التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الرحمن )
الدرس (242 )
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الرحمن، وهي من السور المكية…
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2)} ذكر الله اسمه الرحمن؛ ليرد على كفار قريش الذين قالوا {وَمَا الرَّحْمَنُ}، {عَلَّمَ الْقُرْآَنَ} من رحمة الله أنه أنزل هذا القرآن، وعلم الناس هذا القرآن عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام {عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} من نعمه عز وجل على الإنسان أنه خلقه خلقه وعلمه البيان، {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} يعني أنه يفصح عما في قلبه، وليس المقصود الفصاحة المعروفة في اللغة العربية؛ لأن تلك الفصاحة إن لك تكن في خير، وإلا فإنها تكون وبالا على صاحبها، ولذلك ثبت ثبت قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن من البيان لسحرا”.
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} يعني يجريان بحساب منتظم دقيق وقد مر معنا توضيح ذلك.
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} النجم قال بعض المفسرين هو النبات الذي لا ساق له، والشجر الذي له ساق، وقال بعض المفسرين النجم هو المقصود الذي في السماء، والشجر هو المعروف، وعلى كل حال لا تعارض بينهما {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} ومر معنا سجود هذه الأشياء لله.
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} رفعها وأحسن بناءها {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} يعني وضع الميزان، ولذلك قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}
{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} يعني ألا تتجاوزوا الميزان والعدل في أقوالكم وفي أفعالكم، {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} يعني بالعدل إذا وزنتم للناس، {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} يعني لا تنقصوا الناس أشياءهم.
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} يعني للخق من باب أنه مهدها وسهلها {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}.
{فِيهَا} وهذه دلائل وعبر على عظم الله، ويجب أن يوحد الله، ومن ثم قال عز وجل {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} فيها الفواكه {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} ومن ثم هل النخل من ضمن الفاكهة أم لا؟ لأنه أفرد هنا، مر معنا توضيح ذلك في سورة المؤمنون، فقال تعالى {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} يعني ذات الأكمام وهي المواطن التي يطلع منها ثمار النخل.
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} الحبوب التي يقتاتها الناس من قمح وشعير ونحو ذلك، {ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} من أنه عليها القشر، قشر هذه الحبوب، وقيل {ذُو الْعَصْفِ} يعني التبن {وَالرَّيْحَانُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الريحان المقصود منه في القرآن الرزق، وقال بعضهم هو الطيب ذو الرائحة الطيبة، ولا تعارض، {وَالرَّيْحَانُ} يعني رزق، وأيضا طيب.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي بأي نعم من نعمكا أيها الإنس والجن تكذبان، ولذلك ثبت في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة على أصحابه قال: ” إن الجن كانوا أحسن جوابا منكم، قالوا: وماذا قالوا يا رسول؟ قال لما قرأت عليهم هذه الآية قالوا: ولا في شيء من نعمك وآلائك ياربنا نكذب، فلك الحمد”، ولذلك يُسنّ قول هذه عند مرورك بقوله {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)}
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} الصلصال كالفخار يعني خلقه لأنه من تراب، ثم تطور إلى الصلصال الذي له صوت، وأصبح هذا الفخار الذي يكون من الفخار المعروف إذا وضع في النار، فإنه يكون صلبا، ويكون له صوت، ومر معنا توضيح ذلك في أول سورة الحجر {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}
فقال الله {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ} يعني الجن {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} {مِنْ مَارِجٍ} يعني من لهيب مختلط، لهيب صافي {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وهذه الآية تكررت كثيرا في هذه السورة، ولكن لتعلم أن هذه الآية إن جاءت بعد آية كونية تدل على أن الآية الكونية نعمة من الله، إن أتت بعد آية شرعية تدل على ماذا؟ على أنها نعمة من الله، إن أتت فيما يتعلق بعقاب دنيوي أو أخروي فالمقصود من ذلك أنها نعمة، لم؟ لأن الله حذر عباده عن طريق رسله، وبإنزال كتبه من هذه الأمور التي تودي إلى العذاب، فقد قامت حجة الله على خلقه، إذ هذه من أعظم النعم لكنهم كفروا، ومن كفر فإنما إثمه على نفسه.
