الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (6) قوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (6) قوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

مشاهدات: 446

الشرح الموسع لكتاب التوحيد

الدرس ( 6 )

قوله تعالى :

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قول المصنف : وقول الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]

الشرح :

هذه أو آية ذكرها الشيخ رحمه الله تحت هذا الباب الذي سماه كتاب التوحيد

قوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]

( ما ) هنا نافية

( إلا ) أداة استثناء ، فاجتمع في هذه الآية أداتان أداة نفي وأداة استثناء وهذه هي إحدى طرق القصر ، وطرق القصر كثيرة ، لكن أشهرها أربع طرق هي :

الطريق الأول : وهو أعظمها وأبلغها  ” النفي مع الاستثناء ” كما هنا .

الطريق الثاني  :  ” إنما “

الطريق الثالث : العطف بثلاثة أحرف ، إما العطف بـ [ بل – لكن – لا ] .

الطريق الرابع   : ” تقديم ما حقه التأخير “

وفائدة القصر  : أن تثبت الحكم للكلام الموجود وأن تنفيه عما سواه .

فقول تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] على غرار ما ذُكر هنا ، يكون المعنى : أن خلقه عز وجل للإنس والجنس مقصور على شيء معين وهو العبادة ، فهو جل وعلا ما خلقهم إلا لشيء واحد وهو العبادة .

ولذا قال بعدها {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 57] ما خلقهم ليستعين بهم ما خلقهم جل وعلا ، ما خلقهم ليرزقوه أو ليعينوه على رزق عباده ، وما خلقهم للعب أو للهو ، فخلقه جل وعلا لهم محصور في هذه العبادة .

فيطرأ من هذا سؤال : ما الحكمة من خلقه عز وجل للإنس والجن ؟

الجواب  : الحكمة هي عبادته عز وجل .

فعندنا ( ما ) وأداة الاستثناء ( إلا ) فهذه تسمى بطريقة القصر

ما بعد ( إلا ) مقصور عليه ، وما قبل  ( إلا )  مقصور .

فيكون المعنى : أن خلقه عز وجل للجن والإنس مقصور على عبادته عز وجل

( خلقت ) فيه إثبات لصفه من صفاته عز وجل وهي صفة الخلق .

لو قال قائل : هذه الصفة وهي صفة الخلق أثبتت من أي طريق ؟

قلنا فيما سبق إن إثبات الصفة لله يكون من ثلاث طرق : إما التصريح بذكر الصفة ، وإما باشتقاق الصفة من الاسم وما عن طريق فعله عز وجل .

فيكون الجواب : الخلق صفة من صفاته عز وجل أثبتت عز طريق الفعل ( خلقت ) والخلق من أي أنواع التوحيد ؟ من توحيد الربوبية .

فلو قال قائل : إن الله عز وجل ذكر في كتابه أن هناك خالقين مع انه لا خالق إلا هو عز وجل .

والدليل على أن هناك خالقين قوله تعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]  فما هو الجواب ؟

الجواب  :

أن يقال إن الخلق المنسوب إلى المخلوقين ليس خلق وإيجاد شيء من عدم ، وإنما هو تحويل شيء خلقه الله عز وجل إلى شيء آخر ، لأنه تعالى قال {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فالمخلوق حينما يخلق شيئا فإنما هو يأخذ هذا  الشيء الذي خلق ابتداء ، وخالقه من ؟ هو الله عز وجل ، فيحوله إلى شيء آخر ، ولذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله خالق كل صانع وصنعته ) حتى لو قيل إن المخلوق خلق هذا الشيء فإن هذا المخلوق من الذي خلقه ؟ خلقه الله عز وجل ، فهذا المخلوق وفعل المخلوق الذي هو من المخلوق ، إذن هو جل وعلا خلق هذا الصانع وصنعته ، ولذا لما ذكر عز وجل ما وهبه لعيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى  ومن خلق بعض الأشياء ماذا قال عز وجل ؟ { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا  فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } [المائدة: 110]

انظروا كيف تكررت كلمة { بإذني } احترازا من أن يكون عيسى هو الخالق أو هو المحيي .

قوله { الجن }:

يقول العلماء : إن مادة الجيم والنون ، تدل على الاستتار ، فالجن سموا بهذا الاسم لاستتارهم عن أعين الناس .

