بسم الله الرحمن الرحيم
باب اجتناب النجاسة
الدرس (102) من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرعُ في أحد شروط صحةِ الصلاة، بعدما فرغنا من الحديثِ عن سَتْر العورة وما تعلق بها من مسائل حول اللباس، ندخل في باب ذِكْرِ الشرط الذي يليه وهو شرطُ: اجتنابِ النجاسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من شروط صحة الصلاة: اجتناب النجاسة
وقد اختلف العلماء في كونه شرطا من عدم ذلك.
القول الأول: وهو قول الجمهور، يرون أن اجتناب النجاسة شرط من شروط صحة الصلاة،
متى لم يجتنب المصلي النجاسةَ: فإن صلاته باطلة، ثم تنازعوا فيمن عَلِمَ بالنجاسة بعد فراغه من الصلاة أو في أثناء الصلاة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأدلة الجمهور على أن اجتناب النجاسة شرط من شروط صحة الصلاة بما يأتي:
الدليل الأول:
الأدلة الآمرة بوجوب اجتناب النجاسة في المكان: كقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} ] البقرة -125[
واجتنابُها في البدن: كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في الصحيحين لما مر النبي ﷺ على قبرين قال: ” إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، بلى إنه كبير ” فذكَر منهما:
” أمَّا أحدُهُما فَكانَ لا يستبرئُ من بولِهِ “.
وهذا الحديث قد يدخل ضمن وجوب اجتناب النجاسة في جميع الأحوال.
ومن أدلة وجوب اجتناب النجاسة في البدن: ما جاء في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أن النبي ﷺ قال: ” تنزهوا من البولِ فإنَّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه “
ومن أدلة وجوب اجتناب النجاسة في الثياب:
قوله تعالى على أحد أقول المفسرين {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ] المدثر -125[
والأدلةُ التي أمرت باجتناب النجاسة كثيرة.
الدليل الثاني: ما جاء عند الدارقطني: ” تُعادُ الصَّلاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ “
ومن أدلة الجمهور: ما جاء في سنن أبي داود
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: ” بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّى بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاَتَهُ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
” إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا “
ومن أدلة الجمهور: ما جاء عند أبي يَعلى: ” يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الغَائِطِ، وَالبَولِ، وَالقَيءِ والدم “
القول الثاني (ويميل إليه الشوكاني-رحمه الله- في نيل الاوطار)
أن اجتناب النجاسة واجب وليس بشرط، ومِن ثَم على هذا القول:
فإنه لو صلى متعمداً وعليه نجاسة فإنه آثم وصلاتُه صحيحة (على هذا القول)
واستدل من قال بهذا القول: بعموم الأدلة الآمرةِ بوجوب اجتناب النجاسة وهي ما سبق ذِكرُها، لكنهم لم يقولوا بالشرطية قالوا: لأن الشرط لا يتخلّفُ عن المشروط، فيلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم.
وهذا ليس موجودا في هذه الأدلة.
القول الثالث: وهو قولٌ عند المالكية، من أن اجتناب النجاسة سنَّة:
ولكن لا دليل على هذا، ولذا القولُ الآخَر عندهم: أنها فرض وواجبة عند الذكر بخلافِ النسيان.
ولتعلم: أن المسائل الفقهية يحصل فيها خلاف، وتكونُ فيها أقوالٌ شاذة، أو تكون هناك أقوال متفرَّعِة عن أقواٍل أصلية، ومِن ثَم قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ” إن من تتبع هذه الأقوال التي هي متفرعة عن أصولٍ من الأقوال، فإنه أضاع الزمان وأتعب الأبدان “
ويُفهم من هذا: أن على طالب العلم ألا يحرِصَ على تقصِّي مثل هذه الأقوال، لأن ما لا دليل عليه لا ثمرة مِن ذِكْرِه والبحثِ فيه.
والراجح هو قول الجمهور.
وأما قولُ الشوكاني -رحمه الله-: فيما يظهر لي من الجواب عما ذَكر: فقوله إن الشرط لا يتخلف عن المشروط الجواب عنه: أن هذا ليس بلازم في جميع الأحوال فإن الشرع إذا جاء بنص يُخرجنا عن هذه القاعدة، فالنص مقدم على هذه القاعدة، ولهذا من شروط وجوب الزكاة مضي الحول، فهذا شرط لوجوب الزكاة، ومع ذلك أجاز الشرع أن يُخرج المُزكي زكاتَه لسنتين، فقد أجاز النبي ﷺ للعباس أن يُخرج زكاته لعامين، ولأن الشيءَ قد يُقدم على شرطه، مثاله: الكفارة، فيجوزُ ان تُخرج قبل الحِنث أو بعدَه، ولذا قال النبي ﷺ كما في الصحاح:
” إِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ “
وفي حديث آخر: التقديم: ” إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي “
فكأن الشارع قال: لا تصلِّ وأنت متلبس بهذه النجاسة -والعلمُ عند الله-.
أما حديث: ” تُعادُ الصَّلاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ ” فإنه حديث ضعيف،
ومثلُه في الضعف حديث: ” يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الغَائِطِ، وَالبَولِ، وَالقَيءِ والدم “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: مَن حَمَلَ نجاسة لا يُعفى عنها أو لاقاها بطلت صلاتُه.
وهذه المسألة متفرعة على القول بشرطية اجتناب النجاسة في صحة الصلاة.
حمْلُ النجاسة: أن يحمِلَها في ثوبه، كأن يكون على ثوبه نجاسة، أو كما يحصل من حمل قارورة تحليل بول أو غائط فتكون في قارورة، فتحضر الصلاة فيصلي بها.
مثالُ ملاقاة النجاسة: ألا يكون في بدنه ولا ثوبه نجاسة، ولكنه يُلاقيها في مصلاه.
واشترط الفقهاء أن تكون نجاسة غيرَ معفوٍّ عنها،
أما إذا كان يعفى عنها: فإن ملاقاة وحمل هذه النجاسة لا يضر.
ومن ثمَّ نعود إلى مسألة سابقة: ما هو اليسير من النجاسة الذي يُعفى عنه؟
ما ماهِيّتُه، أهي كلُّ النجاسات، أم نجاسة معينة؟
ذكرنا أن شيخ الاسلام أنه قال: يُعفى عن يسير النجاسات مطلقا للمشقة.
وأما مذهبُ الحنابلة فيما هو مشهورٌ عنهم: أن المعفو عنه هو يسير الدم من حيوان طاهر، شريطة ألا يكون في مطعموم ولا مشروب.
وقد سبق معنا أن دم الآدمي على القول الصحيح أنه طاهر خلافا لقول الجمهور.
لو قال قائل: لماذا خص المذهب يسير الدم؟
الجواب: قالوا لأن الدم لا يشبه الغائط ولا البول، وهو لا يشبه الطاهرَ الذي يخرُجُ من الأنف والفم كالمُخاطِ والنُخامة، فإذا كان كذلك، ليس من هذا ولا من هذا، فنجعلُه وسطا في منزلة بين منزلتين، فنقول: إن كثيرَه يضر، ويسيرَه لا يضر،
فرّقوا بين اليسير والكثير من هذه الحيثيّة.
وأما منعهم لليسير من هذا الدم في المأكول والمشروب: لأن الله عز وجل حرمه.
إذاً هذا هي أصل المسألة: مَن حَمَلَ نجاسةً لا يُعفى عنها أو لاقاها بطلت صلاتُه.
لو قال قائل: يُعترض عليكم بحديث، فإن هذا الحديث دلَّ على صحة الصلاة مع حمل النجاسة وهو حديثُ: حمل النبي ﷺ أمامة رضي الله عنها في الصلاة، ومعلومٌ أن الآدمي يحمِلُ في بطنه النجاسة.
ومن باب الفائدة: أمامة -رضي الله عنها- تزوجها علىُّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بوصية من خالتها فاطمة، فأوصت عليا أن يتزوج بها بعد وفاتها.
