بسم الله الرحمن الرحيم
من شروط صحة الصلاة: استقبال القبلة
الدرس (113) من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أن ذكرنا مسائل تتعلقُ بشرطٍ من شروط الصلاة الذي هو استقبال القبلة، بقي معنا مسألة وتتلوها مسائل؛ هذه المسألة هي: بِمَ تُعرَفُ القبلة؟
ج/ تُعرَفُ القبلةُ بأمور:
أولا: بالمشاهدة، فإن المشاهدة مِن أعظمِ الأدلة اليقينية على القبلة؛ وذلك لأن المشاهدة دليلٌ قطعي؛ لأن المشاهدةَ مِن الحِس، والحِسُّ يُعدُّ دليلاً قطعياً؛ فإنه لا رَيبةَ ولا شك فيمن رأى القبلةَ بأمِّ عَينَيه -لا شك عنده في ذلك- وهذا مِن أعظمِ الأمور التي تُعرَفُ بها القبلة.
ثانيا: الخبر، فإذا أُخبِر المسلمُ بأن القبلة مع هذه الجهة؛ فيُنظر:
هل هذا الإخبارُ عن يقين أو لا؟
وينظر أهذا المُخبِرُ رجلاً أم امرأة؟
وينظر أهذا المُخبِرُ ثقةً أم أنه غيرُ ثقة؟
فالأمْرُ الأول: وهو أن يكونَ الخبرُ عن يقين، وذلك كأن يتيقن المُخبِرُ أن القبلة مع هذه الجهة، هذا هو اليقين كأن يُدرِكَ أن القبلة على وجهِ اليقين مع هذه الجهة.
إذاً غيرُ اليقين: الظن، فلو كان المُخبِرُ قد أخْبَرَ بخبره عن ظَنٍّ -وهذا حاصلٌ بالاجتهاد- فلو أن شخصاً اجتهد وعنده وسائلُ وأدوات الاجتهاد؛ فاجتهد؛ فأخبرَكَ أن القبلة مع هذه الجهة، أيُقبَلُ قولُه أم لا يُقبل؟
اختلف العلماءُ في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الخبر الظني لا يُقبَلُ في أمْرِ القبلة، وهذا هو مشهورُ مذهبَ الإمام أحمد -رحمه الله- وحجتهم في هذا: أن الاجتهاد قابلٌ للخطأ فليس كاليقين
وعندنا: أن الأمر جاء من الشرع على سبيل الوجوب- وجوب استقبال القبلة- ولا يَخرُجُ الإنسانُ مِن عُهدةِ هذا الأمر إلا بيقين.
القول الثاني: أن خبر المُجتهدِ في استقبال القبلة مقبول، وهذا هو الصواب؛
لأن المجتهدَ في مسائل الدين اجتهادُه قد لا يُحالَفُ فيه الصواب، فإذا كان خطؤه قد يحصُلُ في مسائل الدين فمن باب أولى في أمْرِ القبلة.
الفرع الثاني وهو: إذا كان المُخبِرُ رجلا أو امرأة:
أهناك فرق أم ليس هناك فرق؟
فالجواب: ليس هناك فرقٌ بين خبر المرأة وخبرِ الرجل، ولا يُقاسُ ذلك على الشهادة؛ لأن الشهادة فيما يتعلقُ بالأموال؛ وما له صلةٌ بالأموال: يُشترط أن يكونَ مع الرجل امرأتان، فالمرأتان تقومان في الشهادة في مَقامِ الرجل الواحد
وهنا ليست شهادة وإنما هو خبرٌ ديني؛ فيستوي فيه الرجلُ والمرأة
فإذا أخبرت المرأةُ بأن هذه الجهة هي جهةُ القبلة؛ فإن قولَها مقبولٌ كقَبول قولِ الرجل؛ والدليل:
أن الصحابيات رضي الله عنهن ومن بينهن أمهات المؤمنين؛ كن ينقلن ويُخبرن عن حال الرسول ﷺ.
فهناك فرقٌ بين الخبر وبين الشهادة؛ ولذا لو أخبرت المرأةُ بأنها قد رأت هلالَ شهرِ رمضان:
فإن قولَها يُقبَل؛ لأنه خبرٌ ديني، وهلمَّ جرّا، ففرقٌ بين مسائلِ الإخبار ومسائل الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثالث: أن يكون هذا المُخبِرُ ثقة
لكن من هو الثقة؟
هذه الكلمة يندرج تحتَها ثلاثُ صفات:
1/ أن يكون عدلاً
2/ أن يكون مُكَلَّفاً
3/ أن يكون ذا خبرة
لأن الله عز وجل نهانا عن قَبولِ خبرِ الفاسِقِ حتى نتبين صِدقَه مِن كَذِبِه
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ] الحجرات -6[
وفي قراءة: {فَتَثبَيَّنُوا}
فلو أتنينا إلى هذه الصفات صفة تلو الأخرى ووقفنا عندها، نجد أن:
الصفة الأولى التي هي العدالة: تُخرِجُ الفاسقَ، ومن باب أولى تُخرِجُ الكافرَ
لكن من هو العدل؟
-إن يسر الله عز وجل إكمال درس الفقه سنصل إلى آخِر المسائل في الفقه تتعلق بكتاب القضاء وهو آخِرُ كتابٍ في الفقه-
ذكر فيه شيخُ الإسلام -رحمه الله- أن العدالةَ تختلفُ باختلاف الأحوالِ والأزمان
فمن كان عدلاً في عصرٍ قد لا يكونُ عدلاً في العصر السابق
ومن ثم: فإن العدالة كما قال -رحمه الله- ’’ إن العدالة تختلف باختلاف الأزمان وباختلاف الأحوال’’
الصفة الثانية التكليف، أن يكون مكلفاً وكلمةُ المكلف يندرجُ تحتَها أمران:
1/ البلوغ، يُخرِجُ الصغيرَ؛ فإن الصغير لا يُقبَلُ قولُه.
2/ العقل، يُخرِجُ الجنون، فإن المجنون ولو كان طاعناً في السن فإنه لا يُقبَلُ قولُه ولا خَبَرُه.
الصفة الثالثة: الخبرة، وذلك بأن لا يُعرَفَ أن هذا المُخبِرَ كثيراً ما يُخطئ، فإن كان مِن عادته الخطأ الكثير فإنه ليس بصاحب خبرة، وبالتالي لا يُقبَلُ قولُه.
ولذا قال بعض الفقهاء: ’’ يستحب تعلم أدلة القبلةِ والوقت’’ وهذا مسنون في حق الإنسان.
ولعل عدم الوجوب -فيما ذكروه من الاستحباب فقط- لعل اقتصارهم على الاستحباب دون الوجوب:
ما مر معنا في الوقت؛ فمن مسنونات المؤذن: أن يكون عالماً بالوقت
والدليل: أن ابن أم مكتوم كان رجلاً أعمى فكان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت.
مع أن بعض الفقهاء: يُوجِبُ تعلَّمِ أدلةِ القبلة؛ وأدلةِ الوقت على المسافر؛ لأنه محتاجٌ إلى هذه الأشياء؛ فإنه في سفرِه سيفتقد إلى المُخبِر في غالب الأحوال.
والذي يظهر: أنه لا يجب. ولكن ما الدليل؟
قد يقول قائل: إن دليل وجوبهم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فإنه واجب عليه إذا صلى أن تكون صلاتُه في الوقت، وأن تكون إلى جهة القبلة؛
ولا يمكن أن يحصل على هذا إلا إذا تعلّم، فيكون هذا التعلم في حقه واجباً
بينما هو في الإقامة سيعرفُ اتجاه القبلة إما بخبر وإما بعلامات -سيأتي بيانُها-.
لكن الذي يظهر: أن الوجوب صعبٌ في مثل هذا بدليل -ما مر معنا- أن الصحابة -رضي الله عنهم- في أحد أسفارِ النبي ﷺ صلوا إلى غير القبلة؛ فأنزل الله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ] البقرة -115[
ولم يُوجب النبي ﷺ على الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك الوقت أن يكونوا علماء، أو أن يتعلموا أدلةَ الوقتِ والقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِن الأمور التي تُعرَفُ بها القبلة:
1/ النجوم، قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ]النحل -16[
2/ الشمسُ والقمر ومنازلُهما، فإن للقمر ثمانيةً وعشرين مَنزِلاً؛ يَنزِلُها كلَّ ليلة من الشهر ما عدا ليلةً أو ليليتين؛ وتُسمى بـ [ليالي الاستتار] لأن القمرَ وقتَها لا يُرى، وهذه المنازل أيضا تنزلُها الشمس؛ لكن على مدى سنةٍ كاملة؛ ليس على مدى شهرٍ كما هو الحالُ في القمر
وهذه لها أصحابُها، وهناك مِن كبارِ السن ممن اعتادَ على التنقل بين البراري له معرفة بهذه النجوم ومعرفة بالشمس والقمر.
ولذا من العلامات أيضا:
3/ أنه يُستدلُّ بالجبال وبمصابِّ الأنهار.
4/ ومن العلامات: أنه يُستدلُّ بالرياح.
5/ الآلات الحديثة: كالبوصلة.
6/ المحاريبُ الإسلامية، والمِحراب معروف؛ لكنه وُصِفَ هنا عند العلماء بأنه مِحرابٌ إسلامي؛ لأن هناك محاريبَ غيرَ إسلامية.
وهذه المحاريبُ الغيرُ إسلامية؛ أيُؤخَذُ بها؟ أم لا يؤخذ بها؟
ج/ لا يُؤخذ بها؛ لأن المُخبِرَ كما اشترطنا فيه: أن يكون عدلاً؛ فكذلك في أفعالهم؛ لأن هذه المحاريب مِن صُنْعِهِم.
___________________________________________