الجنة : سميت بهذا الاسم لاستتارها بالأشجار  ,

الصيام : قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند ( الصيام جنة ) لأنه ستر بين العبد وبين أن يقع في الذنوب .

ولذا على أحد قولي المفسرين {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] أن الجنة هنا هم الملائكة ، وإنما سموا بالجن هنا لاستتارهم

والجن  : خلق من مخلوقات الله جل وعلا ، وقد جاء ذكر مادة خلقهم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله  صلى الله عليه وسلم فهم مخلوقون من نار ، وهؤلاء الجن مكلفون – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله – فكما أن الإنس مكلفون بالأوامر والنواهي الربانية ، فكذلك الجن وإن لم يكونوا متفقين مع الإنس في حقيقة وفي حدِّ هذه الأوامر وهذه النواهي ، فهم في الأصل مكلفون ، لا شك أنهما في العقائد سواء ، لكن قد يختلفون في الواجبات ، قد يكون الواجب على الإنسي غير الواجب على الجني ، فليسوا مساويين للإنس مساواة كاملة ، وهذا مأخوذ من كلام لشيخ الإسلام رحمه ، ولعل ما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ( أخبر عن رجل نام حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ) فالإنسان لا يجوز له أن يبول على إنسي مثله ، بل لا يجوز له أن يبول في الطريق وفي أماكن الناس ، الآن لو أن كافرا بال على كافر مثله ألا يعذب ؟ بلى يعذب ، فإنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، فكذلك هنا ، هذا مما أستحضره الآن في هذا المقام .

والجن :  وقد منحهم الله جل وعلا طاقة وقدرة لم يمنحها الإنس ، ومع هذا كله فهم عباد ضعفاء لا يملكون نفعا ولا يدفعون ضرا ، وفيهم المؤمن وفيهم الكافر ، وفيهم المبتدع كما قال عز وجل عنهم لما ذكر عنهم ما ذكر في سورة الجن {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [الجن: 11] أي فرقا ومذاهب متنوعة ، وقد صح عن الأعمش كما ذكر ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [الجن: 11] عن الأعمش ( تروح إلينا جني – يعني أتاهم في النهار- فقلت له : ما أحب الطعام إليكم؟ فقال الأرز. قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا. فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم. قلت: فما الرافضة فيكم ؟ قال شرنا )

فكما أن الروافض في الإنس هم شر الطوائف ، وما من بدعة – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله –  إلا نشأت من قبلهم ، فكذلك هم شر عند الجن ، فكافرهم يخلد في النار ومؤمنهم يدخل الجنة على الصحيح من قولي العلماء والجن يتناكحون : كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله ، ويستدل بقوله تعالى {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56]  فهؤلاء النسوة لسن من الإنس ولسن من الجن وإنما هن من الجنة وهن الحور ، ففهم من هذا أن الإنسي ينكح الإنسية والجني ينكح الجنية ، ويدل لذلك صريح قوله تعالى {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] فذكر عز وجل أن لإبليس ذرية ، وهو  أبو الجن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله وطبيعة هذا التناسل هو هو ولادة أو غيرها ؟

لم يأت ما هو صريح ، لكن جاء عند الحميدي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لا يكن أحدكم أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منه فإن الشيطان باض فيه وفرخ )

فيحتمل أن هذا الحديث على ظاهره وأن وجود هذه الذرية عن طريق التبييض والتفريخ .

ويحتمل أن المراد : ما تبثه الشياطين في السوق من الفتن ، ولذا جاء عن مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال : ( أحب البقاع عند الله مساجدها وأبغض البقاع إلى الله أسواقها )

وهذه هي تسميتهم ، والعرب يقولون لساكن البيوت من الجن ” عامر “ ولذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:  ( إن لهذه البيوت عوامر )

ويطلقون على ما يأتي الأطفال ” أرواحاً “

ويطلقون على المتمرد منهم ” شيطاناً “

وأما من تناهى وتفاقم تمرده شره فيطلقون عليه ” عفريتا “

وهم يروننا في الدنيا ولا نراهم كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]

وهل بالإمكان أن نراهم ؟

هذه مسألة اختلف فيها :

فبعض العلماء يقول يمكن أن يروا لأنه عز وجل قال{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] وقيَّد { مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] وبقوله عليه الصلاة والسلام لما أخبر عن الشيطان الذي جاء بشهاب من نار ليحرق وجه النبي عليه الصلاة والسلام أمسكه وقال:  ( لولا دعوة أخي سليمان لربطته في سارية من سواري المسجد حتى يلعب به صبيان أهل المدينة )

ودعوة سليمان هي {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ص: 35]

 

 

 

وبعض العلماء يرى : أنهم لا يرون لظاهر الآية {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]

وأما عن رؤيتم في الجنة  :

فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أننا نراهم ولا يروننا ، وهذا على القول بأن مؤمنهم يدخل الجنة ، وهذا هو الصحيح لقوله تعالى { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] وقال تعالى في الآية التي بعدها { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 57] وقد قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على الجن فكانوا يقولون بعد كل آية { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}  يقولون : ( ولا بشيء من آلائك يا ربنا نكذب فلك الحمد )

والقول الثاني :

أن المؤمن منهم يزحزح عن النار ويغفر ذنبه ولا يدخل الجنة قال عز وجل {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]

ومستند قول شيخ الإيلام رحمه الله أننا نراهم في الجنة ولا يروننا : حديث عند الطبراني صرح بهذا .

وهؤلاء الجن : قد يتمثلون في صورة إنسان:

كما ذكرت كتب السير :

أن الشيطان أتى كفار قريش في دار الندوة في صورة شيخ نجدي وهم يخططون للتخلص من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة معروفة .

ومما يدل على ذلك أن الشيطان تمثل يوم بدر بصورة سراقة بن مالك قال تعالى {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ } [الأنفال: 48] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الجن ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون بها وصنف حيات وكلاب وصنف يضعنون ويحلون )

وهؤلاء الجن ليس لهم من القدرة إلا ما أقدرهم الله عز وجل وأذن لهم فيه ، ولذا قال تعالى مبينا ضعفهم { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء: 88]

وما يتوهمه البعض من أنهم يعلمون الغيب ، فهذا لو اعتقد به لكان كفرا صراحا لقوله تعالى {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] وقال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [الجن: 26، 27] فقد يطلع الله جل وعلا أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام على ما يخفى على الناس تأييدا ومعجزة لهم ، ولذا النبي عليه الصلاة والسلام لما ضاع عقد لعائشة رضي الله عنها أمر الصحابة رضي الله عنهم أن يبحثوا عنه ، فلو كان يعلم الغيب لما احتاج إلى  أن يأمرهم بالبحث عن العقد ، وقد قال تعالى لما توهمت الجن أنها تعلم الغيب لما أعطاهم الله من القدرة قال مبينا جهلهم بهذا الأمر الغيبي ، وكانوا تحت وطأة سليمان عليه الصلاة والسلام ، كانوا مسخرين له كما ذكر في سورتي الأنبياء وسبأ ، وكانوا يعملون له أعمالا شاقة ، فمات عليه الصلاة والسلام وهم تحت أسره يعملون ، حتى قال بعض المفسرين : ” ولم أرَ دليلا عليه إنهم ظلوا سنة كاملة يعملون هذه الأعمال الشاقة ، حتى تبين لهم سقوط سليمان عليه الصلاة والسلام من على عصاه بعدها تبينت أنهم لا يعلمون الغيب ، قال عز وجل {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) } [سبأ: 14]  أي من عصاه {  فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) } [سبأ: 14]

فلو كانوا مطلعين على علم الغيب لما بقوا هذه المدة في هذه الأعمال ، فهم ضعفاء ، لكن لديهم قدرة فيمكن أن يذهب إلى مسافة طويلة في أقصر مدة ولذا أخبر عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين واللفظ لمسلم: ( أنه إذا سمع الأذان – أي الشيطان –  أدبر وله ضراط ) قال الرواي : ( حتى يبلغ الروحاء ) وهي موضع يبعد عن المدينة ستة وثلاثين ميلا ، ومع ذلك في هذه الفترة القصيرة يقطع هذه المسافة الطويلة التي هي طويلة على الإنس .

أما مساكن الجن :

فتختلف فقد يسكنون في أماكن القاذورات كما قال عليه الصلاة والسلام : ( ستر ما بين الجن وعورات بين أدم إذا دخلوا الكنيف – أي موضع الخلاء-  أن يقولوا بسم الله ) وكما جاء عند أبي داود وابن ماجه : ( إن هذه الحشوش محتضرة )

فهذا دليل على أنهم يأتون هذه الأماكن القذرة ، ومنهم ما يسكن في البيوت ويسمى بعامر ، ومنهم من يسكن في الأسواق .

 

 

 

 

 

 

قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] الأنس : سموا بهذا الاسم لأن بعضهم يأنس ببعض ، وأعظم الأنس هو أن يأنس العبد بعبادة ربه عز وجل ، ولذا ذكر ابن القيم رحمه الله أن من أسباب قسوة القلب أن يكثر العبد من مخالطة الناس فكثرة مخالطة الناس للأنس بهم مما يقسي القلب .

وقوله تعالى { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

فهذه هي الحكمة من خلقه عز وجل للإنس والجن فالحكمة من خلقهما هي عبادة الله عز وجل  ، وهذه تسمى بعلة غائية ، بمعنى أنه لا يلزم من ذلك أن تحصل العبادة من هذين الصنفين من الخلق ، كما لو قلت : ” بريت القلم لأكتب به ”  فهل لابد بعد بريك للقلم أن تحصل الكتابة ؟

لا يلزم ، وهذا هو النوع الأول من نوعي العلة .

النوع الثاني : العلة الموجبة .

كقولك : ” انكسر الزجاج لشدة الحر “

ومن ثمَّ قال شيخ الإسلام رحمه الله : إن الله عز وجل خلقهم ليفعلوا العبادة لا ليفعل بهم .

ومعنى هذا الكلام أنه عز وجل خلق الجن والإنس من أجل ماذا  ؟

الجواب  :

خلقهم من أجل عبادته ، وهذا نظير قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] فقد يطاع الرسول وقد لا يطاع ، وهل قام الجن والإنس بهذا الأمر ؟

الجواب  :

الأكثر منهم لم يعبدوا الله لا الإنس ولا الجن ، ولذا قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) } [يوسف: 103] وقال تعالى عن أهل الكتاب {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] والآيات في هذا المعنى كثيرة .

والمذكور هنا من المخلوقات : ” الجن والإنس ” فلم لم يذكر بقية المخلوقات ؟

الجواب :

أن الجن والإنس مكلفون بينما الملائكة فقد ذكر عز وجل في آيات كثيرة أنهم لا يعصون الله في مثل قوله تعالى {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وقال تعالى : {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 19، 20] وقوله تعالى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) } [الأعراف: 206] وقال تعالى : {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27] والآيات في هذا المعنى كثيرة

وأما بقية المخلوقات عدا الملائكة فقد قال تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44] وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [النور: 41] وقد كان الحجر يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم “

وقوله تعالى { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

المراد من هذه  العبادة : هي العبادة الخاصة ، لأن العبادة ثلاثة أنواع :

النوع الأول : عبادة عامة : وهي عبودية الخلق لله عز وجل كافرهم ومؤمنهم ، وهي عبودية الذل والانقياد كما قال تعالى : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } [مريم: 93] أي منقادا مستسلما ذليلا خاضعا له عز وجل  ، وقال تعالى : {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] وقال تعالى : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [الرعد: 15] وقال تعالى : { بل لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]

والآيات في هذا المعنى كثيرة

النوع الثاني : العبودية الخاصة ، وهي عبودية المؤمنين :

كما قال تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] والآيات في هذا المعنى كثيرة

النوع الثالث : عبودية خاصة الخاصة :

وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام  : قال الله عز وجل عن نوح عليه الصلاة والسلام : { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] وقال تعالى  {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص: 41] وقال تعالى : {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ص: 45]

والآيات في هذا المعنى كبيرة

وأعظمهم عبادة هو : نبينا عليه الصلاة والسلام ، ولذا وُصف بالعبودية في أعلى المقامات : قال في مقام التنزيل للقرآن : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]

وقال في مقام التحدي لأعدائه :  { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة: 23]

وقال في مقام الدعوة : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [الجن: 19]

وقال في مقام الإسراء : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1]

وقال في مقام المعراج : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [النجم: 10]

وقد شهد بذلك عيسى عليه السلام كما في حديث الشفاعة : ” إذ قال :

( اذهبوا إلى محمد فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ”

أليس عيسى عبدا ؟ بلى ، لكن لما بلغ عليه الصلاة والسلام أعلى مقامات العبودية قال عيسى : ” اذهبوا إلى محمد ”

وقد كان يحب صلى الله عليه وسلم أن يوصف بهذا : قال عليه الصلاة والسلام – كما في صحيح البخاري – : (  لا تطروني – يعني لا تبالغوا في مدحي – لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله )

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة

ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله – وله كتاب يسمى بكتاب ” العبودية ” قال  ” إن العبد : إما بمعنى : مُعبد أو بمعنى عابد :

فالمعبد : يدخل في القسم الأول وهو عبودية العامة .

