بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله في :
باب من نام عن صلاة أو نسيها
حديث رقم – 444-
( صحيح ) حدثنا عباس العنبري ح وثنا أحمد بن صالح وهذا لفظ عباس أن عبد الله بن يزيد حدثهم عن حيوة بن شريح عن عياش بن عباس يعني القتباني أن كليب بن صبح حدثهم أن الزبرقان حدثه عن عمه عمرو بن أمية الضمري : قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فنام عن الصبح حتى طلعت الشمس فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ” تنحوا عن هذا المكان ، قال ثم أمر بلالا فأذن ثم توضؤوا وصلوا ركعتي الفجر ، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم صلاة الصبح )
هذا الحديث مر معنا ما يشابهه ، ومفاد هذا الحديث ما ذُكر معنا مسبقا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فاتته صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ، فنأخذ من الفوائد زيادة على ما مضى :
أن هذا السفر المذكور في الحديث مبهم ، وهذا الإبهام موضح في الأحاديث الأخرى ، فقد مر معنا أن هذا النوم حاصل منه عليه الصلاة والسلام بعدما قفل من غزوة خيبر – وهذا هو الصواب .
ومر معنا أن ذلك في غزوة مؤتة ، ومر معنا أن ذلك في غزوة تبوك ، وقيل بالترجيح وهو ما مر معنا من أنه نام لما رجع من غزوة خيبر .
وقال بعض العلماء تحمل القصة على تعدد هذه الحادثة .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان والإقامة ، فما جاء من أحاديث لم تذكر الأذان والإقامة فإنها مذكورة هنا .
ومن الفوائد :
أن الفائتة يؤذن ويقام لها ، ويكون ذلك على سبيل الاستحباب إذا كان الإنسان منفردا ، أما إذا كانوا جماعة ففاتتهم الصلاة هل يؤذنون لها ويقيمون ؟
خلاف بين العلماء ، منهم من قال بالسنية وعدم الوجوب للأحاديث التي أوردت قصة منامه عليه الصلاة والسلام ولم يذكر فيها أذان ولا إقامة .
والصواب أن يؤخذ بالأدلة التي جاءت بذكر الأذان والإقامة فتكون الصلاة الفائتة إذا أديت جماعة يجب أن يؤذن وأن يقام لها .
ولو قال قائل : ولو فاتت الصلاة جماعة من الناس في بلدة أذن فيها ؟
فيقال أذان البلد كافي ، لكن إذا كانوا في برية أو في مكان لم يؤذن فيه فإن الأذان يلزمهم .
ومن الفوائد :
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ركعتي الفجر وأن سنة الفجر لم يتركها عليه الصلاة والسلام لا في حضر ولا في سفر ، وهي السنة الراتبة الوحيدة التي كان يحافظ عليها صلوات ربي وسلامه عليه في سفره .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يرتحلوا من هذا المكان ، وهذا مما يندب له أن ينعزل المسلم عن مكان أصابته فيه الغفلة ، وهذا يؤكد أن المكان الذي يعصى فيه الله عز وجل من قبل أناس أنه لا يجلس معهم ، فإذا كان أمر بالتحول عن هذا المكان الذي هو جماد ، وهذا صادر منهم من غير عمد ، وإنما بسبب النوم وأثر ذلك في ذلك المكان، فكيف ببقاء إنسان مع أناس في مكان يعصون الله عز وجل !
وهناك فوائد أخرى مرت معنا فيما مضى .
حديث رقم -445-
( صحيح ) حدثنا إبراهيم بن الحسن ثنا حجاج يعني بن محمد ثنا حريز ح وحدثنا عبيد بن أبي الوزير ثنا مبشر يعني الحلبي ثنا حريز يعني بن عثمان حدثني يزيد بن صالح عن : ذي مخبر الحبشي وكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر قال فتوضأ يعني – النبي صلى الله عليه وسلم – وضوءا لم يلث منه التراب ثم أمر بلالا فأذن ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فركع ركعتين غير عجل ثم قال لبلال أقم الصلاة ثم صلى الفرض وهو غير عجل قال عن حجاج عن يزيد بن صليح حدثني ذو مخبر رجل من الحبشة وقال عبيد يزيد بن صالح )
من الفوائد :
أن قوله ( لم يَلْثَ منه التراب ) معناه أنه لم يكثر من صب الماء فارتوى منه التراب ، وإنما كان صب الماء صبا خفيفا إلى درجة أن التراب لم يشبع من هذا الماء .
وقد وردت ( لم يلت ) من لت السويق ، لأن الإنسان إذا أراد أن يضع شيئا من الماء على الطحين ليعجنه فإنه لا يضع إلا ماء قليلا ، فدل هذا على أنه صلوات ربي وسلامه عليه اقتصر على أقل ما يكون من الماء لما توضأ .
ومن الفوائد :
أن قضاء الصلاة بعد خروج وقتها لا يستدعي من الإنسان أن يعجل بها ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أداها وهو غير عجل ، وكذلك الشأن في السنة فإنه أداها وهو غير عجل ، وهذا يدل على أن ما جاء في حديث عائشة وغيرها( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف سنة الفجر حتى تقول لا أدري أقرأ بأم الكتاب ) فهذا تخفيف في تمام ، ولذا كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أخف ما يكون في تمام ، فلا يعني من تخفيف سنة الفجر أن يفرط الإنسان في أركانها أو في واجباتها .
حديث رقم -446-
( شاذ ) حدثنا مؤمل بن الفضل ثنا الوليد عن حريز يعني بن عثمان عن يزيد بن صالح عن : ذي مخبر بن أخي النجاشي في هذا الخبر قال ( فأذن وهو غير عجل )
من الفوائد :
سبب شذوذ هذا الحديث لأن عدم العجلة واقعة على الصلاة لا على الأذان ، لأنه من المعلوم أن الأذان يرتل ويسترسل فيه .
حديث رقم -447-
( صحيح ) حدثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن جامع بن شداد سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة سمعت عبد الله بن مسعود قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يكلؤنا فقال بلال أنا فناموا حتى طلعت الشمس فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال افعلوا كما كنتم تفعلون قال ففعلنا قال فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي )
من الفوائد :
هذا الحديث يصححه الألباني رحمه الله مع أن هذه الواقعة وقعت زمن الحديبية ، ولعله بتصحيحه رحمه الله يرى أن هذه قصص قد تعدد وقوعها ، فهي لم تقع فقط في رجوعه صلوات ربي وسلامه عليه من غزوة خيبر ، وإنما تعددت ، وهذا يدل على أن هذا الفوات الحاصل له عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة يدل على أنه من البشر وأنه يصيبه ما يصيب البشر ، وأن العبد كلما كان متعبا كلما كان عن الصلاة أبعد استيقاظا ، مع أنه صلوات ربي وسلامه عليه لم يكن في غفلة وإنما في عبادة ، لكن هذا يؤكد أن هذا وقع من عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة يؤكد أنه من البشر .
ومن الفوائد :
أن الصلاة إذا فاتت تقضى على ما كانت تؤدى في الأيام السابقة ، ولذا جهر صلوات ربي وسلامه عليه كما في حديث أبي قتادة جهر بالقراءة في صلاة الفجر مع أنه صلاها بعد طلوع الشمس مما يدل على أن الصلاة تؤدى بحالها إذا فاتت ، يعني لو أن الإنسان فاتته صلاة سرية فلم يتذكرها أو لم يستيقظ إلا بالليل ، كأن تفوته صلاة العصر وجاء وقت المغرب فإنه يصليها سرا ، وكذا لو فاتته صلاة جهرية فلم يتذكرها أو لم يستيقظ إلا في النهار ، فإنه يجهر بالقراءة .
بابٌ في بناء المساجد
حديث رقم -448-
( صحيح ) حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما أمرت بتشييد المساجد ”
قال ابن عباس لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى )
من الفوائد :
أن المصنف رحمه الله ذكر هذا الباب من باب أن يبين أن من العلامات الصغرى التي ستقع ” التباهي بالمساجد وبزخرفتها “
ومن الفوائد :
أن ( ما ) المذكورة هنا ( ما نافية ) فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون مأمورا بتشييد المساجد .
ومن الفوائد :
أن الفاعل قد يحذف للعلم به ، قال ( ما أُمِرت ) ومعلوم أنه لا يؤمر إلا من قبل الله عز وجل ، ولذا لا ينبغي أن نقول إن هذا الفعل مبني للمجهول ، لأن الآمر الذي حذف ليس بمجهول – وهو الله عز وجل – ولذلك الصواب أن يقال ويحث على ذلك أهل اللغة ، أن يقال ( لمَ لم يسم فاعله ) حتى لا نقع في مثل هذا المحظور ، لأن الله عز وجل معلوم .
ومن الفوائد :
أن العبرة ليست بالظاهر وإنما العبرة بالباطن ، فزخرفة المساجد وتشييدها والاعتناء بها أكثر من اللازم ليس هذا هو المقصود شرعا ، إنما المقصود أن تهيئ أمكنة يتعبد الله عز وجل فيها { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ{18} أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{19}
ولذلك حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال الصحابة رضي الله عنهم في طاعة الله عز جل – مع أنهم كما سيأتي معنا في بيان صفة بناء مسجده عليه الصلاة والسلام – مع أنهم في مسجد مسقوف بالجريد وأعمدته وسواريه من جذوع النخل وكان فراشه الحصباء ، ومع ذلك كله كانوا أعبد الناس ، بخلاف من جاء بعدهم فإن المساجد قد شيدت وعظمت ومع ذلك لا تجد إلا النزر اليسير من المصلين وهؤلاء المصلون الذين هم نزر انظر كيف صلاتهم وما فيها من التضييع وما فيها من ذهاب الخشوع ؟!
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال كما عند مسلم ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم وإنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم ) هذا هو المعول عليه .
ومن الفوائد :
أن تشييد المساجد : هو الاعتناء بها ورفع سقوفها وتزيينها ، وهذا قد وقع ، وأول من عظّم المساجد ” الوليد بن عبد الملك ” في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم وترك الإنكار عليه خيفة من الفتنة ، ولذا ظهرت زخرفت المساجد في القرون السابقة ، ليس في نجد – لا – وإنما هو موجود في غيرها ، فمن ذهب إلى مصر وإلى الشام وجد تلك المساجد عظيمة البناء وعظيمة الزخرفة ، ولذا عقب ابن عباس رضي الله عنها مقسما ، لأن ( اللام ) موطئة للقسم يعني ( والله لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى )
والزخرف في الأصل معناه الذهب ، ثم اتخذ هذا الاسم لكل ما يزين به الشيء ، فلا يقتصر كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في الزخرفة لا يقتصر على الذهب ، بل إن المساجد تزين بالذهب وتزين بغيره من النقوشات وما شابه ذلك .
وهذا القسم منه رضي الله عنه بإخبار سيكون ، هذا يوحي بأنه في حكم المرفوع حكما ، وإن كان ابن عباس رضي الله عنهما ممن يأخذ من بني إسرائيل ، إلا أن في صورته ما يوحي بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، لدلالة الحديث الآتي وهو حديث أنس رضي الله عنه .
ومن الفوائد :
أن اليهود والنصارى لما تركوا الأساس والأهم وهو ما جاء في التوراة والإنجيل اشتغلوا بما لا ينفع ولا يفيد من الزخرفة ، كذلك هذه الأمة إذا أعرضت عن كتاب الله عز وجل اشتغلت بما لا ينفعها ولا يفيدها ، ولذلك عليه الصلاة والسلام يقول ( أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ) في أي مكان ( فعنده مسجده وطهوره )
ولذلك قد يصلي أناس في فضاء ويكون لديهم من الخشوع وحضور القلب ما ليس عند أناس يصلون في أفخم المساجد، بل جاء عند المصنف رحمه الله ( من صلى في أرض فلاة فأتم ركوعها وسجودها وخشوعها كانت له كأجر خمسين صلاة ) فليست العبرة بالبناء وإنما العبرة بما يكون في القلب ومن الفوائد :
التحذير من مشابهة أهل الكتاب بالأخص ، وعلى وجه العموم التشبه بجميع الكفار ، ولذلك من رأى حال هؤلاء اليهود والنصارى في معابدهم وجد أن هذه المعابد لما زُينت وزخرفت انتقل بهم الحال إلى أن يبنوا هذه المساجد على قبورهم ، كما قال عليه الصلاة والسلام في آخر حياته ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) وهذا شيء مشاهد في الواقع ، يعني لو تأتي إلى بعض المناطق في الشام وفي مصر تجد أنها لما زخرفت تلك المساجد ما الذي أودى بهؤلاء ؟ أودى بهم إلى أن توضع القبور في المساجد وأن يبنى على القبور مساجد .
حديث رقم -449-
( صحيح ) حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي ثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس وقتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد )
من الفوائد :
أن من بين العلامات الصغرى للساعة أن يتباهى الناس بالمساجد ، وهذا قد وقع ، وهذه المباهاة إما أن تكون بلسان الحال أو بلسان المقال ، بلسان الحال : ألا يتحدث أحد ممن يبني المساجد بلسانه وإنما يتحدث بفعله ، فإذا رأى شخصا قد بنى مسجدا فخما بنى أفخم منه ، فهذا نوع من التباهي ولكن بلسان الحال .
وإما أن يكون بلسان المقام كأن يتنازع هؤلاء بأن يقول بعضهم لبعض مسجدي أحسن من مسجدك .
ولذلك كما أسلفنا أن المساجد إنما بنيت لطاعة الله عز وجل وأن الزخرفة لا تجعل المسلم يتقرب إلى الله عز وجل أفضل التقرب وإنما تبعده عن صلاته وعن عبادته لأنه سيشتغل ناظره وبصره بما يرى من هذه الزخرفة ، فينصرف القلب إلى غير المقصود ، وذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح قال في الخميصة التي كانت فيها أعلام ، قال ( إنها ألهتني عن صلاتي آنفا ) فألهته هذه الخميصة ، وهي كساء له أعلام ، فكيف إذا كانت هناك زخرفة تلهي المسلم ، وإذا دخل بعض المساجد كأنه دخل قصرا من القصور ، فعلى المسلم أن يحرص على أن يكون حاضر القلب وألا يفضي حب الدنيا بأن ينتقل به إلى تزيين مساجد الله عز وجل فإنما المساجد يقصد منها التعبد لله عز وجل لا التجمل والتزين .
ومن الفوائد :
وهي فائدة أصولية ، أن الحديث قد يكون عاما ويخصص بمخصص في نفس النص ، لأن المخصص قد يكون في نص آخر ،لكن هنا قد وقع تخصيص في نفس النص ، قال ( لا تقوم الساعة ) هذا عام ، ثم قيد ( حتى يتباهى الناس في المساجد ) وهذا يسميه أهل الأصول ( التخصيص بالغاية )
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد