تعليقات على سنن ابن ماجه
الدرس الثاني والستون
حديث 553- 558
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر )
حديث رقم – 553-
( صحيح ) عن خزيمة بن ثابت ، قال :
” جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثا ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسا ” )
ذكر ابن ماجه رحمه الله هذا الحديث ضمن أحاديث المسح على الخفين ، وهذا الحديث يتضمن عدة فوائد :
( من الفوائد )
أن ( جعل ) تأتي في اللغة على معاني عدة :
المعنى الأول : أن تكون بمعنى ( شرع )
كما هنا :
( جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثا )
وكما قال عز وجل :
{مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ }المائدة103
المعنى الثاني : أن تكون بمعنى ( صيَّر )
كقوله تعالى :
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }يوسف2
ولا تكون هنا بمعنى ” خلق ” خلافا للمعتزلة الذين يستدلون بهذه الآية .
المعنى الثالث : أن تكون بمعنى ( خلق )
ولا تكون بمعنى خلق إلا إذا نصبت مفعولا واحدا ، كقوله تعالى :
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ث }الأنعام1
المعنى الرابع : أن تكون بمعنى ( التسمية )
قال تعالى :
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً }الزخرف19
المعنى الخامس : أن تكون ” زائدة “
عند بعض العلماء ، ويستدل عليها بقوله تعالى :
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ث }الأنعام1
قال : { جَعَلَ } هنا زائدة .
( ومن الفوائد )
أن التوقيت في حق المسافر – كما جاءت بذلك الأدلة – ونصَّ هنا على ” ثلاثة أيام بلياليهن “
ومرت المسألة معنا أيجوز أن يزاد على ثلاثة أيام أم لا ؟
فهذا الحديث فيه زيادة تأييد لمن قال من العلماء
عن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من العلماء ” متى ما دعت الضرورة أو الحاجة الملحة أو المشقة في زيادة العدد على أكثر من ثلاثة أيام جاز له أن يمسح “
وهذا هو رأي شيخ الإسلام رحمه الله .
ولذلك قال خزيمة رضي الله عنه هنا :
( لو مضت السائل على مسألته لجعلها خمسا )
يعني خمسة أيام بلياليهن .
ولكن يقال / هذا ليس بنص واضح صريح في هذه المسألة ، هو يؤيد ولكن ليسب بصريح ، لم ؟
لأن هذا ما فهمه خزيمة رضي الله عنه ، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما خزيمة قال هذا بناء على أن الشريعة جاءت باليسر ، ولا يعني أنه يوافق من قِبل الشرع ، فقد يرى الإنسان أن هذه مشقة ويرى الآخر أنها ليست بمشقة ، فالمعول عليه في ضابط المشقة هو ما جاءت به الشريعة .
( ومن الفوائد )
” جواز الاجتهاد ، وأن بابه لم يغلق ، خلافا لمن زعم أن الاجتهاد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد أغلقت أبوابه ولا يحق لأحد أن يجتهد ، والنصوص الكثيرة ترد عليه ، من بينها هذا الحديث ، فإن خزيمة رضي الله عنه اجتهد في مقولته هذه .
( ومن الفوائد )
والإيجاز نوعان :
النوع الأول : إيجاز حذف .
النوع الثاني : إيجاز معنى .
فإيجاز الحذف ” أن تحذف الكلمة أو تحذف الجملة أو يحذف الحرف “
وإما إيجاز المعنى ” فإن الجملة تحمل معاني عظيمة “
وإيجاز المعنى هو أعظم نوعي الإيجاز .
وهنا إيجاز حذف :
( جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثا )
( ثلاثا ) ماذا ؟ ( ثلاثة أيام بلياليهن )
وفي آخر الحديث قال ( لجعلها خمساً )
( ومن الفوائد )
بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم إذ نقلوا لنا ما تلفظ به وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم نقلة الدين ، ولا خير فيمن جاء بعدهم إذا لم يعرف لهم قدرهم ، بل من طعن فيهم فإنما يطعن في الدين ، لأنه طعن في نقلة الدين ، خلافا للرافضة الذين يطعنون في الصحابة رضي الله عنهم .
حديث رقم – 554 –
( صحيح ) عن خزيمة بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ثلاثة أيام – أحسبه قال – ولياليهن للمسافر في المسح على الخفين )
( من الفوائد )
هذا الحديث نفس الحديث السابق ، ولكن هذه الرواية تقرر ما ذكرناه من أن إيجاز الحذف موجود ، فإنه رضي الله عنه لعله ذكر هذا الحديث بجملته في موطن ، وذكره بإيجاز في موطن آخر .
