تفسير سورة البقرة ــ الدرس الثاني عشر
قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) }
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمعنا في هذه الليلة تفسير قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) }
من فوائد هاتين الآيتين :
أن من صفات المنافقين : الإفساد في الأرض :
والإفساد نوعان :
حسي ومعنوي
أفظعهما : المعنوي :
ما هو المعنوي ؟
هو أن يفسد في أرض الله بما يسخط الله
لم ؟
لأن الإفساد الحسي يتبع الإفساد المعنوي
تصور :
لو أن الأرض فسدت بالذنوب يتبع ذلك ماذا ؟
لمَّا تحصل سرقة
لمَّا يحصل زنى
لمَّا يحصل إشراك بالله
لمَّا يحصل تضيع للصلاة
ما الذي ينتج عن ذلك ؟
يحصل فساد في الأرض من :
التدمير
والتخريب
والقتل
وما شابه ذلك
وبالتالي : فإن أعظم الفسادين الفساد المعنوي :
وهذه صفة في المنافقين
لم ؟
لأنهم يريدون أن يفسدوا في الأرض بعد ما طهرها الله من الشرك ومن الذنوب بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم
ولذلك :
قال تعالى في آية أخرى : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا }
ومن فوائد هذه الآية :
أن الفساد ثلاث درجات
الفساد : نوعان
لكن الفساد ثلاث درجات : فساد من غير علم
هذا لا يؤاخذ به العبد :
أفسد شيئا وهو لا يعلم بحكمه
هذا لا يترتب عليه شيء
الدرجة الثانية : إفساد بعلم
يعلم أن هذا إفساد وأقدم عليه
وهذا يأثم صاحبه
الدرجة الثالثة :
وهي التي اتصف بها المنافقون :
إفساد بعلم وقلب الحقائق بجعل هذا الإفساد إصلاحا :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }
ومن فوائد هذه الآية :
أن من صفات المنافقين : أنهم زكوا أنفسهم في أعلي درجات التزكية
التزكية درجات :
ــ أن يزكي الإنسان نفسه بأنه صالح
الدرجة التي هي أعلى :
أن يزكي نفسه بأنه مصلح
لأن من أصلح بطبيعة الحال يكون صالحا :
فهؤلاء زكوا أنفسهم فرفعوها في أعلى درجات التزكية
ولذلك ماذا قالوا ؟
{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }
لم يقولوا : صالحون
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن هؤلاء لم يتواضعوا لله عز وجل ولم يتواضعوا لشرعه
فالحذر الحذرَ من تزكية النفس
ولذلك قال عز وجل :
{ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } النجم32
ومن فوائد هذه الآية :
أن كلمة إذا :
{ وَإِذَا قِيلَ } تختلف عن (( إذ ))
هذه مفيدة لنا في اللغة العربية وفي فهم كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
واللغة العربية :
مفيدة بكل ما فيها لمعرفة شرع الله :
لأن القرآن نزل بها
ولأن النبي عليه الصلاة والسلام هو المتحدث بها
فرق بين : إذ ، وإذا :
[ إذا] ظرف زمان لما يستقبل
[ إذ ] ظرف زمان لما مضى
يأتي بعض الناس إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام ويقول : يا رسول الله اشفع لي عند الله ليغفر لي
يأتي إليه الآن في هذه الأزمان يأتون إليه
ما حكم ذلك ؟
شرك
يأتي أحدهم ويقول :
ألم يقل الله عز وجل :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ }
نحن نطبق هذه الآية
فماذا عسانا أن نقول ؟
نقول : هنا [ إذ ] لما مضى لما كان النبي عليه الصلاة والسلام حيا
(( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ )) لم يقل : وإذا ظلموا
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ }
ويمكن أن تحل إذا محل إذ والعكس – لكن :
الأصل :
[ إذا] ظرف لما يستقبل
[ إذ ] ظرف لما مضى
إذا أردت أن تضبط ذلك :
فاقرأ سورة المدثر :
{ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } مضى أتى بـ [ إذ ]
{ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ } يعني : لما يستقبل
ومن فوائد هذه الآية :
أن [ إذا ] إذا أتت ينتظر بها وقوع شيء كما لو قلت لك : إذا جاء زيد فأكرمه
يعني : فيه ترقب مجيء شيء فهي تشعر بأن هناك شيئا سيحدث
إذا جاء زيد فأكرمه
أنا لا أمثل بزيد لأنه اسمي لا :
لأن أهل اللغة يمثلون بزيد وبعمرو وأكثر ما يمثلون بزيد
ويمكن أن يزاد عليها [ ما ] للتأكيد :
يعني : لما نقول : إذا ما جاء زيد فأكرمه
بعض الناس يظن : أنه إذا لم يأت
يعني : انه نفي
لا
إذا ما جاء زيد فأكرمه
إذا ما أطعت الله نلت الثواب من الله عز وجل
هنا :
ما زائدة تحذف لكن أتي بها زيادة من باب التأكيد على وجود هذا الشيء
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أن الأرض خلقنا منها :
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } طه55