وهذه القصة حصلت للنبي ﷺ وهو يصلي بالناس في المسجد، وجاء في هذه القصة أن النبي ﷺ يضعُها ويرفعُها إذا سجد، وجاء أنه ﷺ حَمَلَها على عاتقه كما عند مسلم، وفي رواية أحمد: على رقبته، ولا تعارض بينهما، فإن الرقبةَ قريبةٌ من العاتق، ومِن ثَم قال بعض العلماء:
إن النبي ﷺ لم يحملها وإنما كانت تتعلقُ به، والرد عليه:
ما جاء في الرواية أنه ﷺ “يحملها ويضعها”
وقال بعض العلماء: إن هذه الحادثة منسوخة، أو أنها للضرورة، لعدم وجود أحد مع النبي ﷺ.
وما ذُكر من أن النبي ﷺ كان يصلي ويؤم الناس في المسجد يُبطل ما ذُكِر من أنه كان خاليا.
ولذا قال النووي -رحمه الله-: كل هذه مزاعم لا دليل عليها.
فيكون الجواب عنها كما ذكر-رحمه الله-:
أن النجاسة في معدتها لا أثر لها، وذلك لأن النجاسة في بطنها ولم تخرج،
قلتُ: ولو قيل بهذا: لما صحت صلاةُ أحدٍ أبدا، لمَ؟ لأنه يحملُ النجاسةَ في بطنه.
ويستفاد من قصة أمامة رضي الله عنها:
[ أن الأصل في ثياب وأبدان الأطفال الطهارة ما لم تُتيقن نجاستُها ].
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلنا إن الفقهاء استثنوا من النجاسة: اليسير.
استثنوا أمرا آخر، وهو: أنه إذا مس بثوبه النجاسة من غير اعتماد عليها.
ولم أرَ مَن ذَكَر دليلاً، لكن في نظري أن الدليل الذي ربما يكون دليلا لهم، ما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- كما عند مسلم:
” كانَ النبيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ وأَنَا إلى جَنْبِهِ، وأَنَا حَائِضٌ وعَلَيَّ مِرْطٌ وعليه بَعْضُهُ إلى جَنْبِهِ “
وجاء هذا أيضا عن ميمونة رضي الله عنها في قصة أخرى كما في الصحيحين:
” عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي وَأَنَا حِذَاءَهُ وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ “
ومعلوم أن الحائض لا تسلم من خروج الدم، فملامسة ثوب النبي ﷺ لميمونة رضي الله عنها يدل على التجاوز؛ لأنها مباشرةٌ من غير اعتماد،
ولذا قالوا: لو أن المصلي إذا قام وبجانبه جدارٌ نجس فلامس ثوبُه الجدار، فإن صلاته صحيحة ولا تضر هذه الملامسة.
ولعل تعبير الفقهاء بقولهم (أو لاقاها) يراد منه نفيُ الملامسة من غير اعتماد في هذا الحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأيضا مما استثناه الفقهاء: إذا كانت النجاسةُ متصلة بشيء يتعلقُ بهذا المصلي ولا تنجّر بمشيه، أما إذا انجرت بمشيه فإن صلاته باطلة:
مثاله: لو أن المصلي ربط حبلا في يده، وطرفُ الحبل الآخَر مربوطٌ بحجر نجِس، فإن هذه الحجر النجس إذا كان صغيراً بحيث لو مشى المصلي مشى معه فإن صلاته باطلة؛ لأنه مُستتبِعٌ للنجاسة،
وأما إذا الحجر كبيراً: بحيث لو مشى المصلي لما انجرَّ معه: فإن صلاته صحيحة؛ لأنه غيرُ مستتبع للنجاسة لوجود الفاصل الذي هو الحبل الطاهر.
ولذا قد يُلغَزُ بها، فيقال: رجلٌ يصلي اتصلت به نجاسةٌ صغيرةٌ فبطلت صلاتُه،
ورجلٌ آخر اتصلت به نجاسةٌ كبيرة فلم تبطُل صلاتُه.
هذا ما ذكروه وما استثنوه قولٌ مرجوح، فإن الصحيح: أن صلاته في كلتا الحالتين صحيحة؛ وذلك لأن النجاسة منفصلة عنه بحبل طاهر.