أو أنه ذكره في موطن واحد وكرره .
حديث رقم – 555-
( صحيح بما قبله ) عن أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله ما الطهور على الخفين ؟
قال للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة )
( من الفوائد )
أن الطهارة نوعان ” طهارة حسية وطهارة معنوية “
والمسح على الخفين من الطهارة المعنوية ، لأن المسح لا يذهب أثر الأوساخ ، وإنما الذي يذهب أثر الأوساخ الغسل ، ولذلك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بأنه ( طهور ) ومما يدل على هذا ” أن التيمم ليس بتطهير للبدن ، سواء كان التيمم للحدث الأصغر أو للحدث الأكبر ، ولذلك لما ذكر عز وجل آية الوضوء وذكر عقيبها ما يتعلق بالتيمم ، ماذا قال عز وجل ؟
قال عز وجل :
{ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ }المائدة6
ولذا قال عمر رضي الله عنه في شأن العمامة ، فالعمامة ليس فيها تطهير حسي ، يمسح على خرقة تغطي الرأس ، فأين التطهير الحسي ؟ فالتطهير فيها معنوي ، قال عمر رضي الله عنه :
( من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله )
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن المسلم يجب عليه أن يستقبل شرع الله عز وجل بنفس راضية مطمئنة وأن يقبل كل ما جاء به الشرع ،و أن هذا الشرع لو لم يفهم الإنسان منه الحكمة فإنه إنما جاء بالخير والمصلحة .
حديث رقم – 556-
( حسن ) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( أنه رخص للمسافر إذا توضأ ولبس خفيه ثم أحدث وضوءا أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة )
( من الفوائد )
أن فيه دليلا لما قال من العلماء – وهم الجمهور – إن المسح على الخفين لا يتم إلا إذا فرغ من كمال الطهارة .
خلافا لما مر معنا من رأي شيخ الإسلام رحمه الله إذ يقول ” لو أنه توضأ فغسل قدمه اليمنى فلبس الخف ، ثم غسل قدمه اليسرى فلبس الخف “
يقول :” يصدق عليه أنه أدخل القدمين وهما طاهرتان “
لكن هذا الحديث ينقض عليه ما ذهب إليه ، فهذا دليل آخر يضاف إلى أدلة الجمهور ، لم ؟
لأنه صلى الله عليه وسلم صرَّح هنا ( بالوضوء ) ثم أعقب الوضوء ( اللبس ) ومعلوم أن الوضوء الشرعي لا يكون وضوءا شرعيا إلا إذا غسل جميع أعضاء الوضوء ، فإنه لو غسل قدما وبقيت الأخرى أيقال هذا وضوء شرعي ؟
الجواب / لا ،فدل هذا على أن الصحيح من قولي العلماء أنه لا يصح له مسح على الخفين إلا إذا لبس الخفين بعد كمال الطهارة .
لو قال قائل / لو أن شخصا فعل هذا ” غسل قدمه اليمنى فأدخل الخف ، ثم غسل قدمه اليسرى فأدخل الخف ” فنُبِّه ، ماذا عليه أن يفعل ؟
الجواب / يقال له ” لتخلع اليمنى ثم لتلبسها ” لم ؟
لأنه يصدق حينها أنه أدخل الخفين بعد كمال الطهارة .
( ومن الفوائد )
أن قوله : ( أحدث وضوءا )
يدل على أن مدة المسح تبدأ من المسح بعد الحدث ، والمسألة فيها خلاف .
قال بعض العلماء : إن المدة تبدأ من اللبس .
وقال بعض العلماء : إن المدة تبدأ من الحدث
وقال بعض العلماء : إن المدة تبدأ من المسح بعد الحدث ، وهو الصواب .
وتكون المدة له أربعا وعشرين ساعة للمقيم ، واثنتين وسبعين ساعة للمسافر .
( ومن الفوائد )
أن المتأمل في مشروعية المسح على الخفين يجد أن القصد منه التيسير “
ولذلك عبَّر هنا بقوله ( رخَّص ) والرخصة تختلف عن العزيمة ، لأن الأحكام الشرعية :
إما أحكام تكليفية : [ واجب – محرم – مباح – مستحب – مكروه ]
وإما أحكام وضعية – وليست قوانين وضعية – أحكام وضعية مثل [ الرخصة – العزيمة – السبب – الشرط – المانع ]
فالرخصة مقابل العزيمة ، فدل هذا على أن المشروعية من المسح على الخفين أن يكون الناس في يسر ، فما ذهب إليه بعض الفقهاء – كفقهاء الحنابلة في المشهور عنهم – من أن هناك شروطا اشترطوها في المسح على الخفين وهي لا دليل عليها ، هذا مما يخالف اليسر الذي جاءت به الشريعة في المسح على الخفين ، ولذا فهم هذا شيخ الإسلام رحمه الله فقال ” لو أن شخص لفَّ على قدميه خرقا فيقول هو أحق بالمسح من صاحب الخف ، لأن نزعه لها فيه مشقة “
( باب ما جاء في المسح بغير توقيت )
حديث رقم – 557-
( ضعيف ) حدثنا حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد المصريان قالا حدثنا عبد الله بن وهب أنبأنا يحيى بن أيوب عن عبد الرحمن بن رزين عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن أيوب بن قطن عن عبادة بن نسي عن أبي بن عمارة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى في بيته القبلتين كلتيهما أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمسح على الخفين ؟
قال نعم ، قال يوما ؟ قال ويومين ؟ قال وثلاثا ؟ حتى بلغ سبعا قال له ” وما بدا لك )
هذا الحديث مر معنا في الأسبوع الماضي في شرح ” بلوغ المرام “
وهذا الحديث لو صح لكان دليلا لمن قال من العلماء ” إنه لا توقيت مطلقا في المسح على الخفين “
لأن المسألة فيها ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن المسح مؤقت بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ”
القول الثاني ” لا يرى التوقيت مطلقا “
استنادا لهذا الحديث وأمثاله ، ومن أمثاله الحديث الذي يليه من قصة عقبة مع عمر رضي الله عنهما ، وما مضى من حديث خزيمة رضي الله عنه ، قال ( ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسا )
القول الثالث : ” هو رأي شيخ الإسلام رحمه الله ” يقول بالتوقيت إلا عند المشقة العظمى أو مع الضرورة “
لكن هذا الحديث لا يصح.
( ومن الفوائد )
أن ” أُبي بن عِمارة ” الأفصح في ” العين ” الكسر .
ويصح أن تضم ” عُمارة ” لكن الأفصح كسر ” العين
حديث رقم – 558-
( صحيح ) عن عقبة ابن عامر الجهني أنه قدم على عمر بن الخطاب من مصر فقال :
منذ كم لم تنزع خفيك ؟ قال : من الجمعة إلى الجمعة ، قال : أصبت السنة ” )
( من الفوائد )
أن هذا الحديث يمكن أن يكون دليلا لمن قال ” لا توقيت “
ولكن هو دليل واضح وضوحاً جليلاً لشيخ الإسلام رحمه الله ، لم ؟
لأن عقبة رضي الله عنه قد من سفر ، ومعلوم أن المسافر يشق عليه أن ينزع خفيه ، ليس كالمقيم ، فروعيت مصلحة التيسير هنا لوجود المشقة لدى المسافر ، ولذا قال رضي الله عنه :
( أصبت السنة )
وهنا إشكال /
مر معنا أن الحديث المرفوع ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ” مرفوع حقيقي “
القسم الثاني : ” مرفوع حكما “
فالمرفوع حقيقة : أن يقول الراوي :
” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “
أو ” سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أو ” عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “
وأما المرفوع حكما : أن يقول :
” كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أو ” من السنة كذا ”
فيكون دليلا لما ذهبوا إليه ، لقول عمر رضي الله عنه : ( أصبت السنة )
فهذا الحديث يخالف ما قُرر من التوقيت ، فكيف الجواب عنه ؟
قال بعض العلماء ممن لا يرى برأي شيخ الإسلام رحمه الله : إن هذا الحديث جاء مرفوعا حكما ، ولا يعارض المرفوع حكما المرفوع الصريح ، فيكون المرفوع الصريح مقدما على المرفوع حكما ، فلا يستويان في القوة .
وأرى – والعلم عند الله – حسب ما فهمت من هذه العبارة ( أصبت السنة ) :
أنها تختلف عن قوله : ( من السنة كذا ) فيكون هذا ليس حديثا مرفوعا حكما ، وإنما اجتهاد من عمر رضي الله عنه ، فقوله ( أصبت السنة ) يعني أصبت الطريقة المحمدية التي جاءت باليسر ، ولا يعني هذا أن هذا من مقول النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يقل ( من السنة ) وإنما قال ( أصبت السنة ) يعني الطريقة الشرعية العامة ، وهي طريقة اليسر والسهولة .
فهذا ما ظهر لي ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .