتعلق بهذه الآية عند قول الله عز وجل  { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٣٢ }

فدل هذا على ماذا ؟على أن ما أمرت به هذه الأمة فقد وصى بذلك من ؟

إبراهيم ويعقوب ودليل ذلك قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ٢٦ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ٢٧ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً } أي كلمة التوحيد وكلمة الإسلام – { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٢٨ }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } آل عمران: ١٠٣

{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } سبحان الله !

هنا أمروا بالاعتصام بحبل الله فإنه في الآيات السابقة أخبر فقال { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } من يعتصم بالله فإنه يهدى وطريق الاعتصام بالله إنما يكون بالاعتصام بحبله عز وجل ، فهذا الطريق هو طريق إلى الله لأن الله أمر بذلك ، وما أمر الله به من الاعتصام بحبله إنما هو من شرعه ومن أمره ولذا قال { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } والحبل هو الذي يتمسك به الإنسان من أجل أن يصل إلى شيء ، ومن أجل ألا يقع فيما يضره ، فدل هذا على أن ذكر الحبل وهو مضاف إلى الله مما يدل على عظم التمسك بهذا الحبل

{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } حبل الله يدخل  فيه كل ما قاله المفسرون من أنه الإسلام ، من أنه القرآن ، من أنه الجماعة

ومن ثم فإن من تمسك بالإسلام فقد تمسك بالقرآن وبالجماعة ، ومن تمسك بالجماعة جماعة أهل السنة والجماعة وفي هذه الآية شرف لأهل السنة والجماعة إذ إنهم أخذوا بدين الله وبالقرآن وحرصوا على أن يكونوا الأمة والطائفة التي هي الطائفة الناجية

لذلك قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في السنن ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل من هي يا رسول الله ؟ قال ما أنا عليه وأصحابي ) وفي رواية ( الجماعة )

هذا الحديث إذا جعلته مع الآية وضح لك معنى حبل الله

ومن ثم قال هنا { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } يعني الإنسان مأمور بأن يعتصم بالله ، ولكن قال هنا جميعا باعتبار أن جميع الأمة الواجب عليها والمتعين عليها ان تكون معتصمة بالله ومعتصمة بحبل الله جيمعا

ولذلك قال بعدها { وَلَا تَفَرَّقُوا } ، لم ؟

لأن من لم يعتصم بحبل الله فإن مآله إلى أن يتفرق إلى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } ومن ثم فإن الأمر بالشيء كما هي القاعدة الأمر بالشيء نهي عن ضده فإنه لما أمر بالاعتصام بحبل الله جيمعا نهى عن الضد

ما ضده ؟ الفرقة

ولذلك قال { وَلَا تَفَرَّقُوا } كما قال عز وجل { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } فعبادة الله من حيث الأصل تتضمن النهي عن الشرك لكن هنا قال { وَلَا تُشْرِكُوا }  من باب أن الأمر بالعبادة فيها النهي عن الوقوع بالشرك والأمر هنا بالاعتصام بحبل الله فيه النهي عن التفرق

{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } اذكروا نعمة الله بألسنتكم وبقلوبكم وبجوارحكم { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } ونعم الله عظيمة وهنا ذكر نعمة { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً } هنا يذكر من ؟

يذكر الأوس والخزرج بما كان بينهم من خلاف ونزاع ولذلك هذه الآية لو نظرت إلى ما سبق { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ١٠٠ } هنا ماذا قال هنا ؟ { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } كانت قلوبكم فيها ما فيها من الشحناء والبغضاء ، وهذا يدل على أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن يتم لها اجتماع ولا وفاق إلا على الكتاب والسنة لا بعصبية ولا بقومية ولا برايات ولا بعلامات ولا بجماعات ولا بأحزاب ، كلا ، إنما يكون الاجتماع على الكتاب والسنة وإلا فلن يحصل لهم اجتماع ولا ألفة ولا محبة ، ولذا قال   { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } أي بهذا الدين ، ولذلك ماذا قال عز وجل لا يمكن أن يجتمعوا حتى على الأموال قال تعالى { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال هنا { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ } أي فصرتم { بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } بعد أن كنتم أعداء صرتم إخوانا

قال تعالى هنا { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } الإخوان هنا بعض العلماء قال  هناك فرق بين كلمة الإخوان والإخوة ، إخوان يعني إخوان من حيث الألفة والمحبة لا من حيث النسب لكن إذا كان المقصود إخوة النسب فإنه يقول إخوة { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ }

لكن هذا الكلام ليس مطردا وليس مقبولا على إطلاقه وإنما قد تأتي كلمة إخوة ويراد بها ما لم يقله هؤلاء العلماء ألم يقل الله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } فدل هذا على ماذا ؟

دل على أن هذه القاعدة ليست مطردة ولذا حتى في سياق الإخوة من حيث  القرابة ورد إخوان  قال عز وجل { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } ولم يقل إخوة

{ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ } يعني على طرف حفرة كطرف البئر ، وطرف الحفرة { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } يعني ما بينكم وبين أن تقعوا في النار إلا أن تموتوا على ملة الكفر ، لكن الله أكرمكم

فقال عز وجل { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا } أي على حافة { عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } ومن ثم فإن من منَّ الله عليه بالهداية وبالاستقامة فالله هو الذي أنقذه وهو الذي أنعم عليه وهو الذي أكرمه فليحمد الله

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { كَذَلِكَ } كما بين لكم الآيات السابقات كذلك يبين لكم كل الآيات ، لم ؟

لأن تبيين الآيات والأخذ بها سبيل إلى هداية الله وتأمل سبحان الله ! ما أعظم هذا القرآن { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ومن تلك الآيات أن من اعتصم بحبل الله عز وجل فإنه يهتدي

قبلها { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } آل عمران: ١٠٤

{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } ذكرت هذه الآية من باب أنكم لما ذقتم حلاوة الإيمان وطعم الإيمان والواجب على من ذاق طعم الإيمان أن ينشر هذا الخير لإخوانه بل ينشر هذا الخير لعموم الخلق فقال عز وجل { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ }

{ وَلْتَكُنْ } هنا أمر والأمر هنا قال هنا { مِنْكُمْ } هل من للتبعيض بمعنى أن المتعين إنما هو متعين على بعض الأمة أم أنه على جميع الأمة هل كلمة من { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ } هل هي للتبعيض أم للجنس أي لعموم الأمة ؟

بعض أهل العلم قال : هي للتبعيض باعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما شابه ذلك لابد فيه من العلم أما من يدعو بلا علم فإنه يكون على ضلال ويكون الشر أكثر من الخير

وقال بعض أهل العلم : إنما هي للجنس وهو الصواب بمعنى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } يعني جميع الأمة مأمورة بنشر الخير وبالأمر بالمعروف  وبالنهي عن المنكر لعموم قوله عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم ( من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ) فيكون الأمر لجيمع الأمة لكن لو قام به بعض الأمة سقط الإثم عن الآخرين

أيضا من لم يكن صاحب علم يسقط عنه هذا الأمر لكن إن سقط عنه فيلزمه أن يتعلم حتى يكون من هذه الأمة التي ميزها الله بل جعلها خير الأمم من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ومن ثم هنا يكون فيه جمع بين القولين

{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ }

{ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } وكلمة { الْخَيْرِ } شاملة وأعظم الخير هو الخير الذي هو أصل كل شيء وهو التوحيد ، وهو الدين دين الإسلام { يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ }

ثم قال { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ومن ثم قوله { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } من باب عطف الخاص على العام لأن كلمة { يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن هنا قال { يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } بمعنى أن الإنسان عليه أن تكون همته في الحرص على بذل المعروف وبذل الخير سواء رأى منكرا أو لم ير شيئا فإن رأى ما يستوجب أن يبين فهنا { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } فإن رأى ما يستوجب أن ينكر قال { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }

{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } أتى بصيغة الفعل المضارع مما يدل على الاستمرار بمعنى أن الأمة بحاجة إلى أن تستمر في الدعوة إلى الخير وفي الأمر بالمعروف  وفي النهي عن المنكر

{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } والمفلح هو الذي فاز بالمطلوب ونجا من المكروه

بمعنى :  أنه حصل له مبتغاه واندفع عنه ما يضره ، دل هذا على ماذا

دل على أن الفلاح في ماذا ؟

في الدعوة إلى المعروف وفي الأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر

ومن ذلك من ضمن الفلاح العقوبة لا تقع بالناس قال تعالى { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } وقال تعالى { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ١٦٤ }

أيضا فيه إبراء لذمة الناصح ، أيضا في الأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر تمكين للأمة في الأرض قال تعالى { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)  يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ  (106)  وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) } آل عمران: ١٠٥ – ١٠٧

{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا } سبحان الله { وَلَا تَكُونُوا } يذكرهم بحال أهل الكتاب فإنهم يبغضون أهل الكتاب ففيه تحذير لهم من أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أعداؤهم فأنتم تبغضون اهل الكتاب فانتبهوا أتاكم هذا الكتاب الذي به وبأمره عز وجل وبتوفيقه أصبحتم إخوة هنا انتبهوا { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } التفرق يودي إلى الاختلاف فإذا لم تكن الأمة مجتمعة لم تكن متحابة لم يكن بينها محبة ولا ألفة أيضا إذا وقعت الفرقة بين الأمة ما الذي يجري ؟

جري الاختلاف { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } وهذا يذكرنا بما مر معنا في أول السورة

وكما سلف قلت لكم من يقرأ السورة يتأمل في ثناياها في أولها وفي آخرها وفي أوساطها ولذلك ماذا قال عز وجل في أول السورة { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } إذن انتبهوا { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ }

{ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } لم يقل جاءتهم من باب تذكير الفعل بكلمة جمع يعني من باب ما جاءهم جمع من الآيات وأعظم الآيات الآيات الشرعية ولذلك انظر إلى هذه الآية { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أتتهم البينات ، وأتتهم الكتب المنزلة من الله على هؤلاء أنتم أيضا انتبهوا في الآيات السابقة  { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }

قال هنا { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } قامت الحجة عليهم { وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } عظيم من حيث قوته ومن حيث أنواعه باعتبار أن هؤلاء وصلهم هذا الأمر العظيم وهو شرع الله فاختلفوا وتفرقوا فالجزاء من جنس العمل فيكون لهم عذاب عظيم ويدخل في ذلك كما قال السلف كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره  يدخل في ذلك المبتدعة ومن أعظمهم الخوارج ، لم ؟

لأنهم فرقوا الأمة فأهل الابتداع ليسوا متمسكين بحبل الله وإنما اختلفوا ومن ثم تفرقوا بل إن اختلافهم الذي أوجد الفرقة بيهم إلى هذا الاختلاف حملوا السيف على أهل الإسلام ولذا قال بعض السلف قال هذا القول

ولذلك قال تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }  قال ابن عباس رضي الله عنهما  قال :” يوم تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة “

وهذا من ضمن الدخول في الآيات ، الآيات تتضمن ذلك ولا تحصر بذلك فإذن أهل البدع ما قاموا وما اعتصموا بحبل الله وهم ليسوا من أهل الجماعة وإنما من أهل الفرقة والخلاف ومن ثم قال تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } الوجوه تسود والوجوه تبيض في أي مقام من يوم القيامة ؟ قيل عند خروجهم من القبور وقيل في بعض المواطن المهم أنه في يوم القيامة تبيض وجوه أهل الإسلام وأهل السنة وتسود وجوه أهل الكفروأهل البدعة

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }  كما قال تعالى { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ } وقال عز وجل { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ  38  ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40  تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ 41  }  عبس: ٣٨ – ٤١

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ } هنا فيه حذف فيقال لهم { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

تذكير بالآية السابقة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ١٠٠ } ومن ارتد بعد إيمانه فإن وجهه سيسود وسيقال له هذا القول

{ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

ويدخل في ذلك كما سلف من ؟ أهل البدع فإن كانت بدعته مكفرة فيصدق  عليه أنه كفرالكفرالمخرج عن الملة ، وإن كانت بدعته غير مكفرة فإنه كفر دون كفر بمعنى أنه كفر نعمة الله وأعظم النعم أن السنة جاءته ولم يأخذ بها

{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١٠٧ }

{ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ }  الرحمة هنا هي الجنة أي في الجنة

لو قيل قلتم فيما مضى يجب أن تثبت الصفة لله صفة الرحمة لله بما يليق بجلاله وبعظمته من غير تحريف ولا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف

فلماذا قلتم هنا الرحمة هنا هي الجنة { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١٠٧ }

قال ابن القيم الرحمة المضافة إلى الله نوعان :

ــ نوع من باب إضافة الصفة إلى الموصوف{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } صفة تليق بجلاله وبعظمته

ــ ونوع آخر من باب إضافة المخلوق إلى خالقه كما قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله خلق ) كما ثبت عنه ( إن الله خلق مائة رحمة )

والجنة مخلوقة وهي رحمة من الله باعتبار أن الله خلقها ، ولذلك ثبت عنه قوله عليه الصلاة والسلام ( قال الله عز وجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء )

ومن ثم فإن بعض العلماء قال لا يقال في الدعاء اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك ، لأن رحمة الله ليس لها مستقر

قال تعالى { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } فرد ذلك ابن القيم ليس المقصود من هذا الدعاء الرحمة التي هي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف وإنما من باب إضافة المخلوق إلى خالقه

فإذا قال العبد اللهم احمعنا في مستقر رحمتك يقصد بذلك الجنة

{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١٠٧ }

أي ماكثون لا يريدون أن يخرجوا منه ولا أن يتحولوا عنها قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ١٠٧ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ١٠٨ }

{ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } آل عمران: ١٠٨

{ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } { تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ } أي ما مضى هي آيات الله التي أنزلها الله عليك وهي حق لأن هذه الآيات في هذا الكتاب وهذا الكتاب تضمن الحق ولما أنزل حال نزوله نزل بالحق { وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }

{ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ }  وما كان حقا فإن الباطل لا يأتيه

ولذا قال عز وجل عن هذا الكتاب { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٤١ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ٤٢ }

وما كان حقا فإنه سبب الاجتماع وإذا ترك الناس الحق وقعوا في الباطل { تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ }

وذلك لكمال عدله ومر معنا الحديث عن نفي صفة الظلم كما قال تعالى    { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } أي لكمال عدله { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } الصفات المنفية عن الله لا تتضمن كمالا إلا إذا نفيت مع إثبات كمال الضد قال هنا { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } لم ؟

ننفي عنه الظلم لكمال عدله

وسبحان الله ! قال في آيات وسيأتي معنا أيضا في هذه السورة { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } هو لا يظلم لكمال عدله أيضا هو لا يريد الظلم كما دلت عليه هذه الآية  { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } دل هذا على أنه لما كفر من كفر فاسود وجهه وآمن من آمن وابيض وجهه ودخلوا الجنة وألئك دخلوا النار ، الله ما ظلمهم وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم إذ بعدوا عن حبل الله وعن الاعتصام بالله عز وجل

{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } وأيضا يتضمن ماذا ؟

يتضمن أن العبد حينما يسمع هذه الآية يوقن ويعتقد بأنه الله لن يضيع له أجره الذي عمله