الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (20) حديث (أتدرى ما حق الله على العباد … )(1)

الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (20) حديث (أتدرى ما حق الله على العباد … )(1)

مشاهدات: 451

التوحيد الموسع لكتاب التوحيد

الدرس ( 20 )

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : ” كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : ( يا معاذ ، أتدرى ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ) ؟

الجزء الأول

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقد أحسن المؤلف رحمه الله في ترتيب النصوص تحت هذا الباب ، فقد ذكر في أول هذا الباب الحكمة من خلق الجن والإنس، ثم ذكر النص في بيان الحكمة من إرسال الرسل ، ثم ذكر النص الذي فيه قضاء الله عز وجل  القضاء الشرعي بالتوحيد ، ثم ذكر النص الذي فيه بيان حقه عز وجل من جملة الحقوق العشرة ، ثم ذكر نصاً فيه وصية الله عز وجل لجميع خلقه بالتوحيد ، ثم ذكر نصاً فيه بيان وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بالتوحيد ، ثم ذكر هذا النص الذي فيه جزاء وثواب من قام بهذا الحق العظيم ، وثوابه  كما سيأتي في ثنايا شرح هذا الحديث  ” ألا يعذب من لا يشرك به شيئا “

قال المصنف رحمه الله :

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : ” كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : ” يا معاذ ، أتدرى ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ؟ فقلت : ” الله ورسوله اعلم ”

قال : ” فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا “

فقلت : ” يا رسول أفلا أبشر الناس ؟

قال : لا تبشرهم فيتكلوا ”

أخرجاه في الصحيحين .

قوله : ( عن  معاذ بن جبل )

هو : معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه

، كان من أعلم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذا جاء في الحديث الصحيح ( أن معاذا يوم القيامة يتقدم العلماء برتوة ) ” والرتوة ” قيل هي الرمية بحجر  ، وقيل الرمية بسهم “

فيكون إمامهم العلماء يوم القيامة ، ولذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي معنا بإذن الله – أرسله إلى اليمن قاضيا ومعلما “

فيخبر رضي الله عنه فيقول  ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار )

( رديف ) على وزن فعيل ، ووزن ” فعيل ” يأتي بمعنى : ” فاعل ” فرديف بمعنى رادف ، كما أن سميع بمعنى : سامع .

قال : ” كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار”

يؤخذ من هذا : جواز الإرداف على الدابة شريطة أن تتحمل هذه الدابة ، فإن لم يكن لها طاقة فلا يجوز هذا الإرداف  ، لأن الإضرار بالحيوان لا يجوز ، ولذا ( النبي صلى الله عليه وسلم مرّ ذات يوم بجمل ، فشكا إليه هذا الجمل أن صاحبه يكلفه ما لا يطيق ولا يطعمه ، فقال عليه الصلاة والسلام ” اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة ، فكلوها صالحة واركبوها صالحة ”

ونهى عليه الصلاة والسلام ” أن تُتخذ الحيوانات منابر يركبها صاحبها من غير حاجة إلى الركوب ”

وأمر عليه الصلاة والسلام في السفر ” إذا مر القوم بأرض مخصبة أن يعطوا الإبل حظها ”

ونصوص الرحمة بالحيوان في هذه الشريعة لا تحصر في هذا المقام ، فالإسلام سبق غيره إلى الرحمة بالحيوان ، ولا أدل من دخول تلك المرأة النار بسبب هرة حبستها لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ” فدخلت النار بصنيعها هذا .

” وقد غفر الله عز وجل لامرأة بغي لما سقت كلبا كان يلهث من العطش ”

فقوله رضي الله عنه : ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار )

هذا الحمار : جاء في رواية أن اسمه ” عُفير “ فقد كان له عليه الصلاة والسلام حمار يدعى بــ ” عُفير ”

وقد أخبر أهل السير أن ملك مصر المقوقس قد أهداه له ، وأهدى مع هذا الحمار  ” مارية القبطية ، وسيرين “ فكانت مارية سُرِّية النبي صلى الله عليه وسلم وأهدى سيرين لحسان بن ثابت رضي الله عنه .

وفي هذا الإخبار :

بأنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يدل على كمال تواضعه عليه الصلاة والسلام  ، وإلا فهو قادر عليه الصلاة والسلام أن يركب ما هو أعظم ، بل إنه عليه الصلاة والسلام لما أُحصرت تركته وُجد فيها بغلة .

وقد قال بعض الصحابة ( يقولون فيّ التيه- يعين الكِبر – قال وكيف يكون فيّ التيه وقد ركبت الحمار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فمن ركبه فليس فيه من التيه شيء )  أو كما قال عليه الصلاة والسلام

 

 

قوله  : (  فقال لي يا معاذ )

يا : أداة نداء

والمنادى : هو معاذ

والمنادِي هو : الرسول صلى الله عليه وسلم

قوله : (  أتدري ما حق الله على العباد  )

طرح النبي صلى الله عليه وسلم هذا العلم بصيغة سؤال  لأنه أدعى لحضور الذهن

ولم يخبره عن هذا العلم من أول وهلة ، بل صاغه في سياق سؤال  ، فقال ( أتدري ) والهمزة للاستفهام ( أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ) ؟

فأفاد هنا : أن هناك حقين : حق الله جل وعلا على عباده ، وحق للمخلوق على خالقه جل وعلا .

ثم قال : ( فقلت )

القائل هو معاذ رضي الله عنه .

قال : ( فقلت  ” الله ورسوله أعلم  )

لم يقل : ” الله ورسوله أعلمان “

وإنما قال : ” الله ورسوله أعلم “

و” أعلم ” خبر وأُفرد ، والقاعدة في اللغة : ” أن أفعل التفضيل إذا كان على تقدير : ” مِن ” فإن المشهور فيه : أن يُفرد ، وأن يُذكَّر ” كما هنا .

فيكون السياق : ” الله ورسوله أعلم من غيرهما ، وأعلم مني “

وهذه الجملة أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم فيها معاذاً على تشريكه عليه الصلاة والسلام مع ربه عز وجل في العلم .

ولا يخالف هذا ما جاء ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ،

فغضب عليه الصلاة والسلام وقال ” أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده )

أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل ، ولم ينكر على معاذ فما وجه الافتراق بين هاتين الجملتين ؟

وجه الافتراق :

أنه يجوز أن يُجمع بين الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في العلم الشرعي ، أما العلم الكوني فلا يجوز .

فلو قال قائل : متى يقدُم زيد ؟

وأنت لا تعلم وقت قدومه ، فلا يجوز أن تقول الله ورسوله أعلم ، لأن هذا الأمر – وهو قدوم المسافر – من العلوم الكونية .

بينما لو قال : ” هل سجود السهو في الزيادة بعد السلام أو قبله ؟

فيصح أن يقول : ” الله ورسوله أعلم ” لم ؟ لأن هذا السؤال صادر في بيان علم شرعي .

لكنَّ الظاهر من حال صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، الظاهر من حالهم أنهم بعد وفاته لا يقولون في الأمور الشرعية  ” الله ورسوله أعلم ”

إنما كانوا يقولونه في وقت حياته ، ولذا جاء في صحيح البخاري :

( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل بعض الصحابة عن قوله عز وجل : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } [البقرة: 266]) الآية ، سألهم ك فيمن نزلت ؟

فقالوا : الله أعلم )

ولم يقولوا : ” الله ورسوله أعلم “

مع أن بعض العلماء يجوز هذا ، ولكن الأولى أن يُقتصر في قصر العلم في العلوم الشرعية على الله جل وعلا .

” فقلت : الله ورسوله أعلم “

قوله : ( قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )  

( قال )  القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم .

فحق الله على العباد أمران:

أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا .

ذكر جملة ( ولا يشركوا به شيئا ) بعد جملة (  أن يعبدوه ) من باب التأكيد ، وإلا مقتضى العبادة الخلوص من الشرك ، لأنه لا عبادة حاصلة مع وجود الشرك .

والعبادة سبق تعريفها ، وهي ” اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .

وكذا سبق تعريف الشرك ، وهو ” مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله ” أو ” صرف شيء من العبادة لغير الله “

قوله : ( ولا يشركوا به شيئا )

( شيئا )  نكرة في سياق النفي [ والنكرة في سياق النفي – كما هو مقرر في الأصول –  تفيد العموم ]

فلا يُشرك معه غيره ، لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، من باب أولى من هو دونهما كالحجر والشجر ونحوهما .

 

 

قوله : ( وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )

في هذه الجملة ما يغاير في مفرداتها الجملة الأولى :

فالجملة الأولى : ( أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )

الجملة الثانية : ( أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )

ففي الجملة الأولى : ذِكر للعبادة وترك الشرك .

وأما في الجملة الثانية :” فترك للشرك ، ولم تُذكر العبادة “

من هنا يطرأ سؤال :

لو أن شخصا لم يشرك بالله شيئا ، ولكنه ما عبد الله ” لم يصلِ ، ولم يصم و لم يزكِّ ، لكنه لم يشرك بالله شيئا ، فهل يستحق هذا الوعد ، وهو عدم التعذيب  ؟

الجواب : ظاهره أنه يستحق هذا الوعد ، من ثَم لا يُعذب .

وهذا ليس مراداً ، لأنه يعارض النصوص الشرعية الأخرى .

فيا ترى ما هو الجواب ؟

الجواب  : من ثلاثة أوجه :

الوجه الأول :

أن من مقتضيات عدم الشرك ” العبادة لله عز وجل “

فجملة ( من لا يشرك ه شيئا )  تقتضي وجوب العبادة لله عز وجل

الوجه الثاني :

أن هذه الجملة اختصر فيها بناء على دلالة الجملة السابقة ، لأن هذه الجملة مقابلة للجملة الأولى ، فالجملة الأولى ( حق الله على العباد )

فإذا قاموا بهذا الحق لم يعذبوا ، وما هو هذا الحق الوارد في الجملة الأولى ؟ ( أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )

فيلزم من هذا حتى يُوفَّى للمخلوق حقه أن يفعل العبادة ، وأن يترك الشرك

الوجه الثالث :

أن قوله : ( وحق العباد على الله )

تدل هذه الجملة على وجوب القيام بالعبادة ، وإلا لم يصبح ” عبدا “

إذ قال : ” وحق العباد ” وصفهم بأنهم عباد ، وكيف يكونون عبادا ، وهم لم يأتوا بالعبادة ، هذا لا يمكن .

ثم يطرأ إشكال آخر في هذه الجملة :

فقوله : ( وحق العباد على الله )  يقتضي أن على الله حقا وواجبا لعبده

وكيف يكون هذا ، وهو جل وعلا المالك الملك ؟!

فيا ترى ما هو الجواب عن هذا الإشكال ؟

الجواب :

أن هذا الواجب الذي للعباد أوجبه الله عز  وجل على نفسه تفضلا وإنعاما وإكراما ، وإلا لو عذب جل وعلا عباده لكان هذا منه مقتضى العدل : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت: 46]

ولهذا نظائر كقوله تعالى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]

وهذه الكتابة هي فضل ومنحة ونعمة منه جل وعلا .

وهذا خلاف ما ذكره المعتزلة القدرية ، إذ يقولون : ” إن هذا واجب على الله عقلا ليس فضلا ، تعالى الله عما يقولون علو كبيرا .

ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” إن هذا الاستحقاق للمخلوق استحقاق إنعام وإفضال ، وليس استحقاق معاوضة ، كما يجب على المخلوق للمخلوق “

والمعتزلة يقولون : وهم ينزلون آراءهم على العقل ، ولذا ضلوا وأضلوا

يقولون : ” إنه كاستحقاق المخلوق على المخلوق “

وهذا بناء على أصلهم الفاسد ، وأصلهم الفاسد أن المخلوق يخلق فعل نفسه ، وليس لله فيها مشيئة .

ومن ثَمَّ على قولهم فهذه الطاعات التي قام بها المخلوق ، قام بها بنفسه ،  فيجب على الله – على زعمهم – أن يعاوضه بعدم تعذيبه

قوله : ( فقلت يا رسول الله )

القائل معاذ ، ولم يقل هنا  ” يا محمد ” وسبق الحديث معنا أنه لا يجوز أن يُنادى النبي صلى الله عليه وسلم باسمه مجرداً كغيره ، قال تعالى  : {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وسبق هذا في النص السابق .