التوحيد الموسع لكتاب التوحيد
الدرس ( 20 )
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : ” كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : ( يا معاذ ، أتدرى ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ) ؟
الجزء الأول
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد أحسن المؤلف رحمه الله في ترتيب النصوص تحت هذا الباب ، فقد ذكر في أول هذا الباب الحكمة من خلق الجن والإنس، ثم ذكر النص في بيان الحكمة من إرسال الرسل ، ثم ذكر النص الذي فيه قضاء الله عز وجل القضاء الشرعي بالتوحيد ، ثم ذكر النص الذي فيه بيان حقه عز وجل من جملة الحقوق العشرة ، ثم ذكر نصاً فيه وصية الله عز وجل لجميع خلقه بالتوحيد ، ثم ذكر نصاً فيه بيان وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بالتوحيد ، ثم ذكر هذا النص الذي فيه جزاء وثواب من قام بهذا الحق العظيم ، وثوابه كما سيأتي في ثنايا شرح هذا الحديث ” ألا يعذب من لا يشرك به شيئا “
قال المصنف رحمه الله :
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : ” كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : ” يا معاذ ، أتدرى ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ؟ فقلت : ” الله ورسوله اعلم ”
قال : ” فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا “
فقلت : ” يا رسول أفلا أبشر الناس ؟
قال : لا تبشرهم فيتكلوا ”
أخرجاه في الصحيحين .
قوله : ( عن معاذ بن جبل )
هو : معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه
، كان من أعلم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذا جاء في الحديث الصحيح ( أن معاذا يوم القيامة يتقدم العلماء برتوة ) ” والرتوة ” قيل هي الرمية بحجر ، وقيل الرمية بسهم “
فيكون إمامهم العلماء يوم القيامة ، ولذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي معنا بإذن الله – أرسله إلى اليمن قاضيا ومعلما “
فيخبر رضي الله عنه فيقول ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار )
( رديف ) على وزن فعيل ، ووزن ” فعيل ” يأتي بمعنى : ” فاعل ” فرديف بمعنى رادف ، كما أن سميع بمعنى : سامع .
قال : ” كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار”
يؤخذ من هذا : جواز الإرداف على الدابة شريطة أن تتحمل هذه الدابة ، فإن لم يكن لها طاقة فلا يجوز هذا الإرداف ، لأن الإضرار بالحيوان لا يجوز ، ولذا ( النبي صلى الله عليه وسلم مرّ ذات يوم بجمل ، فشكا إليه هذا الجمل أن صاحبه يكلفه ما لا يطيق ولا يطعمه ، فقال عليه الصلاة والسلام ” اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة ، فكلوها صالحة واركبوها صالحة ”
ونهى عليه الصلاة والسلام ” أن تُتخذ الحيوانات منابر يركبها صاحبها من غير حاجة إلى الركوب ”
وأمر عليه الصلاة والسلام في السفر ” إذا مر القوم بأرض مخصبة أن يعطوا الإبل حظها ”
ونصوص الرحمة بالحيوان في هذه الشريعة لا تحصر في هذا المقام ، فالإسلام سبق غيره إلى الرحمة بالحيوان ، ولا أدل من دخول تلك المرأة النار بسبب هرة حبستها لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ” فدخلت النار بصنيعها هذا .
” وقد غفر الله عز وجل لامرأة بغي لما سقت كلبا كان يلهث من العطش ”
فقوله رضي الله عنه : ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار )
هذا الحمار : جاء في رواية أن اسمه ” عُفير “ فقد كان له عليه الصلاة والسلام حمار يدعى بــ ” عُفير ”
وقد أخبر أهل السير أن ملك مصر المقوقس قد أهداه له ، وأهدى مع هذا الحمار ” مارية القبطية ، وسيرين “ فكانت مارية سُرِّية النبي صلى الله عليه وسلم وأهدى سيرين لحسان بن ثابت رضي الله عنه .
وفي هذا الإخبار :
بأنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يدل على كمال تواضعه عليه الصلاة والسلام ، وإلا فهو قادر عليه الصلاة والسلام أن يركب ما هو أعظم ، بل إنه عليه الصلاة والسلام لما أُحصرت تركته وُجد فيها بغلة .
وقد قال بعض الصحابة ( يقولون فيّ التيه- يعين الكِبر – قال وكيف يكون فيّ التيه وقد ركبت الحمار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فمن ركبه فليس فيه من التيه شيء ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام
قوله : ( فقال لي يا معاذ )
يا : أداة نداء
والمنادى : هو معاذ
والمنادِي هو : الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله : ( أتدري ما حق الله على العباد )
طرح النبي صلى الله عليه وسلم هذا العلم بصيغة سؤال لأنه أدعى لحضور الذهن
ولم يخبره عن هذا العلم من أول وهلة ، بل صاغه في سياق سؤال ، فقال ( أتدري ) والهمزة للاستفهام ( أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ) ؟
فأفاد هنا : أن هناك حقين : حق الله جل وعلا على عباده ، وحق للمخلوق على خالقه جل وعلا .
ثم قال : ( فقلت )
القائل هو معاذ رضي الله عنه .
قال : ( فقلت ” الله ورسوله أعلم )
لم يقل : ” الله ورسوله أعلمان “
وإنما قال : ” الله ورسوله أعلم “
و” أعلم ” خبر وأُفرد ، والقاعدة في اللغة : ” أن أفعل التفضيل إذا كان على تقدير : ” مِن ” فإن المشهور فيه : أن يُفرد ، وأن يُذكَّر ” كما هنا .
فيكون السياق : ” الله ورسوله أعلم من غيرهما ، وأعلم مني “
وهذه الجملة أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم فيها معاذاً على تشريكه عليه الصلاة والسلام مع ربه عز وجل في العلم .
ولا يخالف هذا ما جاء ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ،
فغضب عليه الصلاة والسلام وقال ” أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده )
أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل ، ولم ينكر على معاذ فما وجه الافتراق بين هاتين الجملتين ؟
وجه الافتراق :
أنه يجوز أن يُجمع بين الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في العلم الشرعي ، أما العلم الكوني فلا يجوز .
فلو قال قائل : متى يقدُم زيد ؟
وأنت لا تعلم وقت قدومه ، فلا يجوز أن تقول الله ورسوله أعلم ، لأن هذا الأمر – وهو قدوم المسافر – من العلوم الكونية .
بينما لو قال : ” هل سجود السهو في الزيادة بعد السلام أو قبله ؟
فيصح أن يقول : ” الله ورسوله أعلم ” لم ؟ لأن هذا السؤال صادر في بيان علم شرعي .
لكنَّ الظاهر من حال صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، الظاهر من حالهم أنهم بعد وفاته لا يقولون في الأمور الشرعية ” الله ورسوله أعلم ”
إنما كانوا يقولونه في وقت حياته ، ولذا جاء في صحيح البخاري :
( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل بعض الصحابة عن قوله عز وجل : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } [البقرة: 266]) الآية ، سألهم ك فيمن نزلت ؟
فقالوا : الله أعلم )
ولم يقولوا : ” الله ورسوله أعلم “
مع أن بعض العلماء يجوز هذا ، ولكن الأولى أن يُقتصر في قصر العلم في العلوم الشرعية على الله جل وعلا .
” فقلت : الله ورسوله أعلم “
قوله : ( قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )
( قال ) القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم .
فحق الله على العباد أمران:
أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا .
ذكر جملة ( ولا يشركوا به شيئا ) بعد جملة ( أن يعبدوه ) من باب التأكيد ، وإلا مقتضى العبادة الخلوص من الشرك ، لأنه لا عبادة حاصلة مع وجود الشرك .
والعبادة سبق تعريفها ، وهي ” اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
وكذا سبق تعريف الشرك ، وهو ” مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله ” أو ” صرف شيء من العبادة لغير الله “
قوله : ( ولا يشركوا به شيئا )
( شيئا ) نكرة في سياق النفي [ والنكرة في سياق النفي – كما هو مقرر في الأصول – تفيد العموم ]
فلا يُشرك معه غيره ، لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، من باب أولى من هو دونهما كالحجر والشجر ونحوهما .
قوله : ( وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )
في هذه الجملة ما يغاير في مفرداتها الجملة الأولى :
فالجملة الأولى : ( أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )
الجملة الثانية : ( أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )
ففي الجملة الأولى : ذِكر للعبادة وترك الشرك .
وأما في الجملة الثانية :” فترك للشرك ، ولم تُذكر العبادة “
من هنا يطرأ سؤال :
لو أن شخصا لم يشرك بالله شيئا ، ولكنه ما عبد الله ” لم يصلِ ، ولم يصم و لم يزكِّ ، لكنه لم يشرك بالله شيئا ، فهل يستحق هذا الوعد ، وهو عدم التعذيب ؟
الجواب : ظاهره أنه يستحق هذا الوعد ، من ثَم لا يُعذب .
وهذا ليس مراداً ، لأنه يعارض النصوص الشرعية الأخرى .
فيا ترى ما هو الجواب ؟
الجواب : من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أن من مقتضيات عدم الشرك ” العبادة لله عز وجل “
فجملة ( من لا يشرك ه شيئا ) تقتضي وجوب العبادة لله عز وجل
الوجه الثاني :
أن هذه الجملة اختصر فيها بناء على دلالة الجملة السابقة ، لأن هذه الجملة مقابلة للجملة الأولى ، فالجملة الأولى ( حق الله على العباد )
فإذا قاموا بهذا الحق لم يعذبوا ، وما هو هذا الحق الوارد في الجملة الأولى ؟ ( أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )
فيلزم من هذا حتى يُوفَّى للمخلوق حقه أن يفعل العبادة ، وأن يترك الشرك
الوجه الثالث :
أن قوله : ( وحق العباد على الله )
تدل هذه الجملة على وجوب القيام بالعبادة ، وإلا لم يصبح ” عبدا “
إذ قال : ” وحق العباد ” وصفهم بأنهم عباد ، وكيف يكونون عبادا ، وهم لم يأتوا بالعبادة ، هذا لا يمكن .
ثم يطرأ إشكال آخر في هذه الجملة :
فقوله : ( وحق العباد على الله ) يقتضي أن على الله حقا وواجبا لعبده
وكيف يكون هذا ، وهو جل وعلا المالك الملك ؟!
فيا ترى ما هو الجواب عن هذا الإشكال ؟
الجواب :
أن هذا الواجب الذي للعباد أوجبه الله عز وجل على نفسه تفضلا وإنعاما وإكراما ، وإلا لو عذب جل وعلا عباده لكان هذا منه مقتضى العدل : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت: 46]
ولهذا نظائر كقوله تعالى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]
وهذه الكتابة هي فضل ومنحة ونعمة منه جل وعلا .
وهذا خلاف ما ذكره المعتزلة القدرية ، إذ يقولون : ” إن هذا واجب على الله عقلا ليس فضلا ، تعالى الله عما يقولون علو كبيرا .
ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” إن هذا الاستحقاق للمخلوق استحقاق إنعام وإفضال ، وليس استحقاق معاوضة ، كما يجب على المخلوق للمخلوق “
والمعتزلة يقولون : وهم ينزلون آراءهم على العقل ، ولذا ضلوا وأضلوا
يقولون : ” إنه كاستحقاق المخلوق على المخلوق “
وهذا بناء على أصلهم الفاسد ، وأصلهم الفاسد أن المخلوق يخلق فعل نفسه ، وليس لله فيها مشيئة .
ومن ثَمَّ على قولهم فهذه الطاعات التي قام بها المخلوق ، قام بها بنفسه ، فيجب على الله – على زعمهم – أن يعاوضه بعدم تعذيبه
قوله : ( فقلت يا رسول الله )
القائل معاذ ، ولم يقل هنا ” يا محمد ” وسبق الحديث معنا أنه لا يجوز أن يُنادى النبي صلى الله عليه وسلم باسمه مجرداً كغيره ، قال تعالى : {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وسبق هذا في النص السابق .