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي مشرق الشمس في الصيف والشتاء، ومغربها في الصيف وفي الشتاء، ومر معنا الجمع بين ذلك الإفراد والتثينة والجمع في أول سورة الصافات، {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)}.
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} يعني أرسل البحرين {يَلْتَقِيَانِ} يلتقي أحدهما بالآخر، المالح مع الحلو، ومع ذلك {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} يعني حاجز مما قدره الله {لَا يَبْغِيَانِ} لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يختلط أحدهما بالآخر، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} قال بعض المفسرين من أحدهما، وهو المالح، وقال بعض المفسرين ومر معنا من أنهما يخرجان أيضا من الحلو كما قال تعالى وبينا ذلك {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} قيل هو صغار اللؤلؤ، وهذا يدل على عظيم نعمة الله إذ يسر لهم أن يستخرجوا هذه الأشياء من قاع البحار، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)}
{وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن {الْمُنْشَآَتُ} يعني أن الحدائد والأقلاع والشرع من أنها رفعت {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} مثل الجبال {وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)}
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} على الأرض، وحتى من في السماء، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وفيه إثبات صفة الوجه لله بما يليق بجلاله وبعظمته، ولذلك في هذه الآية رد وقد بينَّا ذلك في سورة البقرة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وفي هذا رد على من قال إن الوجه بمعنى الذات؛ لأن الله قال {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} يعني هل يبقى ذات ربك هنا؟ ماذا قال في ختام الآية {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} {ذُو} يعني هنا صفة للوجه، دلَّ على أن لله وجها يليق بجلاله وبعظمته، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} لو كان المقصود الذات لقال ” ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام” لما قال {ذُو} أي ذو الجلال والعظمة {وَالْإِكْرَامِ} يعني أنه يكرم أولياءه، وهو عز وجل مكرم ومكرم وجهه عن كل ما لا يليق به، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}.
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الجميع محتاج إليه حتى من في السماء {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يعني كما جاء بذلك الحديث: ” يغفر ذنبا يفرج هما” فالله له في كل يوم تقدير يومي، ولذلك مر معا في أول سورة الدخان {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ومر معنا بيان التقديرات، فقال الله هنا {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} يعني سنقصد إلى محاسبتكم، وليس معنى ذلك أن الله كان به شغل، تعالى الله عن ذلك، وإنما كما يقول القائل: سأفرغ لك لمحاسبتك مع أنه ليس في شغل أصلا، يعني سنقصد محاسبتكم {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} من الإنس والجن، وسموا بهذا الاسم؛ لأنهما يثقلان بالذنوب، أو لأن لهم ثقلا في الأرض، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني من جوانب السموات والأرض {فَانْفُذُوا} يعني اخرجوا، وهذا كما قال بعض المفسرين قال: في الدينا يعني إن استطعتم أن تخرجوا خوفا وهروبا من الموت فلتفعلوا، ولن تفعلوا قال تعالى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وهناك قول آخر، ولعله هو الأنسب في السياق من أن هذا في يوم القيامة إن استطعتم أن تهربوا من عقاب الله يوم القيامة من أقطار السموات والأرض {فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} يعني إلا بقوة وبحجة، وليس لكم ذلك، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ويؤكد هذا الرأي أنه قال بعدها {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} يعني لو أردتم الهروب {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} يعني لهب من نار {وَنُحَاسٌ} النحاس في لغة العرب يطلق على الدخان، وقال بعض العلماء نحاس المراد منه النحاس المعروف المذاب، ولا تعارض بينهما، {وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} لن تنتصرا حتى تتخلصا من عذاب الله، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً} تنشق السماء {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} كما قال تعالى {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} وردة كالدهان يعني وردة يعني أنها تحمر مثل احمرار الوردة {كَالدِّهَانِ} يعني أنها تذوب {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} تذوب كذوبان الدهن، فقال الله {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)}
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لا يسأل سؤال استعلام؛ لأن الله أحاط بكل شيء علما، وإنما هو سؤال توبيخ وتحقير، أو في القيامة مقامات، يسألون في موطن، ولا يسألون في موطن آخر، وبينا ذلك في مواطن سابقة، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} يعني بعلامتهم من سواد الوجوه، وزرقة العيون، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي} وهي مقدمة الرأس {وَالْأَقْدَامِ} يعني الأقدام، وهذا يدل على قوة التمكن، يعني تأخذهم الملائكة، وترمي بهم في النار، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}
{هَذِهِ جَهَنَّمُ} يقال لهم {هَذِهِ جَهَنَّمُ} {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44)} كما قال تعالى {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)}، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44)} يعني ماء شديد الحرارة، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)}
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} من خاف القيام بين يدي الله فله جنتان {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} يعني بها أغصان نضرة وجميلة{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} يعني أن العينين تجريان فيهما{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} يعني من كل فاكهة صنفان من باب ماذا؟ من باب التلذذ، قد يكون من باب أن هذا رطب، أو هذا يابس، أو يكون هذا لون، وهذا لون آخر، الله أعلم بحقيقته، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} يعني على فرش يتكئون عليها {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو الحرير الذي هو الغليظ فكيف بالظاهر يكون أعظم، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} يعني ثمار هاتين الجنتين {دَانٍ} يعني قريبة، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} يعني قصرن أعينهن على أزواجهن، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} يعني لم يجامعهن {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)}.
{كَأَنَّهُنَّ} من حيث الصفاء والبياض والرقة {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)}
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} الاستفهام هنا ليس جزاء الإحسان إلا الإحسان، لما أحسنوا العمل أحسن الله إليهم، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال بعض المفسرين {وَمِنْ دُونِهِمَا} يعني من غيرها يعني لهما مع الجنتين السابقتين لهما هاتان الجنتان، لكن الذي عليه أهل التحقيق من أن الجنتين السابقتين لمن؟ للمقربين للسابقين، وأما هذه فلأصحاب اليمين، فقال {وَمِنْ دُونِهِمَا} يعني من دونهما في الفضل {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)}
{مُدْهَامَّتَانِ} يعني أنهما شديدتا الخضرة؛ لكثرة ما ارتوت هاتان، فإنها من يراها قد اشتد خضرتها إلى السواد مما يدل على أن الري فيها عظيم، {مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)}
{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} يعني فوارتان، ولذلك هذا يدل على قول من يقول إنها لأصحاب اليمين؛ لأنه قال في الجنتين السابقتين {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} وقال في الجنتين السابقتين {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، قال هنا {مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)}.
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} يعني فيهما الفاكهة والنخل والرمان، ومن ثم مر معنا هل النخل يكون من الفاكهة أم لا؟ في أول سورة المؤمنون، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
{فِيهِنَّ} يعني في جميع الجنات الأربع {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} من حيث الأخلاق {حِسَانٌ} يعني جميلات، {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)}.
{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} يعني يمكثن في الخيام لا يخرجن مما يدل على عظيم صفاتهن وأخلاقهن، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73)}
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} لم يجامعهن قبل ذلك إنس ولا جان {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} يعني متكئين على رفرف يعني على مساند على مساند ألوانها خضر {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} يعني أنهم يجلسون على البسط الحسان عبقري حسان، والعبقري هو النادر كما يقال هذا عبقري، عبقري حسان يعني في الحسن والجمال، {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} كثر خير الله، وثبت خير الله، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} قال هنا {ذِي الْجَلَالِ} هنا قال {ذِي} لأن مرجعها إلى ماذا؟ إلى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} هنا {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} جرّها دل هذا على أن قوله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} يعود إلى الوجه، فدل هذا على أن الوجه ليس هو الذات كما ذهب من ذهب إلى من عطل صفات الله، فلله ما يليق بجلاله وبعظمته….
وبهذا ينتهي تفسير سورة الرحمن…………