الدرس ( 57 ) باب التيمم ( 2 ) ( شروط التيمم )

الدرس ( 57 ) باب التيمم ( 2 ) ( شروط التيمم )

مشاهدات: 442

بسم الله الرحمن الرحيم

باب التيمم – الدرس السابع والخمسون – من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ/ زيد البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شروط التيمم

مسألة/ [ يشترطُ للتيمم عدمُ وجود الماء، أو عدمُ ثمنِه، أو خوفٌ باستعماله، أو ضرر بطلبه في بدنه أو في ماله أو نحوِ ذلك ]

الشرح/ هذه المسألة هي المعروفةُ بشروط التيمم

الشرط الأول: أن يُعدَم الماء، ودليلُ هذا من كتاب الله ومن السنة، فأما من الكتاب قوله تعالى:

{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا}

ومن السنة الحديثُ السابق:

” الصَّعيد الطيّب وُضُوء المسْلم، وإِن لم يَجِد الماء عَشر سنين، فإِذا وجَدَ الماء فَلْيَتَّقِ الله ولْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فإِن ذلك خيرٌ “.

 

الشرطُ الثاني: عدمُ ثمنِه، وذلك أن الماء قد يوجد، لكن إذا وُجِد قد لا يجبُ استعمالُه، ومِن ثَمَّ فيُعدَلُ إلى التيمم؛ مِن بين هذه الصور:

 (أن يَعدِمَ ثمنُه) فإذا عَدِمَ ثمنَه فإنه يَصدُق عليه عدمُ وجودِ الماء، قال عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} وعادِمُ ثمنِه في الحقيقةِ هو كعادِمِ الماء،

 

ومن الصور: أن يوجد الماء أو يوجد الثمن لكنَّ الثمنَ باهِظٌ، ومِقدارُ الكثرةِ في الثمن أن يزيدَ عن ثَمَنِ المِثل، فإذا وَجَدَ ماءً ومعه مالٌ كثيرٌ لكنَّ ثمنَ هذا الماء يزيدُ عن ثمنِ المِثل، فله أن يعدِلَ إلى التيمم،

– وهذا المشهورُ مِن مذهب الإمام أحمد – ولكنهم يستثنون الزيادةَ اليسيرة، ويرون أنه: لو زاد على ثمن المِثلِ بشيءٍ يسير فيستحَبُّ له استحبابًا مؤكدا أن يشتريَه؛ وحجتهم:

 قولُه تعالى {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} ووجه الاستدلال:

أن الثمن إذا زاد عن المِثل يكونُ في حكمِ العادِم، ولأن الزيادةَ عن ثمن المثل تُوجِبُ الضررَ على صاحبِ المال، وقد قال النبي ﷺ كما في المسند:

” لا ضررَ ولا ضِرار “

ولكن الصحيح: أنه لا يعدِلُ إلى التيمم، فمتى ما كان ذا مالٍ كثير لا تضرُّه هذه الزيادةُ، فيجبُ عليه أن يشتريَ الماءَ ويتوضأ، والدليلُ قول الله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} وذو المال الكثير واجِدٌ للماء،

 ولأنه يلزَمُ – على قولهم -أن مَن يملِكُ مليارات الدراهم لا يُلزَمُ بشراءِ الماءِ إذا زادَ على ثمنِ المِثل،

 ومعلوم أن مِثلَ هذا الثمن اليسير لا يُوقِعُ أدنى الضررِ بصاحب المال الكثير،

 ومِن ثَم: فينتفي الاستدلالُ بقول النبي ﷺ: ” لا ضررَ ولا ضِرار “

ويُقبلُ قولُهم فيما لو كان لديه مالٌ كثير ويحتاجُ إليه في أداءِ واجب كسدادِ دين أو نفقةٍ له أو نفقةٍ لعيالِه أو نفقةِ لقريبٍ تجبُ عليه نفقتُه، فإذا وُجِدَ هذا فيصدُق الاستدلال بقولِه ﷺ: ” لا ضررَ ولا ضِرار “

 

ومن صور العدول إلى التيمم مع وجود الماء: أن يخافَ الضررَ باستعماله، ومن أمثلةِ هذا:

 لو أن إنسانا خشِيَ باستعمالِ الماء أن يُصابَ بمرض أو أن تتشوه خِلْقَتُهُ أو ما أشبه ذلك من الأضرار التي تنزِلُ ببدَنِه.

والأدلة على هذا:

الدليل الأول: ما جاء في مسند الإمام أحمد: أن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- ولّاهُ النبيُّ ﷺ قائدا في غزوةِ ذاتِ السلاسل، فلما أجنَبَ -رضي الله عنه- وكان الجوُّ باردا لم يغتسِل مع وجود الماء، فتيممَ وصلّى بأصحابه، وقد أنكروا عليه ذلك، فلما رجع إلى النبي ﷺ أُخْبِرَ بصنيعِ عمرو بن العاص-رضي الله عنه- ، فقال ﷺ: ما حمَلَكَ على هذا؟

فقال رضي الله عنه- : إني خشيتُ على نفسي، وقد قال اللهُ عز وجل:

{وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فتبسم النبي ﷺ؛ وتبسُّمُه إقرارٌ لِفِعْلِ عَمْرٍو -رضي الله عنه-

 

عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامَ ذَاتِ السَّلَاسِلِ. قَالَ : فَاحْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ. قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ : ” يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ ” قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.

 

الدليل الثاني: الحديث السابق ” لا ضررَ ولا ضِرار “

فلو قال قائل/ كيف يُستدلُّ بهذا الحديث مع أن الضررَ غيرُ موجود، فلم يقَع بَعد؟

فالجوابُ: أن الخوفَ من الضرر يُعتبرُ ضررا، ولذا لو خاف باستعمال الماء أن يزدادَ مَرضُه، أو أن تزيد مدةُ المرض ولو زيادةً يسيرة: فله أن يستعملَ التراب،

 وهل يَرْجِعُ في ضَبْطِ هذا الضرر إلى الأطباء أم إلى نفسِه؟

 قال بعضُ العلماء: يُحتمل هذا، ويحتمل هذا، والأجمع في نظري أن يُقال: إن كان عنده طبيبٌ يسألُه فلْيسألْه؛ وإن لم يكن طبيب فإنه يعتمدُ على تقريره هو، – وهذا القولُ إنما هو في مرضٍ يزدادُ به الماء أو تطولُ به المدة -أما خوفُ حصولِ المرض فهذا يرجِعُ إلى نفسِ الشخص، ودليلُه: فِعْلُ عمرو بن العاص -رضي الله عنه – ،

ولكن لِتعلَم أن الضرر ليس هو الخوفَ مِن البرد وإنما هو الخوفُ من الضرر، ولذا ابنُ مسعودٍ -رضي الله عنهما- كما في البخاري: كان يُنكِرُ أن يتيممَ الجنب، فقال له أبو موسى -رضي الله عنه- ولم؟

قال: أخشى أن يبالغ الإنسانُ في التيمم، فإذا أحَسَّ ببردٍ تيممَ وتَرَكَ الماء،

 وحديثُه مع ابن مسعود -رضي الله عنه- سيأتي مسألةِ تيممِ الجُنُب – بإذن الله تعالى-

 فالخوفُ من البرد لا يُبيح للإنسان أن يترك الماء -وقد مر معنا حديثُ النبي ﷺ في قوله:

” إسباغُ الوُضوءِ على المكارِه “

 

 ومن صور التيمم مع وجود الماء: أن يخاف الضررَ في استعماله على ماله،

ومثالُ ذلك: – ما سبق – من أنه لو كان عليه دَين أو نفقة واجبة أو كان ذا مالٍ قليل يحتاجُ له، فإن له أن يعدِلَ إلى التيمم،

 وكلُّ هذه الصور مِن بابِ رَفْعِ الحَرَجِ عن هذه الأمة، ولذا لما ذَكَرَ الله عز وجل الوُضوءَ في صَدْرِ الآية التي في سورة المائدة، ثم ذَكَر التيمم قال عز وجل:

{مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ}

 

ومن صور استعمال التيمم مع وجود الماء: أن يخاف الضررَ على بهائمه، فلو كان لديه بهائم تحتاجُ إلى الماء، وباستعماله لهذا الماء يُوقِعُ هذه البهائمَ في الهلاك: فله أن يعدِلَ إلى التيمم، لأن هذا ما باب الخوف من حصول الضرر على المال.

 

ومن صور استعمال التيمم مع وجود الماء: أن يحتاج إلى هذا الماء لمداواةِ مريض،

وذلك بأن يكونَ هو مريضا وعلاجُه أو تخفيفُ مرضِهِ بالماء أو صاحبٌ له بهذه الصورة، فله أن يعدِلَ إلى التيمم لوجود الحرج.

 

ومن صور استعمال التيمم مع وجود الماء: لو كان هناك حيوانٌ محترم، ليس مُلْكًا له، فإنه يعدِلُ إلى التيمم ويسقي هذه البهيمة،

 وقد استدل الفقهاءُ على هذا: بقصة المرأةِ البغيّ التي سَقَت كلبا يأكلُ الثرى مِن العطش، فَشَكَر اللهُ لها صَنِيعَها،

أما البهائمُ غيرُ المحترمة: كالكلبِ العَقور، الذي أمَرَ النبي ﷺ بِقَتْلِه، فإنه لا يدخُلُ ضِمنَ هذه الصور.

 

ومن صور استعمال التيمم مع وجود الماء: أن يحتاجَ إليه مَن هو مُشْرِفٌ على الهلاك، فيجبُ والحالةُ هذه أن يعدل إلى التيمم، ويجبُ عليه في أصَحِّ الوَجهين -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله- أن يبذُلَه لمضطر، لأن في هذا إنقاذا لنفْسٍ معصومة.

 أما بَذْلُه لمن يتوضأ به، كأن يكونَ الماءُ كثيرا، فهل يُلزَمُ بأن يُعطيَ المحتاجَ للوُضوء شيئا من هذا الماء؟

الجواب: لا يُلزَم، وذلك لأن الأوامرَ الشرعية إنما هي صادرةٌ لكل شخص، وليس الأمر الصادرُ إليك هو واجبٌ عليّ، فإن هذا العادِمَ للماء قد جَعَلَ اللهُ له مَخرجا وذلك بالتيمم.

 

 أما لو كان الماءُ قليلا يكفي له أو لغيره، فهل يبذُله لغيره ليتوضأ الغيرُ ويتيممَ هوَ؟

فقال بعضُ العلماء: يجوزُ أن يبذُلَه لوالدَيه،

وقال ابنُ القيم -رحمه الله- وهو قولٌ فريد وفي نفسِ الوقت غريب – قال:

 له أن يبذُلَه ليتوضأ الغير ويتيممَ هو،

– وهذا في الحقيقة إيثار، لكن الإيثار ليس على إطلاقه يكونُ محمودا، وسيأتي معنا في صلاة الجمعة ما يتعلقُ بمسألة الإيثار وأنواع الإيثار، وما لابنِ القيم مِن أدلةٍ في جوازِ الإيثار بالقَرَب –

ولكن الصحيح: أنه لا يجوزُ أن يؤثِرَه بهذا الماء، وذلك لأنه يصدُق عليه قولُ اللهِ عز وجل في مفهوم الآية أنه واجِدٌ للماء،

 ولذا/ مِن أنواع الإيثار المُحَرّم الإيثارُ بالواجب، وهذا قد وَجَبَ عليه الوُضوء لوجودِ الماء،

 أما غيره مِن والدين أو غيرِهما فإن اللهَ عز وجل قد جَعَلَ لهم مَخرجا وهو: التيمم.