تفسير سورة البقرة ــ الدرس العشرون
قوله تعالى
{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) } البقرة27
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لما ذكر جل وعلا المثل الذي افترق الناس فيه على فرقتين بيَّن جل وعلا أنه يضل به من فسق وخرج عن طاعته ، قال :
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ }البقرة26
ثم بيَّن عز وجل من هم هؤلاء الفاسقون .
قال عز وجل :
{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) } البقرة27
( من الفوائد )
” حث المسلم على التدبر والتأمل في كتاب الله عز وجل “
فإنه جل وعلا لما ذكر هؤلاء الفاسقين ، ذكر من بين صفاتهم فيما مضى أنهم لم يهتدوا إلى الحكمة من ضرب الأمثلة في القرآن ، ثم هم مع ذلك لهم صفات أخرى ، تلك الصفات السيئة هي التي دعت هؤلاء إلى ألا يؤمنوا بهذا المثل ، ما هي :
[ نقض العهد – قطع ما أمر الله عز وجل بوصله – الإفساد في الأرض ]
( ومن الفوائد )
” أن نقض العهد هو نكثه “
والعهد / هو الأمر المؤكد ،فإذا نقض الأمر المؤكد تشتت وتفرق وتبعثر ، ويحصل بعد ذلك القطع والإفساد .
( ومن الفوائد )
” وجوب الوفاء بالعهود “
ولذلك قال عز وجل :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } المائدة1
فدل هذا على أن خلاف هؤلاء هم ” المؤمنون ” لأن المؤمنين يوفون بالعهود ، بينما هؤلاء ينقضون العهود ، ولذا ذكرت أن القرآن لابد أن يتأمل ويتدبر ، قال عز وجل :
{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)}
( ومن الفوائد )
أن العهود التي تُبرم نوعان :
النوع الأول / عهد مع الله بالقيام بشرعه ، لأن الله عز وجل أخذ علينا العهود والمواثيق بأن نعبده عز وجل ، قال عز وجل :
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } الروم30 ، يعني ” لا تبدلوا خلق الله ” ما هو خلق الله ؟
أنه جل وعلا خلق في قلوبكم الداعي إلى قبول الحق .
وفي الصحيحين :
( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة )
النوع الثاني / العهد مع المخلوقين ”
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين
( آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب ، وإذا وعهد أخلف ، وإذا ائتمن خان )
ومر معنا في صفات المنافقين أنه ” يفسدون في الأرض “
قال عز وجل : { أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } البقرة12
وقال عز وجل هنا :
{ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ }
فدل على أن نقض العهود فساد وإفساد في الأرض
( ومن الفوائد )
” وجوب وصل ما أمر الله عز وجل بوصله وتحريم قطعه “
ما الذي أمره الله عز وجل به أن يوصل ؟
هذا عام ، فقد أمر الله عز وجل أن نوصل القول بالفعل :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف2
وأمر الله عز وجل أن نوصل ما بينه وبيننا بالإيمان به وبشرعه .
وأمر الله عز وجل أن نوصل ما بيننا وبين رسله بالإيمان بهم على وجه الإجمال والتفصيل ، وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما أتى به .
وأمر الله عز وجل أن نوصل ما بيننا وبين أقربائنا ، وهي ” صلة الرحم “
( ومن الفوائد )
” أن قطع الصلة المأمور بها إفساد في الأرض “
ومن بين ما أمر الله عز وجل به أن يوصل ” صلة الأرحام “
والقرآن يفسر بعضه بعضا ، فيما يذكر من موضوع ، يذكر في سورة آخر مع زيادة إيضاح وبيان ، لكن نحتاج إلى تأمل .
{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ }
فإذا قطعوا ما أمر الله عز وجل أن يوصل ومن ضمنه ” صلة الأرحام ” ما الذي يحصل ؟
الفساد في الأرض ، هناك آية توضح هذا أكثر
في سورة محمد قال عز وجل :
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }محمد22
ما تتمة الآية ؟
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ }محمد23
وقال في سورة الرعد :
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } الرعد25
فما في سورة محمد بعد اللعنة :
{ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ }محمد23
ومن أصمَّ الله عز وجل أذنه وأعمى قلبه على الحق فإن مصيره إلى سورء الدار ، وهي ” جهنم “
وما بعد جهنم الخسران .
وفي الآية التي معنا :
{ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } البقرة27
لا غيرهم ، ولذلك أكَّد ذلك بالضمير { هُمُ } ليفيد التأكيد والحصر ، يعني هم لا غيرهم .
ولم يقل الله عز وجل :
( وهؤلاء هم الخاسرون )
قال :
{ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } البقرة27
” هؤلاء ” اسم إشارة للقريب .
” أولئك ” اسم إشارة للبعيد .
بمعنى أن هؤلاء بعدوا بعدا عظيما في خسارة لا حصر لها .
( ومن الفوائد )
” أن الإفساد في الأرض نوعان ” معنوي وحسي “
الإفساد الحسي / أن يأتي مثلا إلى المنازل وتدمر ، إلى الأشجار وتقتلع ، إلى الدماء فتهدر ، إلى الأعراض فتنتهك .
الإفساد المعنوي : هو إفساد الأرض بفعل ما حرَّم الله وبترك ما أوجب الله “
وإذا وقع الإفساد المعنوي على أثره يقع الإفساد الحسي .
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم :
( اتقوا الشح ) والشح فساد معنوي ( فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم )
إذاً ما ذكر من صفات هنا أي نوع من أنواع الفساد ؟
” الفساد المعنوي “ وإذا حصل الفساد المعنوي وقع على أثره الفساد الحسي “
ما الدليل على أن الفساد المعنوي ينجم منه فساد حسي ؟
في هذه السورة ، قال تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } البقرة204
يعجبك قوله { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ }المنافقون4
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }البقرة204
ما الذي يترتب على ذلك ؟
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ } البقرة205
( ومن الفوائد )
أن قوله :
{ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }البقرة27
عام ، هل قال : { أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو في القبر ؟
فالخسران عام .
لو قال قائل / ماذا خسروا في الدنيا ؟ مع أن عندهم الأموال ؟
خسروا حلاوة الإيمان ، خسروا الحياة الطيبة ، لأن الماديات ما تغني الإنسان ولا تفيده ، قال عز وجل :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } النحل97
إذاً / من لم يؤمن بالله ولم يعمل صالحا فحياته حياة سوء ، ولذلك قال عز وجل في سورة ” طه ” :
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } طه124
لو قال قائل / ما هي الخسارة التي خسروها في الآخرة ؟
خسروا أنفسهم وأهليهم ، لأنهم أهلكوها إلى النار ، وخسروا أهليهم بعدم مصاحبتهم في الجنة .
خسروا منازلهم التي في الجنة .
ولذلك قال عز وجل لما ذكر صفات المؤمنين في أول سورة المؤمنون ، قال :
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } المؤمنون10
من ضمن الإرث ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم :
( أن المؤمن يرث منزل الكافر في الجنة )
يعني كانت هناك منازل لهؤلاء لو أنهم أطاعوا الله أخذوها يرثها أهل الجنة .
فعلينا عند قراءة هذه الآيات أن نتـأمل وأن تدبر ، ففيها من العبر والفوائد ، وفي ربطها بالآيات الأخرى الشيء الكثير
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ” متى نفتح المصحف “؟
كيف تصل إلى هذه المعاني والقرآن لا يقرأ إلا فيما ندر ، فهذه المعاني من يقف عليها تزيده إيمانا ، بل حلاوة ، ألا يشعر أحدكم بحلاوة ؟
عتبة بن ربيعة لما قال قومه اذهب إلى محمد فحاوره ، فقال إن كنت تريد مالا أعطيناك مالا حتى تكون أكثرنا مالا ، إن أردت سيادة سودَّناك علينا ، إن أردت زواجا زوجناك بأجمل نساء العرب “
فقال صلى الله عليه وسلم ” أفرغت أبا الوليد ” ؟
فقرأ عليه أول سورة ” فصلت ” فلما بلغ قوله تعالى { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فصلت13
فأمسك عتبة بفم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ” أنشدتك الله والرحم ألا تكمل “
خاف، فلما رجع قال أبو جهل : والله لقد أتاكم عتبة بغير الوجه الذي ذهب به !
فلما رجع قال ” والله سمعت كلاما ليس بكلام السحر ولا بكلام الشعراء ولا بكلام الكهنة ، والله إن له لحلاوة ” وهو كافر فجلس في بيته ، وكان أبو جهل سليطا ، كان إذا رأى شخصا قد آمن سلَّط الناس عليه فلا يشترون من تجارته حتى تبور ، فقال لعتبة لعل محمدا أعطاك شيئا من المال فتأثرت به ؟ فعاد .
وهذا يدل على ضعف الإنسان بسبب البيئة التي يعيش فيها .
محل الشاهد / أن الإنسان إذا قرأت كلام الله عز وجل يجد حلاوة .
قال عتبة ( إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلا عليه “
فيجب علينا أن نعود إلى كلام الله حتى نسعد ، ولذلك ما سعد الصحابة رضي الله عنهم هذه السعادة ولا سطروا لنا أروع القصص إلا لكونهم مرتبطين بكلام الله عز وجل .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .