التفسير المختصر الشامل تفسير سورة المائدة من الآية (1) إلى آية ( 3) الدرس ( 75)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة المائدة من الآية (1) إلى آية ( 3) الدرس ( 75)

مشاهدات: 467

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المائدة

من آية 1 إلى آية 3

(الرقم 75)

للشيخ زيد البحري – حفظه الله-

 

سورة المائدة كما جاء في مسند الامام أحمد من طرق متعددة ولعل بعضها يشهد لبعض من أنها نزلت كاملة، ولذا جاء فيما يتعلق بنزولها من أن النبي ﷺ كان على ناقته فكادت الناقة أن تنكسر من ثقل ما نزل به ﷺ، لكن لو قيل بعض أهل العلم قال إن بعض الآيات نزلت في مواطن متعددة، فالجواب عن هذا: إن القول بأنها نزلت كاملة باعتبار الأكثر.

  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: صدر السورة بنداء أهل الايمان ومن ثم فإن هناك أثرًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا كان عليّ سيدها وشريفها وذلك لأنه لم يُعاتَب في القرآن، فما من صحابي إلا عوتب في القرآن إلا علي رضي الله عنه، لكن هذا الأثر لا يصح وفيه شيعي مما يدل على ضعفه ثم إن هذا ليس على اطلاقه فأن عليا كما قال ابن كثير رحمه الله عُوتِب في القرآن ففي قضية فداء الأسرى في غزوة بدر كما سيأتي معنا في سورة الأنفال فقال ابن كثير: فعاتب الله عز وجل الجميع على الفداء في أسارى بدر ولم يسلم من ذلك إلا عمر رضي الله عنه، فهذا يُوهِن هذا الأثر.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}: أمر الله عز وجل عباده بأن يوفّوا بالعقود وهي شاملة للعقود التي هي بين المخلوق والخالق من العبادات، والتي بين المخلوق والمخلوق الآخر من المعاملات من بيع وإجارة ونحو ذلك فالإنسان مأمور بالوفاء بالعقود. {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}: وهذا يدل على الوجوب.

{أُحِلَّتْ لَكُمْ}: أي أبيحت لكم. {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}: يشمل الإبل والبقر والغنم، الذكر منها والأنثى، الإنسي والمتوحش. {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: إلا ما يتلى عليكم مما جاء في القرآن والسنة مما حرمه الله عز وجل كما قال تعالى بعدها: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، فبهيمة الأنعام حلال لنا إلا ما جاء الشرع بتحريمه مما يتلى علينا في القرآن أو في السنة. {غَيْر}: هنا استثناء آخر، استثناء من بهيمة الأنعام والمقصود من ذلك الوحشي. {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: بمعنى أن بهيمة الأنعام المتوحشة (التي في البر من الظباء وما شابه ذلك) لا يجوز للمحرم أن يصطادها. {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}: فهو الحاكم عز وجل ومن حكمته ما أراده هنا من الأمر بالوفاء بالعقود، ومن إباحته عز وجل بهيمة الأنعام والاستثناء الحاصل مما يتلى علينا مما حرمه علينا عز وجل من بهيمة الأنعام. ولذا قيل لشخص حكيم يعظمه أصحابه: هذه الآية ألا تأتي بمثلها؟ فاحتبس عنهم أيامًا فلما احتبس عنهم أتى إليهم وقال: لا أستطيع، إن هناك أمرًا بالوفاء بالعقود ثم الإباحة ثم استثناء، ثم استثناء من الاستثناء، ثم بيان حكم آخر فقال: لو أردت ذلك ما كفى ذلك إلا مجلدات مما يدل على عظم كلام الله عز وجل.

 

  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}: أي: لا تتعدوا على شعائر الله والصحيح أنها كل الدين، كل ما أمر الله به وكل ما نهى الله عنه ومن ثم يدخل كل قول قاله أهل العلم فهنا لا تحلوا شعائر الله يدخل في ذلك: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَمِن شَعَائِرِ اللَّهِ}، يدخل في ذلك الهدي: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَامِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه}. فالإنسان منهي عن أن يحل شعائر الله وأن يعتدي عليها.

{وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}: وهنا (الشهر): الجنس والمراد الأشهر الحرم، فلا يجوز الاعتداء في الأشهر الحرم بقتالٍ أو اعتداء أو بتغيير أزمانها كما يفعل الكفار كما سيأتي معنا: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}. فهنا قال: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}، أيضا لا يجوز فعل الذنب في الشهر الحرام، فتكون السيئة فيه أعظم من السيئة في غيره ولذا قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}. والذنب لا يجوز في أي شهر لكن في هذه الشهور أعظم، ومن ثم مر معنا ما يتعلق بنسخ القتال في الأشهر الحرم أو عدم ذلك والخلاف بين أهل العلم، ذكرنا ذلك في سورة البقرة كما قال عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} ووضحنا ذلك توضيحا مفصلا هناك. {وَلَا الْهَدْيَ}: الهدي: هو الذي يهدى إلى البيت، ولذا النبي ﷺ كان يهدي إلى البيت وكان في المدينة، لم يأتِ إلى مكة. {وَلَا الْقَلَائِدَ}: يعني الهدي لا يجوز أن يتعرض له لأنهم كانوا فيما مضى يسوقون الهدي، سواء كان هذا الهدي إذا كان صاحبه ماكثا في بلدته، أو ذاهبا لحج فإنه لا يجوز أن يتعرض له؛ لأنه لله عز وجل ولأنه حق لمخلوق. القلائد: هي ما يهدى إلى البيت مما يُقلّد، كانوا يقلدون البهائم التي يهدى بها إلى البيت يقلدون عليها نعلا وما شابه ذلك فيعرف الناس أنها هدي فلا يتعرضون لها، ولذلك انظر ماذا قال عز وجل: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} كما سيأتي بيانه إن شاء الله، والقلائد هنا من ضمن الهدي لكنه ذكرها على سبيل التأكيد فيما يتعلق بهذه القلائد، وإلا فهي داخلة ضمن الهدي. {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: أي: ولا قاصدين البيت الحرام، فلا يُتعرّض لهم بسوء. هؤلاء {يَبْتَغُونَ}: أي يطلبون، {فضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}: هذه الآية قال بعض أهل العلم: هي منسوخة، باعتبار أن أهل الإسلام حُرّم عليهم ومنعوا أن يتعرضوا للكفار الذين يأتون إلى مكة من أجل التجارة وهو ابتغاء الفضل، ومن أجل رضوان الله على حسب زعمهم، لكن الآية نُسخت بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}. وقيل: هي محكمة، قلت: وهذا هو الأقرب من أنها محكمة باعتبار أن السياق لأهل الإسلام، فلا يجوز لأحد أن يتعرض مَن قصد البيت الحرام يبتغي الفضل من الله وهي التجارة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ}. {وَرِضْوَانًا}: أي: يبتغون رضوان الله عز وجل. {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}: لما ذكر هناك {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: حُرّم عليهم الصيد وهم في ثنايا الإحرام، قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ}: أي من الاحرام، {فَاصْطَادُوا}، وأيضا يدخل فيه وإذا حللتم بمعنى أنكم إذا خرجتم من الحرام إلى الحل فلكم أن تصطادوا. وهنا مسألة أصولية وهي الأمر بعد النهي هل يكون للوجوب أو يكون للإباحة؟ قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}: أمرٌ بعد نهي، بعد أن نهاهم: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: أمَرَهم، فهل هذا للوجوب أم أنه للإباحة؟ وعلى كل حال القول المحَقّق في هذه المسألة من أن الأمر بعد النهي يعود للأمر الذي كان سابقا، إن كان الأمر السابق حلالا فهو حلال، إن كان محرما فهو حرام، إن كان واجبا فهو واجب، وهنا الصيد –من حيث الأصل- قبل الدخول في الإحرام حكمه الجواز فل هذا على أن قوله وإذا حللتم فاصطادوا الأمر هنا للإباحة وليس للوجوب، ولذلك سيأتي معنا أمثلة تتعلق بهذه القاعدة بإذن الله.

{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ}: أي لا يحملنّكم، {شَنَآنُ قَوْمٍ}: أي بغض قومٍ، {أَنْ صَدُّوكُمْ}: أي لأجل أنهم صدوكم، لما صدوكم عن العمرة في الحديبية، ولا يحملنكم بغض هؤلاء لما صدوكم، والشنآن: البغض، ولذلك قال الله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}: أي: إن مبغضك هو الأبتر. {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}: أي لئلا تعتدوا، سبحان الله ما أعظم هذا الدين! فإن الله عز وجل أمرهم بالعدل مع هؤلاء الذين صدوهم عن الدين فلا يجوز أن يُظلَم هؤلاء، وهذا شامل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} ولذلك في الآية الآتية: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. فلا يجوز الاعتداء على هؤلاء إذا لم يقع منهم ظلم لكم. {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}: هذا شامل لا يتعلق فقط بما مضى. البر: اسم جامع لكل خصال الخير، والتقوى: فعل الأوامر واجتناب النواهي. إذا أتى البر وحده دخلت كلمة التقوى فيه، وإذا أتت كلمة التقوى وحدها دخل البر فيها، لكن هنا لما جُمعا يكون المعنى: البر: فعل الطاعة، والتقوى: ترك المعصية. {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}: الاثم هو العدوان والعدوان الاثم، فإذا اجتمعا فيكون الاثم: هو الاثم الذي يتعلق بالإنسان ذاته، والعدوان: الاثم المتعلق بغيره، بمعنى أنه يظلم غيره، والاثم يظلم نفسه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: كرر الأمر بالتقوى. {إِنَّ اللَّهَ}: تعليلية، {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}: لمن خالف أمره عز وجل.

 

  • {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}: لما ذكر عز وجل في أول السورة: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: هذا مما يتلى علينا.

هذه الآية ذكر فيها عز وجل ما هو محرم على عباد مما يضرهم في دينهم ودنياهم.

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}: مر معنا توضيح هذه الآية في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} فذكر هناك ما يتعلق بها، وهنا أمر ذكره ابن كثير رحمه الله من أن قوله (لحم الخنزير) يشمل كل ما يتعلق بالخنزير حتى الوحشي والانسي منه، قال: ولا تغرنك حذلقة الرافضة في تعمقهم وتعنتهم من أنهم قالوا لحم الخنزير في قوله عز وجل: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}: أرجعوا الضمير إلى الخنزير ليشمل الكل، وهذا بعيد في اللغة؛ لأن الضمير إنما يعود على المضاف ولا يعود على المضاف إليه.

{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ}: أي المخنوقة قصدا أو اتفاقا، سواء خنقت نفسها بنفسها بحبل أو غيره، أو خنقها شخص آخر فإنها تكون محرمة، وذلك باعتبار أن الدم قد تمكن منها وفيها فيكون آكلها قد أضر نفسه لو أكلها. {وَالْمَوْقُوذَةُ}: المضروبة، سواء ضربت بقصد أو من غير قصد، ولذلك كما ذكر العلماء من أن أهل الجاهلية كانوا يضربون البهيمة حتى تموت فإذا ماتت أكلوها، سبحان الله! هنا في مثل هذا الزمن حصل التشابه، هناك من يضربها بالصعق الكهربائي فإذا ماتت ذبحها وأكلها وكل هذا يكون محرما. {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: التي سقطت من علوّ بنفسها أو بغيرها. {وَالنَّطِيحَةُ}: أي المنطوحة، يعني: إذا نطحت شيئا أو نطحها شيء آخر أو تناطحت هي وما يماثلها من البهائم حتى لو كان النطح وقع بها ثم إذا بالقرن أتى إلى منحرها فسال الدم منها فإنها تكون محرمة. {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}: أي ما أكله السبع من أسد وفهد وكلب ونحو ذلك. {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}: أي إلا ما أدركتموه من هذه الأشياء المذكورة من النطيحة والمتردية وأكلها السبع وبها حياة مستقرة فذبحتموها، هنا إذا ذبحتموها بقطع الحلقوم والمريء والوديجين (وهما العرقان المحيطان بالعنق) فإنها إذا أدركتها وبها حياة تكون حلالا. ما ضابط ذلك وكيف يعرف ذلك وما علامته؟ قالوا إذا ذكاها فحصل منها حركة مذبوح كأن تحرك منها اليد أو الرجل أو ما شابه ذلك كحركة المذبوح فهنا تكون حلالا، أما إذا لم تدرك وبها حياة مستقرة فإنها تكون ميتة. وهناك قول لشيخ الإسلام رحمه الله قال لا ينظر إلى هذه الأشياء وإنما متى ما ذبحت فخرج منها الدم الأحمر المعروف الذي يخرج من البهيمة كعادتها لما تخرج وهي حية إذا ذبحت فإنها تكون حلالا. قال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}: لأن التذكية هي التمام، وهذا يدل على صلاح البهيمة ولذلك يقال: رجل ذكي باعتبار أنه فاهم وتم عقله. لو قال قائل لو أن السبع أفرى بطنها فخرج منها أمعاؤها ويشابه ذلك بمعنى أنها أدركت ومثلها لا يعيش أبدا بأن يبقر منها البطن أو أن تضرب في الرقبة أو ما شابه ذلك، فهل يجوز أكلها أم لا إذا ذكيت وأدركت وبها حياة مستقرة؟ الامام مالك يمنع ذلك لكن القول الآخر هو الصحيح باعتبار أن هذا عام: فمتى ما أدركت وبها حياة مستقرة وذكيت فإنها تكون حلالا. {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}: النصب هي: الأحجار والأصنام التي يعبدونها كانت عند الكعبة، فكانوا يذبحون الذبائح على هذه النصب التي بها الإشراك بالله عز وجل، ومن ثم فإنه لا يجوز أكلها حتى لو سموا فقالوا باسم الله، لو ذكروا اسم الله لا تحل، ومن ثم فإن قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}: هذا يدل على تحريم البهيمة التي لم يذكر عليها اسم الله وذكر عليها اسم غيره، وهنا: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}: البهيمة لو كانت ذبحت لله وذكر اسم الله عليها لكن ذبحت على هذه النصب فإنه لا يجوز، لكن ليس معنى ذلك أن الانسان لا يجوز له أن يذبح على حجر لأن النصب هي الحجارة، لكن المنهي هنا من أجل أن هذه الحجارة تعبد من دون الله عز وجل، لكن الانسان لو كان مثلا أتى إلى البر وأراد أن يذبح شاة أو ما شابه ذلك فوضع حجرا فلا اشكال. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}: أي تطلبوا القسمة والحظ والنصيب بالأزلام، كان لهم أعواد أو أحجار فحجر يقول افعل، وآخر يقول لا تفعل، وحجر ليس عليه شيء، فكانوا يستسقون بالأزلام، فمن أراد سفرا أو أراد تجارة أو أمرا طلب الاستسقام بالأزلام، فإن خرج له افعل: فعل، وإن خرج لا تفعل: لم يفعل، وإن خرج الذي لا علامة عليه أعاد الاستقسام مرة أخرى وهذا ولا شك يدل على عدم سلامة العقيدة وهذا ينافي التوكل على الله، والعبد مأمور إذا اشتبه عليه أمر وإذا همّ بالأمر عليه بالاستخارة: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك كما في حديث جابر في صحيح البخاري، فهنا على المسلم يكون فاعلا للاستخارة. {ذَلِكُمْ}: أي المذكور {فِسْقٌ}: وهو الصحيح خلافًا لمن أرجعه إلى آخر مذكور، فكل ما مضى فسق وظلم واعتداء، فهو فسق باعتبار أن فيه ضررا إما على دينك وإما على دنياك، أي بدنك. لأن تلك المذكورات منها ما هو ضرر على البدن ومنها ما هو ضرر على دين المسلم وعقيدته. {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}: اليوم: مما يدل على أن الإسلام لما دخل الناس فيه دخولا كما قال عز وجل: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}، هنا يئس الكفار منكم أن تعودوا إلى الكفر، وهذا فضل من الله عز وجل عليكم. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}: بمعنى أنكم على الدين الصحيح وعليكم أن تخشوا الله عز وجل ولا تخشوا هؤلاء، ولذلك قال هنا: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}: هذا اليوم هو يوم عرفة، ولذلك النبي ﷺ كما في الصحيحين نزلت عليه هذه بعرفة، يوم الجمعة، ولذا قال اليهود لعمر رضي الله عنه إن عندكم آية لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يومها عيدا، فقال ما هي؟ فقالوا هذه الآية، فقال: إني لأعلم أين ومتى نزلت، نزلت على رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع.

وهذا هو القول الصحيح الذي تدل عليه الآثار من أن الآية نزلت في حجة الوداع. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}: يعني اليوم يوم اشتهار وظهور وإعلان هذا الدين الذي أكلمه الله عز وجل لكم. وبالفعل هناك في هذا اليوم في حجة الوداع قال النبي ﷺ: “خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا”. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}: وهو دين الإسلام، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}: لأنه قال عز وجل لما وعدهم: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}، قال هنا: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، وهذا شامل لنعمه الدينية والدنيوية ومن ذلك ما كان من إكمال الدين، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}: رضي الله لنا الإسلام دينا إذًا لنرضاه لأنفسنا، ولذلك نقول بعد الأذان: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ رسولا، والإسلام الذي ارتضاه الله لنا هو الذي أتى به النبي ﷺ كما قال عز وجل في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}: لو قال قائل –وهذه ذكرها القرطبي رحمه الله- اليوم أكملت لكم دينكم هل ما كان فيما مضى الدين ناقصا؟ أي مما أمر به النبي ﷺ يكو ناقصا والصحابة رضي الله عنهم الذين ماتوا قبل هذه الآية هل الدين الذي فعلوه كان ناقصا؟ فقال رحمه الله: الجواب عن هذا لا يلزم من ذلك النقصان فكون الإنسان مثلا في السفر ينقص الرباعية إلى ركعتين هل يلزم أن يكون هناك عيب؟ الجواب لا، إذا نقص شهر رمضان عن ثلاثين هل يلزم أن يكون في ذلك عيب؟ الجواب لا، ثم قال رحمه الله إنما اكمال الدين أتم الله عز وجل وأكمله على منتهى ما أراده فيما قدره عز وجل في هذا اليوم قال: ولأن الدين كمل في هذا اليوم لأنهم في هذا اليوم أتوا بالركن الخامس من أركان الإسلام، أركان الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان، هنا في هذا اليوم قاموا بالحج، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا. {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}: أي في مجاعة، {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ}: غير مائل لاثم، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}: في حال الضرورة، كما مر معنا تفصيل ذلك، قال عز وجل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ووضحنا ذلك في سورة البقرة، وللحديث إن شاء الله تتمة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.