فإذًا :
لنا بها ارتباط
الأرض من معانيها في اللغة :
التواضع
وانظروا إلى الترابط :
يقال في اللغة : رجل أريض
رجل أريض : يعني متواضع
وبالتالي :
فإنه يجب علينا نحن الخلق من بني آدم أن نتواضع
لم ؟
لأنا خلقنا من هذه الأرض
ولأن من اشتقاقات الأرض في اللغة التواضع
لأن أصل الكل من تراب :
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع :
قال : (( كلكم لآدم وآدم من تراب ))
ما يفضل أحد على أحد إلا بتقوى الله عز وجل
لكن بشرط:
أن يكون هذا التواضع فيما يقرب إلى الله لا فيما يبعد عن الله
ولذلك :
من نحى بالأرض
أو تنحى إلى الأرض
أو استند إلى الأرض عن ذل فإنه مذموم
ولذلك قال عز وجل في قضية الجهاد :
{ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ }
ويجب علينا :
أن نتذكر أصلنا ونعود إلى الأرض فنتواضع
لكن :
لا يكون هذا التواضع محل ذل
ولذلك ابن القيم رحمه الله فرق في كتابه :
[ الروح ] بين التواضع وبين المهانة
ولذلك قال عز وجل :
{ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ }
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أن الأرض :
هي كل ما سفل منك
كل ما علاك فهو سماء
وكل ما سفل منك فهون أرض
ولذلك :
هذا السقف يسمى : سماء
قال عز وجل- على أحد وجهي التفسير – : { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } – يعني بحبل – { إِلَى السَّمَاءِ } – يعني إلى السقف ))
{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } الحج15
ولذلك : لو سألتكم :
قال عز وجل : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً }
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً }
سـ / من السماء المبنية ينزل المطر ؟
لا من السحاب
أين السحاب ؟
بين السماء والأرض
{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
إذًا :
كل ما علاك فهو سماء
وكل ما سفل منك فهو أرض
ولذلك :
يسمي أهل اللغة قوائم الفرس التي هي في الأسفل يسمونها [ أرضا ]
ابن عباس رضي الله عنهما في البصرة :
لما زلزلت الأرض قال : ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرضة ؟
يعني : رعدة في قدماي
لما زلزلت الأرض قال : ما أدري : أزلزلت الأرض أم بي أرضة ؟
يعني : رعدة
نتيجة ماذا ؟
أن الأقدام التي هي في السفل تسمى أرضة
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أنه يجب علينا أن نحافظ على هذه الأرض التي هي محل عبادة الله عز وجل
محل طاعتنا لله
ولذلك :
ماذا قال عز وجل في هذه السورة ؟
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا }
إذًا :
كل ما خلق في الأرض هو لنا وأباحه لنا من أجل :
فساد الأرض أم صلاح الأرض ؟
من أجل صلاح الأرض
والأرض لا يمكن أن تصلح إلا بطاعة الله
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أن من ادعى شيئا من غير دليل يُكذَّب
ولذلك : النبي عليه الصلاة والسلام : ماذا قال ؟
(( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ))
لو أتيت إلى القاضي وادعيت على شخص بشيء فإن القاضي لا يحكم لك بهذا الادعاء إلا إذا كانت لك بينة
وهنا دليل على أن من ادعى شيئا كذب إلا إذا أتى بدليل
هم ادعوا ماذا ؟
الإصلاح
فما الذي جرى ؟
كذبهم الله :
قال : { أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أنه قال جل وعلا : { أَلَا } :
ألا : أداة تنبيه يراد منها : التوكيد في اللغة
وأتى بكلمة [ إن ] تفيد التوكيد :
من باب أن يؤكد جل وعلا :
أنهم هم هم لا غيرهم ولذلك أتى بضمير الفصل الذي يفيد التوكيد أيضا
أتى بـ : { أَلَا }
و [ إن ]
و [ هم ]
هم هم لا غيرهم هم أهل الإفساد
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أنهم إذا كانوا هم أهل الإفساد فأهل الإيمان والخير هم أهل الإصلاح
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أن من أعظم ما يصاب به الإنسان :
أن يعمل العمل يظن أنه على هدى وهو على غير ذلك كصنيع هؤلاء :
إذ قال عز وجل :{ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }
ومن فوائد هاتين الآيتين :
أنه قال : { وَلَكِنْ } :
لكن : في اللغة حرف استدراك وتوكيد
وهذه قاعدة في اللغة :
يعني : إذا أتى ما قبلها إثبات يأتي ما بعدها نفي
وإذا أتى ما قبلها نفي أتى ما بعدها إثبات
ما جاء زيدٌ لكن جاء عمروٌ
جاء زيدٌ لكن ما جاء عمروٌ
فإذًا : هي في مقام الإثبات يكون ما بعدها نفيا
وفي مقام النفي يكون ما بعدها إثباتا