وأما العبد بمعنى العابد : فيكون في ” الخاصة ” وفي خاصة الخاصة .

وما مضى من علو مقام العبودية يُعد صفعة في وجوه الصوفية الذين يقولون إن الإنسان إذا وصل إلى درجة معينة من العبودية سقطت عنه التكاليف ، فله أن يترك الصلاة وسائر العبادات ، وله أن يستحل وأن يستبيح المحرمات ، وهذا ضلال مبين ، فالنبي عليه الصلاة والسلام  وصل إلى أعلى مقامات العبودية ، ومع ذلك ( تتفطر قدماه من طول القيام فتقول عائشة رضي الله عنها : ” كيف تصنع بنفسك هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ” أفلا أكون عبدا شكورا”  )

وهذا يدل على أن العبادة نعمة من الله عز وجل على العبد ، ويجب عليه أن يشكرها ، ولذا قال تعالى في آيات كثيرة نقتصر على بعض منها خيفة من الإطالة ، قال : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7] وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [مريم: 58] ، فقابلوا هذه النعمة بالسجود والبكاء ، هذا هو الشكر الحقيقي ، ولذا لم يجعل الله عز وجل للعبادة وقت انقطاع إلا بالموت : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] واليقين هنا : هو الموت .

وقال عليه الصلاة والسلام – عند مسلم – : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له )

ولم تنقطع هذه الأشياء ؛ لأنه كان السبب في حياته وهو الذي ربَّى الولد ، وهو الذي علَّم ، وهو الذي أوقف وتصدق .

وهؤلاء الصوفية زُينت لهم أعمالهم ، كما قال تعالى : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } [فاطر: 8] والمزين هو الشيطان ، كما قال تعالى : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]

ولذا قسم الصوفية العبادة إلى ثلاثة أقسام :

أولا : عبودية العامة : وعبادتهم قول : ” لا إله إلا الله “

ثانيا : عبودية الخاصة : وهو أن يتعبد بترديد كلمة : ” الله ،  الله ، هكذا  “

ثالثا : عبودية خاصة الخاصة – عندهم – : كلمة : ” هو ” وذلك أن يقولوا : ” هو ، هو ، هو “

وهذا من العجب أن يجعلوا : ” لا إله إلا الله ” هي عبودية العامة ، موسى عليه الصلاة والسلام لما قال : ( يا ربي علمني دعاء أدعوك وأذكرك به ، قال قل يا موسى ” لا إله إلا الله  )  بل دعوة الرسل انطلقت من كلمة : ” لا إله إلا الله “

فالواجب على المسلم أن يحرص على تحقيق عبودية الله عز وجل ، ووالله لا ظفر ولا سعادة إلا بعبادة  ربه ، وليستعن بالله على هذه العبادة ، وليسأل ربه الإعانة ، ولذا في سورة الفاتحة : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] فالاستعانة جزء من العبادة لكنها أفردت ليعلم العبد أنه لا قوة له ولا طاقة له على العبادة إلا بإعانة الله عز وجل ، ولذا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ  قال : ( يا معاذ ، إني أحبك لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )

ورحى  العبودية – كما قال ابن القيم رحمه الله – قائمة على خمس عشرة قاعدة ، من حققها حقق العبودية ، بيانها كالتالي :

1 ــ عبودية اللسان

2ــ عبودية القلب

3ـ عبودية الجوارح

والأحكام التكليفية خمسة ، وهي :

1ـ واجب

2ـ مسنون

3ـ محرم

4ـ مكروه

5ـ مباح

فخمسة في ثلاثة : خمسة عشر .

فعبودية اللسان : منها ما هو واجب على اللسان كقول : ” لا إله إلا الله ، كالأذكار الواجبة في الصلاة ونحو ذلك “

وأذكر نتفا من الأمثلة ، لأن ذكر كل مثال على العبودية سيطول بنا ، لكن هي منطلق لكم

للسان عبودية مستحبة :

وما هو محرم على اللسان ؟  كثير

ما يكره باللسان ؟ كثير

والمباح ؟ كثير

تأتي إلى عبودية ” القلب ” منها ما هو واجب مثل ” خشية الله “

منها ما هو محرم كالشك والنفاق .

عبودية الجوارح : قال رحمه الله : ” هي خمس وعشرون عبادة :

الأحكام التكليفية الخمسة ، والحواس الخمسة

وخمسة في خمسة : خمسة وعشرين .

ما هي الحواس ؟

السمع ، البصر ، الشم ، الذوق ، اللمس .

ومن أراد الاستزادة من كلامه رحمه الله فليرجع إلى ما ذكره في أول كتابه مدارج السالكين .

ولو قال قائل : ما تعريف العبادة ؟

فالجواب :

العبادة لها تعريفان : تعريف من حيث اللغة ، وتعريف من حيث الشرع

فتعريف العبادة من حيث اللغة :

معنى العبادة : التذلل ،  تقول : ” طريق معبَّد ” أي مذلل .

أما من حيث التعريف الشرعي : ” فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة “

هكذا عرفها شيخ الإسلام رحمه الله ، وهو تعريف جامع شامل  ” هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة “

إذن كل ما يحبه الله ويرضاه سواء كان قولاً أو عملاً فهو عبادة يجب أن تصرف لله عز وجل   ، فإن صرفت لغيره فهي شرك .

ثم قال عز وجل :  {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 57، 58]

فلها ارتباط ، ولن أتحدث حديثاً مفصلاً عن هاتين الآيتين ، لكن محور حديثي سوف يكون ما بين هاتين الآيتين وآية الباب من التناسب .

فذكر  ” الرزق ” بعد ” العبادة ” يدل على أن العبد متى ما قام بما أوجبه الله عليه من العبادة فإن الرزق سيُصب عليه صباً ، ولذا قال عز وجل :   {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]

من أجل ألا ننشغل عن عبادته عز وجل ، ولذا قال عز وجل { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]

وقال تعالى : {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17]

تجد في آيات كثيرة الارتباط بين الرزق والعبادة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [الأعراف: 96] حتى قال عن اليهود والنصارى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 65، 66] وقد قال عز وجل : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] هناك دواب قد لا تتحرك ، ومع ذلك قال عز وجل {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60]

وقال عن سبأ : {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [سبأ: 15

وقال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه: 132]

فاعبد الله عز وجل ، والله تأتيك الخيرات من حيث لا تحتسب ، والصحابة رضي الله عنهم بعد أن دخلوا في هذا الدين ماذا صنع الله عز وجل بهم ؟ فتحوا الفرس والروم وأغدق الله عز وجل عليهم ، وقد قال تعالى : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي طريقة الإسلام كما في أحد وجهي التفسير { لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن: 16] 

وعند تلاوتك لكتاب الله عز وجل تأمل ، إذا وردت كلمة ” الرزق ” تجد أن هناك بعض الإشارات تشير إلى العبادة ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في سنن ابن ماجه  ( اعلموا أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) يعني : أجملوا في طلب الدنيا  ، فلتأخذ من الدنيا بقدر ما يقيم حياتك ، ولذا نهي عن الإسراف في الأكل والشرب لأنه يصرف العبد عن طاعة الله عز وجل ، وقد ذكر ابن القيم رحمه : أن من أسباب قسوة القلب ” كثرة الأكل “

وقال تعالى : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } [الأعراف: 31] وقال عليه الصلاة والسلام : ( كل واشرب والبس وتصدق من غير سرف ولا مخيلة ) بل جعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا البطن شر الأوعية فقال : ( ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )

فقد تتعسر على الإنسان أمور رزقه لكن من وثق بالله عز وجل وتوكل عليه ، وقال بحقه عز وجل أتته الخيرات ، في الآية السابقة : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ما الذي بعدها ؟ { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ما الذي بعدها ؟ { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } ما قدره الله عز وجل وكتبه سيكون ، ما الذي بعدها ؟ { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 2، 3]

نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته .