فقه الحج ـ الدرس ( 3 )
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى الدين.
الشرط الخامس من شروط الحج: ( الاستطاعة )
فمن ليس بمُستطيع لا يجبُ عليه الحج ولكن لو حج يَصِحُّ منه ويُجزئُ عنه،
والدليل على الاستطاعة: قوله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فقوله { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} {مَن} هنا: “بدل بعض من كل”
أوجب الله عز وجل في أول الآية الحج على الناس كلهم ثم أتى البدل يُخَصصُ ويُقيد صِنفاً من هؤلاء الناس فقال عز وجل: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
ومن الاستطاعة تتفرع مسائل:
المسألةُ الأولى:
لو أنَّ الشخصَ لا يستطيع الحج إلا بسيرٍ فوقَ العادة فهل يكونُ مستطيعاً؟
يعني / لو أنَّ الشخص معه دابة أو سيارة لو مشى على السيرِ المعتاد لفاته الحج، ولو أسرَعَ سُرعةً فائقةَ أدركَ الحج فهل يكونُ مُستطيعاً؟
الجواب/ لا يكونُ مستطيعاً.
المسألةُ الثانية:
لو أنَّ شخصاً لا يأمنُ في طريقهِ في الحج: هل يُعَدُّ مُستطيعاً؟
الجواب/ لا يكون مستطيعاً، أي: لا يلزمُهُ الحج، لأن ضابط الاستطاعة يعاد فيها إلى العرف.
المسألة الثالثة:
لو أنَّ شخصاً يأمَنُ في طريقهِ في الحج بِحِرَاسَة هل يُعَدُّ مُستطيعاً ؟
الجواب/ لا، ولو كان ممن يقدر على نفقة الحراسة.
لو قال قائل: في عدم الأمن هل يستنيب، أي: يُنيبُ غيرَه ؟
الجواب/ لا.
المسألة الرابعة:
لو أنَّ شخصاً بُذِلَ له مال، هل يُعد مستطيعاً ؟
الجواب/ لا، لأنَّ طبيعةَ ابنِ آدم أن يمتَن، والمِنَّةُ ضررٌ على الشخص، والشريعةُ لا تأتي بالضرر.
لو قال قائل: لو أن أباه تبرع له هل يُعد مستطيعاً ؟
الجواب / لا يعد مستطيعاً، لأنَّ المنَّةَ قد تحصُلُ من الأب.
لو قال قائل: لو أنَّ الولدَ بَذَلَ لأبيه أو لوالدته فهل يَلزم الوالد الحج ؟
الجواب / اختلف العلماء
القول الأول: يلزمه لأنه لا منَّةَ من الابنِ على والده، ولقول النبي ﷺ: (أنت ومالُك لأبيك) ولأنَّ المنَّةَ من الوالد أعظمُ من المِنَّةِ من الولد، لأنه سبب في وجوده ولذا قال ﷺ: (لا يقتل الوالد بولده).
القولُ الثاني: أنه لا يلزمُهُ، وهذا هو الأقربُ عندي، لماذا؟ لأنَّ الأبَ غيرُ مالكٍ للمال، وأما حديثُ النبي ﷺ: (أنت ومالُك لأبيك) ليس على عمومه فقد اشترط العلماءُ له شروطاً.
وأما المِنَّة: فإنَّ هذا يبطُل بمن لهُ عليك أيادي عظيمة لأنه لو كان هناك شخصٌ له عليك معروف وأيادي ثم بذَلت له مالاً لِيَحُج فهل يلزمه؟
الجواب / لا يلزمُه. هذا هو الأقرب،
ولا شك أن الاحتياط أن يَحُج، لاسِيَّما مع سَعَةِ مالِ الولد -لأنه يجوزُ للأب فقط دون الأم- يجوزُ للأب أن يتملكَ من مالِ ولده بما لا يَضُرُّ الولد ولا يحتاجُ إليه.
ومن مسائل الاستطاعة:
لو قال قائل: لو أنَّ شخصاً مُنِعَ من الدخولِ إلى المناسك إلا برِشوة فهل يُعد مستطيعاً؟ قيل له لن تدخلَ مكةَ إلَّا برِشوة، فهل يُعَدُّ مُستطيعا ؟
الجواب: اختلف العلماءُ في ذلك:
القول الأول: قال بعضُ العلماء يدفعُ قِياساً على من كان له حق عند شخصٍ ولم يَتوصَّل إليه إلا بدفعِ مال، وقِياساً على من عَدِمَ الماء للطهارة ومعه ثمنٌ للماء، فالواجبُ عليه أن يشتري الماء.
