الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
ثم لما ذكر رحمه الله مرتبة الإسلام ذكر مرتبة الإيمان ، قال رحمه الله:
( المرتبة الثانية : الإيمان وهو بضع وسبعون شعبة ، فأعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ) .
ذكر رحمه الله الإيمان وذكر مرتبته وذكر هذا الكلام ، وهذا الكلام هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو مضمون لما قاله عليه الصلاة والسلام .
( الإيمان وهو بضع ) البضع / من ثلاثة إلى تسعة يسمى بضعا .
قال ( هو بضع وسبعون شعبة ) هل الإيمان وأنواعه منحصر في هذه الشعب المذكورة في الحديث ؟ ( لا ) فالإيمان شعب ، لكن تحت هذه الشعب أنواع كثيرة من أنواع الإيمان .
قال ( فأعلاها ) إذا سمعت كلمة ( أعلاها ) تُوقفك ما هو هذا الأعلى ؟ التوحيد ، ولذا قال ( قول لا إله إلا الله ) .
( وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ) .
الحياء / هو خُلقٌ يمنع الإنسان مما يشينه ويدفعه إلى ما يزينه من الأعمال والأقوال ، لأن الرجل الحيي حقيقة هو الذي يستحي من الله عز وجل إذا أراد أن يقدم على ذنب ، ويستحي من الله إذا أراد أن يترك طاعة أو واجبا .
وهذا الكلام الذي ذكره رحمه الله وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا تأملناه يدل على ماذا ؟
فيه فوائد منها : أن أعلى الإيمان هو التوحيد .
ومن الفوائد : أن الإيمان ليس قولا ، وإنما في الإيمان عمل ، ما هو العمل المذكور في الحديث هنا ( إماطة الأذى عن الطريق ) وقول ( لا إله إلا الله ) يدل على القول وعلى الاعتقاد ، فالإيمان تعريفه : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح .يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
ومن الفوائد : أن العمل الصالح الذي يتعدى نفعه للغير من أنفع ما يكون ، لأنك إذا أمطت الأذى عن الطريق فهو عمل صالح لكنه مختص بك أو بغيرك ؟ بغيرك .
قال المصنف رحمه الله :
( وأركانه ستة : ) أي أركان الإيمان ( أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ) .
( والدليل على هذه الأركان الستة : قوله تعالى : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } البقرة177 ) .
فقد أوضح – سبحانه وتعالى – لما حصل ما حصل في تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، ظنوا أن هذا هو البر ، فبيَّن سبحانه وتعالى أن البر ليس أن يولي العبد وجهه قِبل المشرق والمغرب ، ولكن البر ما ذكره – سبحانه وتعالى – { مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } هذا هو الركن الأول{ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الركن الثاني { وَالْمَلآئِكَةِ} الركن الثالث { وَالْكِتَابِ } الركن الرابع { وَالنَّبِيِّينَ } الركن الخامس .
( ودليل القدر : قوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }القمر49).
فذكر في هاتين الآيتين ذكر – سبحانه وتعالى – أركان الإيمان الستة ، ولتعلم أن أصول الإيمان الستة يجب أن يؤمن بها العبد كلية وتفصيلا ، كما أخبر بذلك القرآن أو أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن أنكر جزءا من أصل من هذه الأصول فقد كفر بالله عز وجل كفرا يُخرجه عن ملة الإسلام ، فلو قال مثلا : إن جبرائيل ليس بملَك ، أو إن ميكائيل ليس بملك ، أو إن التوراة ليست من الكتب المنزلة ، أو إن القبر ليس فيه عذاب ولا نعيم ، أو إنه ليس من بين الأنبياء ما يسمى بنوح أو إبراهيم عليهما السلام ، فإنه كافر .
ثم قال رحمه الله :
المرتبة الثالثة : الإحسان
أي المرتبة الثالثة من مراتب الدين:
( ركن واحد ، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
إذاً مر معنا أركان الإسلام وأنها ( خمسة ) وأركان الإيمان ( ستة ) وأركان الإحسان ( ركن واحد ) ولكن هذا الركن له مرتبتان إحداهما أعلى من الأخرى ، فالتي هي أعلى : أن تأتي بالعبادة كأنك ترى الله عز وجل ، وهذا هو أعلى المقامين من مقامي الإحسان ، فإن لم تحصل لك هذه المرتبة فتأتي المرتبة الثانية : أن تعبد الله معتقدا وموقنا بأن الله يراك ، إذاً الفضلى والعظمى أن تعبد الله كأنك تراه ، كأن الحواجز قد أزيحت بينك وبين الله عز وجل ، فإن لم يحصل هذا : أن تعبد الله معتقدا أنه يراك .
( والدليل🙂 أي على الإحسان ( قوله تعالى : إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } النحل128 ) .
فأوضح – سبحانه وتعالى – هنا أن هناك معِية منه ، لمن ؟ للمحسنين ، لأن مَعِية الله نوعان :
النوع الأول : مَعِية عامة لجميع الخلق { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }المجادلة7 ، فهو جل وعلا مع الخلق ، ولكن ليس معنى هذا أنه مختلط بالخلق ( لا ) هو مع الخلق بعلمه ، بتولي شؤونهم ، بتدبير أرزاقهم ، لكنه في علوه قد استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته ، فهذه هي المعية العامة لجميع الخلق .
النوع الثاني : معية خاصة ، وهي معيته – سبحانه وتعالى – لعباده المتقين المحسنين ، وتقتضي هذه المعية التأييد والنصرة والحفظ وما شابه ذلك من معاني المعية الخاصة .
( وقوله تعالى: ) دليل ثاني على الإحسان ( { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ{217} الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ{218} وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ{219} إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{220} ) .
هذه الآية أمر – سبحانه وتعالى – النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه ، وهذا التوكل الحاصل على مرأى من الله عز وجل ، وهذه الآية تدل على المرتبة الثانية من مراتب الإحسان { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } في ذهابك ، في إيابك ، في شؤونك كلها { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }.
( وقوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } يونس61 ) .
فأخبر – سبحانه وتعالى – أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يكون في شأن من أي الشؤون التي يعملها ، وما يتلو من كلام الله سبحانه وتعالى إلا والله سبحانه وتعالى شهيد على هذا العمل { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } وتمارسونه .
ثم قال رحمه الله :
( والدليل من السنة ) على الإحسان ، أم على مراتب الدين الثلاثة ؟ على مراتب الدين الثلاثة ( الإسلام والإيمان والإحسان ) .
( والدليل من السنة : حديث جبريل المشهور ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواء الشعر ، لا يُرى عليه أثرُ السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسندَ ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، قال : صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : أخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، قال : أخبرني عن الإحسان ، قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، قال : أخبرني عن الساعة ، قال : ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل ، قال: أخبرني عن أماراتها ( يعني علاماتها ) قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان ، قال : فمضى فلبثنا مليا ، فقال يا عمر أتدرون من السائل ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ) .
هذا الحديث وهو حديث جبريل عن عمر رضي الله عنه ، فيه فوائد كثيرة ولكنني أذكر شيئا منها :
من الفوائد :
أن جبريل عليه السلام أتى في صورة التعمية وإخفاء نفسه عن الصحابة ، لم ؟ لأنه غريب ، وإذا كان غريبا فسيكون مسافرا ، والمسافر بطبيعة الحال في ذلك العصر يُرى عليه شعث الرأس ، يرى عليه الغبار ، يرى عليه اتساخ ملابسه ، لكن هذا الرجل غريب ومع ذلك غريبٌ أمره ، ومما يدل على ذلك أنه قال ( يا محمد ) ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنه لا يحق لهم أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم ( يا محمد ) وإنما يقولون ( يا رسول الله ) أو ( يا أيها النبي ) ولا يجوز في حقهم أن يقولوا ( يا محمد ) ثم إن هذا الرجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصدقه ، ومعلوم أن السائل جاهل ، فكيف يسأله ويخبره بالجواب ثم يصدقه ، فدل على أن لديه علما ، ولذلك عَجِبَ الصحابة رضي الله عنهم من أمره ، ومما يدل على أنه أخفى نفسه أنه فعل شيئا غريبا إذ ( وضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية ( وضع يديه على فخذيه وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ) وهذا يدل على عدم التواضع لمن تطلب عنده العلم ، لأنه ليس من المناسب أن تضع يديك على فخذي العالم ، فهذا من باب التعمية أيضا .
ومن الفوائد :
وهي فائدة فقهية ، استدل بعض العلماء على أن الفخذ ليس بعورة ، إذ لو كان عورة لما جاز لجبريل عليه السلام أن يضع كفيه على فخذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمسألة طويلة ومحلها في باب الفقه.
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجواب يفصل في الموضوع ، لما سأله عن الساعة قال عليه الصلاة والسلام ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ) بمعنى أن كل سائل وكل مسؤول لا يعلم بوقت يوم القيامة.
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن علامات الساعة ، وهذه العلامات المذكورة في الحديث هي العلامات الصغرى ، قال ( أن تلد الأمة ربتها ) بمعنى أن السادة يطئون الإماء فينتج من هذا الوطء أولاد ، فيكون الولد حرا لأنه تبع لأبيه ، وتكون الأنثى المولودة حرة ( أن تلد الأمة ربتها ) لأن الأمة رقيقة ، ومن العلامات ( أن ترى الحفاة ) يعني من لا يلبس النعال ( العراة ) الذي عرى جسمه من اللباس ( العالة ) يعني الفقراء (العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ) كل منهم يسعى إلى أن يكون بنيانه أطول من الآخر .
ومن الفوائد :
أن معنى ( فلبثنا مليا ) يعني زمنا .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن جبريل عليه السلام أتى ليعلمهم الدين ، فما هو الدين المذكور هنا ؟ ( الإسلام والإيمان والإحسان ) .