القول الثاني: أنه لا يُعد مستطيعاً ولا يدفع مالاً، وهذا هو الأقرب.
وأما قياسُهم على: عادم الماء فقياسٌ مع الفارق، كيف؟ لأنه في مسألة الماء لن يرتكبَ مُحَرماً، وفي هذه المسألة سوف يرتكبُ مُحَرماً.
وأما القياس على: أن من له حق ولم يتوصَّل إليه إلا بدفعِ مال، فإنه قياس مع الفارق، كيف؟ لأنَّ مسألةَ حقوق الآدميين مبنيَّةٌ على المُشاحَّة، أما هنا فهو حق لله عز وجل.
المسألة الخامسة:
لو أنه استطاع أن يصلَ من غيرِ راحلة، فهل يلزمُه الحج أم لا ؟
مثال ذلك: لو أن شخصاً يستطيع أن يصل إلى مكةَ على قدميه هل يُعد مستطيعاً ؟
الجواب/ اختلف العلماء:
فقال بعضُ العلماء: لا يلزمه الحج، ودليلهم: أن النبي ﷺ فسَّر الاستطاعة في الآية بأنها ( الزاد والراحلة) وهذا عَدِمَ الراحلة، لكن على هذا القول يُستحبُ له الحج إن لم يكن هناك ضررٌ عليه.
القول الثاني: أنه يلزمه، ودليلهم أن هذا مستطيع، فالاستطاعة موجودة فيه، ويمكن أن تصدُق هذه الصورة على أهلِ مكة. وهذا هو الصحيح، أما حديث: (الاستطاعة هي الزاد والراحلة) فهو محلُّ خلافٍ بين المحدثين، فبعض العلماء يُضعفه وإذا كان ضعيفاً فلا تقوم به حُجة وبعض العلماء يُصححه، وعلى فَرضِ صحته فلا يدل على الحصر والتقييد، ومما يدل على أنه ليس للحصر فقد يوجد الزاد والراحلة ولا يستطيع لضعف في بدنه فلا يعد مستطيعا.
المسألة السادسة:
لو أن الإنسان وجد راحلةًّ أو دابة [إذا قلنا راحلة فتصدُق على الكل في كلِّ زمانٍ بِحَسَبِهِ] إذا وجد راحلةً لكنَّ هذه الراحلة لا تصلُحُ لمثله فهل يُعد مستطيعاً ؟
الجواب: تتضح هذه المسألة بالمثال:
لو أن شخصاً جرت عادتُه أن يسافر على طائرة ولم يجد إلا سيارة، أو جرت عادتُه أن يسافر على سيارةٍ فخمة فلم يجد إلا سيارةً عادية فهل يُعد مستطيعاً أو لا ؟
الجواب: اختلف العلماء في هذا.
بعض العلماء يقول: لا يلزمه الحج ودليلهم قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، والنبيُّ ﷺ فسَّرَ الاستطاعةَ بالزاد و الراحلة] وأطلق، فيُرجَعُ في تحديدِ الراحلةِ إلى العُرف، والناس في عُرفِهِم يختلفون في المَركوب.
ومثلُ مسألةِ المركوب الزاد: فلو أن شخصاً لم يجد حملةً تُوفر له زادَه الذي أَلِفَهُ وإنما وجد ما هو دون ذلك، فهل يُعد مستطيعا ؟
القول الأول: لا يلزمه الحج لأنه غيرُ مستطيع.
القول الثاني:
يلزمه الحج لأنه في الحقيقةِ مستطيع، وأما الجوابُ عن الآيةِ والحديث فقد سبق إيضاحُه في المسألةِ السابقة. والراجح: القول الثاني أنه يلزمه الحج.
المسألة السابعة:
لو وجد ما يحُجُّ به، لكنه سيدع أسرته من غيرِ نفقة، أو يَدَعُ لهم نفقةً لا تكفيهم إلى رجوعه، فهل يُعد مستطيعاً ؟
الجواب: لا، لأن النفقة حقٌ للمخلوق وحقُ المخلوق مبناه على المُشاحَّة.
المسألة الثامنة:
لو أن شخصاً أبقى لأهله نفقةً حتى يعود، ووفَّرَ مالاً للحج على حسابِ حوائجِهِ الأصلية، فهل يُعد مستطيعاً ؟
فمثلاً : لن يوفرَ هذا المال إلا ببيع مثلاً بعض كتبه التي يحتاجُ إليها أو بعض ثيابه التي يحتاج إليها أو سيارته التي يحتاج إليها فهل يُعد مستطيعاً ؟
الجواب: لا يُعد مستطيعاً.
المسألة التاسعة:
لو أن شخصاً لديه مالٌ وفير، وهذا المال أرصده للزواج ولو أخذ منه شيئاً للحج ما وفّى مهرَ الزواج، فهل يُعد مستطيعاً ؟
الجواب: إن كان يخشى على نفسِهِ من العَنَت -يخشى أن يقعَ في الفاحشة- فلا يُعد مستطيعاً، وإن لم يخش العَنَت فيلزمُه أن يحج ولو نقص من مهر الزوجة.
هذه مسائل تتعلق بالشرط الخامس وهو شرط الاستطاعة، ولكن لو خالف فيها وحج فحَجُّهُ صحيح ومُجزئ
والاستطاعة تُختصَرُ في قولِنا: [ أن يكونَ الإنسان المسلم قادراً بماله وبدنه ] ويتخرجُ على هذا الكلام أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يكون المسلم قادراً بماله وبدنه فيجب عليه الحج بنفسه.
الحالةُ الثانية: ألا يكون قادراً لا بماله ولا ببدنه فيسقُطُ عنه الحج.
الحالةُ الثالثة: أن يكون قادراً ببدنه دونَ ماله فيجبُ عليه الحج على القول الراجح كما سبق.
الحالة الرابعة: أن يكون قادراً بماله دون بدنه فيجب أن يحج بماله، ومن ثَمَّ يلزمُه أن يُنيبَ غيرَه لقوله ﷺ للمرأة التي سألته كما في الصحيحين قالت: ( إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ فقال ﷺ: نعم)
هذا إن كان عجزه عجزاً مستمراً، وإن كان عجزه يرجى زواله فينتظر حتى يحج بنفسه.
قلنا فيما سبق إن ضابط الاستطاعة: أن يكونَ قادراً بماله وبدنه، فلو اعترض علينا مُعترض وقال: إن هناك شخصاً قادراً بماله وبدنه ولم يلزمه الحج ، قلنا له من هو ؟
فقال المرأة القادرة ببدنها ومالها ولم تجد محرماً.
فالجواب / مسألةُ كَونِ المَحرَم من الاستطاعة أو ليس منها ؟ موضعُ خلافٍ بين العلماء.
القول الأول: أن المحرم لا يُشترط في الحج الواجب ،فمتى ما قَدِرت بمالها وبدنها يلزمُها الحج، فتخرُجُ مع ثقاتٍ سواءٌ كانوا رجالاً أو نساءً، ولهم دليلان :
الدليل الأول: قول النبي ﷺ: (يوشِكُ أن تخرجَ الظعينةَ من الحيرة تؤمُّ البيتَ لا جِوارَ معها لا تخافُ إلا الله)
الدليل الثاني: وهو دليلٌ من القياس، أنها تُقاسُ على الأسيرة، فالأسيرةُ إذا انفك أسرُها فإنها تخرُجُ إلى بلد الإسلام ولو لم تجد مَحرَماً.
القول الثاني: -وهو القول الصحيح- أن المحرمَ يُعدُّ نوعاً من أنواع الاستطاعة، ويستدلون بما يلي:
الدليل الأول: قول النبي ﷺ كما في الصحيحين:
( لا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، أن تُسَافِرَ إلَّا مع ذِي مَحْرَمٍ )
الدليل الثاني: قول النبي ﷺ لذلك الرجل الذي اكتتب في غزوة، فَقالَ: ( يا رَسولَ اللهِ، إنَّ امْرَأَتي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وإنِّي اكْتُتِبْتُ في غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قالَ: انْطَلِقْ فَحُجَّ مع امْرَأَتِكَ).
والصحيح القولُ الثاني
أما ما استدلوا به من حديثِ النبي ﷺ فإنه إخبارٌ عما سَيَقع وليسَ إقراراً منه عليه الصلاة والسلام، وفرقٌ بين الإخبار والإقرار، ولذا جاءت أحاديثُ كثيرة منها: (يقِلُّ العلم ويَكثُرُ الجهل ويُلقى الشُّح) ولا يدل هذا على جواز مثل هذه الأشياء، إنما هو إخبار منه عليه الصلاة والسلام لِيُحَذِّرَ أُمَّتَه.
وأما القياس على الأسيرة فقياسٌ مع الفارق، لأن الأسيرة مضطرة وهذه ليست مثلَها واشتراطُ المحرم في حالةِ الضرورة غيرُ مُعتبر، ولذا لما ترك النبي ﷺ عائشة رضي الله عنها في تلك البرية في حادثة الإفك أتت مع صفوان بن المُعطَّل السُلَمي.