تفسير سورة السجدة كاملة الدرس (205 )

تفسير سورة السجدة كاملة الدرس (205 )

مشاهدات: 735

بسم الله الرحمن الرحيم

الشيخ زيد البحري تفسير سورة السجدة كاملة

الدرس (205)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري البحري

﴿الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)﴾

 

تفسير سورة السجدة وهي من السور المكية ﴿ألم﴾ مر معنا في أول سورة البقرة ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فهو لا شك فيه ولا ارتياب كما قال تعالى ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة:2] منزل من رب العالمين ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ بل أيقولون افتراه أي اختلقه محمد ﴿بَلْ﴾ هذا إضراب لكلامهم السابق ﴿بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ والحق من ربك من أجل ماذا؟ ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ جاء في سورة القصص ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[القصص:46] ففي هذا القرآن إنذار لمن أراد الهداية والتذكر وقد مر معنا تفسيرها في سورة القصص.

 

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(6)﴾

 

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ومر معنا مفصلاً فيما يتعلق بالاستواء استواء يليق بجلاله وبعظمته وما يتعلق بذلك في سورة الأعراف ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ﴾ يعني يأتيكم بالخير ﴿وَلا شَفِيعٍ﴾ أي لا أحد يشفع لكم إلا بإذنه ﷻ ورضاه عن المشفوع له، فلا أحد يمكن أن ينفع أحد إلا بأمر الله ﷻ ﴿أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ أين تذكركم؟.

﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ﴾ كما قال تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق:12] ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ يعني يصعد إليه ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ هنا أقوال لأهل العلم قال هنا ألف سنة مما تعدون في سورة المعارج ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾[المعارج:4] فما هو الجمع بين الآيتين؟ قال بعض العلماء إن هذا أمر يتعلق بالدنيا بمعنى أن الأمر من الله ﷻ تنزل به الملائكة من السماء إلى الأرض ثم تعرج الملائكة في يوم، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة من حيث النزول، ومن حيث الصعود خمسمائة سنة فالمجموع ألف.

أما قوله ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج:4] المسافة ما بين أسفل الأرض إلى أعلى ما يكون من السموات مما يصل إليه جبريل عليه السلام هذا مقدار خمسين ألف سنة.

 وبعض المفسرين قال: إن هذا يخص يوم القيامة كيف؟ قال: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج:4] بمعنى أن يوم القيامة يكون طويلًا على ناس بمقدار ألف سنة من شدة العذاب، وعلى أناس خمسين ألف سنة وهذا يدل عليه ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ

تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾[المعارج:2-4] وجاءت أحاديث ببيان ذلك.

 لكن لو قال قائل إذا كان هذا العسر والشدة في يوم القيامة ألف سنة على ناس وخمسين ألف سنة فما هو حال المؤمن؟ مع أن الله ﷻ قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[الانشقاق: 7-8] وقال الله ﷻ  ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾[الفرقان:24] دل على أنهم يدخلون الجنة في نصف النهار في وقت القيلولة، فالجواب عن هذا أنه يكون خفيفًا على أهل الإيمان حتى جاء في مسند الإمام أحمد قال ﷺ: عَنْ  أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ : يَوْمًا كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا “ وفي رواية عند غير الإمام أحمد مقدار وقت صلاة وذلك لسهولتها.

وهذا الحديث اختلف فيه بعض أهل العلم منهم من حسّنه كابن حجر وجوّد إسناده العيني أيضا ومنهم من ضعفه، لكن ممن يؤكد سهولته ما ثبت وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن يوم القيامة يخفف عن المؤمن قال كما تتدلى الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب، يعني يكون الوقت من حين ما تبدأ الشمس وتقرب من الغروب إلى أن يغيب القرص كله، ما أقل هذا الوقت فهذا هو الجمع بين الآيتين وهذان القولان وهناك أقوال أخرى لكن هذه أوضح وتكون الأدلة مؤيدة لها ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ ولذلك أيام الشقاء بطيئة على الإنسان.

﴿ذَلِكَ﴾ الذي قدر هدي الأشياء من؟ ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ عالم ما يغيب عنكم وما تشاهدونه ﴿الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ فهو قوي ورحيم رحم عباده.

 

﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)﴾

 

﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ خلقه هنا فعل ماضي، قراءة أخرى ﴿خَلْقَه﴾ لماذا لم يقل ﴿خَلْقَه﴾ في هذه القراءة؟ هنا خلقه يعني فعل ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ آدم عليه السلام ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾ ذريته ما يتناسل منه ﴿مِنْ سُلالَةٍ﴾ من خلاصة ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ وهو المني مهين ضعيف ولذلك قال ﷻ ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ [الإنسان:1-2] مختلطة بين الذكر والأنثى.

﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ فجعله حسن القامة ومتكامل الأعضاء ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ وأضاف الروح إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه ومر معنا ذلك مفصلا في أواخر سورة النساء ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾[النساء: 171] فقال هنا ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ يعني ألا تتأملون في خلقكم وفي بداية خلقكم ولذلك قال بعدها ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ جعل الله لكم هذه الحواس من أجل أن تتدبروا وأن تبصروا وأن تفهموا لكن قليل منكم من يشكر الله ﷻ ولذا قال تعالى ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[النحل:78].

 

﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(11)﴾

﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ﴾ يعني غبنا في الأرض وصرنا عظاماً ورفاتاً وغبنا في الأرض ﴿أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يستغربون ذلك يعيدهم الله ﷻ مرة أخرى يقولون إذا كنا مثل التراب وأكلتنا الوحوش وما شابه ذلك ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ كفروا بهذا اليوم.

﴿قُلْ﴾ قل يا محمد لهؤلاء ﴿يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ بأمر الله ﷻ  ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ يعني المرد إلى الله ﷻ، مر معنا في قوله تعالى ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ﴾[الأنعام:61] الجمع بين هذه الآيات نسبت إلى ملك الموت ونسبت إلى الملائكة ونسب إلى الله، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[الزمر:42] فملك الموت سبب جعله الله ﷻ  سببًا بأمره فقال الله ﷻ  ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ قل يا محمد لهؤلاء ﴿يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ ولذا بعض الناس ممن يروج للاستغاثة بغير الله وما شابه ذلك يقول كما أنكم تقولون ملك الموت هو سبب وجبريل نفخ في جيب درع مريم وكان سبباً فيقولون إذاَ هؤلاء لما نأتي إليهم ونتبرك بهم ونستغيث بهم هم أسباب، فنقول سبحان الله هذه أسباب جعلها الله ﷻ أسباباَ نص الشرع على أنها أسباب، لكنكم اختلقتم أسباباَ من قِبَلِكم، بل إن هذه الأسباب التي تقولونها هي أسباب نص الشرع على أنها أسباب غير شرعية فلا حجة لكم لأن القرآن بين أن من يدعو غير الله فيستغيث بغير الله أو يتوسل بأحد من هؤلاء الموتى وما شابه ذلك فقد عرض توحيده للخطر وناقض توحيده فقال هنا ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾.

 

﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)﴾

﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا﴾ يعني قد نكسوا رءوسهم من فوق إلى أسفل مما يدل على الخضوع والذل ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ولو هنا للشرطية والجواب محذوف، يعني لرأيت أمراَ عظيمًا يعني لو رأيت المجرمين في تلك الحال لرأيت أمرًا عظيمًا ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ رأينا العذاب وأبصرناه وسمعنا ﴿فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ لكن هذا اليقين لا يفيد ولذلك في سورة لقمان قال الله ﷻ  ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾[لقمان:4] أما هذا اليقين بعدما رأيتم العذاب فلا ينفع، ولذلك كما أنهم يتمنون الرجعة، كذلك يتمنون الرجعة عند الموت كما قال ﷻ  عن هؤلاء ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾[المؤمنون:99-100].

﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ لو شاء الله لهدى الناس كلهم ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ﴾ أي من الجن ﴿وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وهذا لحكمته وقد مر معنا توضيح لهذه الآية في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:148]

وجمعنا هناك جمعاً حسنا، حتى لا يقال أن الله ﷻ ظلم عباده.

فيقال لهم ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ نسيتم هذا اليوم وتركتموه وأهملتموه ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ كما قال ﷻ ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه:126] تترك في العذاب وبينا ما يتعلق بالنسيان وأنواعه ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ لا خروج منه ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بسبب أعمالكم السيئة.

 

﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(19)﴾

﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا﴾ تعظيماً لله ﴿وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ نزهوا الله ﷻ عما لا يليق به وحمدوا الله لما له من الصفات العظيمة ﴿وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ليس كحالكم تستكبرون في الدنيا ﴿تَتَجَافَى﴾ صفة أهل الإيمان تتجافى يعني تتباعد ﴿جُنُوبُهُمْ﴾ جنب الإنسان ﴿عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ يعني عن أماكن النوم يقومون ويتركون الراحة والنوم من أجل أن يصلوا لله ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ بين الخوف وبين الرجاء خوف وطمع ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ هذا فيما يتعلق بأموالهم ينفقون، وحالهم مع الصلاة هذا هو حالهم.

﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ أخفى الله ﷻ نعيم هؤلاء ولذلك في الصحيحين قال الله ﷻ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} “ فقال الله ﷻ ﴿من قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ أي ما تقر به أعينهم وتسر به أعينهم ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ولذلك قال بعض العلماء لما أخفوا أعمالهم أخفى الله نعيمهم حتى يسعدوا به في يوم القيامة.

 

﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ هل يستويان؟ قال بعدها ﴿لا يَسْتَوُونَ﴾.

إذاً ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾ يأوون إليها ﴿نُزُلًا﴾ أي مكان يعد لهم وينزلون فيه ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ بسبب أعمالهم.

 

 

 

 

 

 

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)﴾

 

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ وهو فسق أكبر وهو الكفر الأكبر ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ مثواهم النار ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ﴾ وكرر كلمة النار من باب توبيخهم، أو أن هذا القول يقال لهم مكرراً بكلمة النار مرتين ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ بسبب تكذيبكم.

﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى﴾ العذاب الأدنى يعني ما يكون في الدنيا من أمراض وبلايا وما شابه ذلك ﴿دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ﴾ من أجل ماذا؟ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى الله ﷻ.

ولذلك بعض المفسرين قال: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى﴾ أي عذاب القبر لكنه بعيد عندي لأنه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لأنهم إذا ماتوا لن يرجعوا مرة أخرى إلى الدنيا حتى يحسنوا العمل.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ وهذا يدل على أنه لا أحد ﴿أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ يعني أن التذكير مستمر ومع ذلك عنده الإعراض، ولذلك أتى بثم التي تدل على التراخي للزمن ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ لم يقل إنا منتقمون منهم لكي يصفهم بالإجرام ولأن كل مجرم سينتقم الله منه.

 

 

 

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(25)﴾

 

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني التوراة ﴿فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ قال بعض المفسرين فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ليلة الإسراء والمعراج، وقال بعض المفسرين فلا تكن يا محمد في مرية من لقاء موسى لهذا الكتاب فكما تلقاه موسى عن رضا وعن قبول أيضًا أنت تقبل هذا القرآن عن رضا وقبول.

﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾ قال بعض العلماء موسى وقال بعض العلماء التوراة ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ولا تعارض بينهما لأن التوراة هدى وموسى عليه السلام بما أتى به من الآيات هو أيضًا هدى.

فقال ﷻ  ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ﴾ يعني من أهل الكتاب ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ يهدون الناس بأمرنا بشرعنا وبتقدير منا وبأمر منا ﴿لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ جمعوا بين الصبر وبين اليقين، الصبر عن معاصي الله واليقين بما عند الله، وهذا يدل على أنهم صرفوا أنفسهم عن الشهوة لقوله ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ وصرفوا أنفسهم عن الشبهات التي تخل بالتوحيد وذلك باليقين، وإذا كان هذا صادقًا على أهل الكتاب فيصدق على أمة محمد ﷺ، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله قال: من أراد أن يكون إمامًا في الدين فعليه بأمرين؛ الصبر، واليقين.

 

﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ دل هذا على أن من بين أهل الكتاب من لم يؤمن ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يحكم بينهم يوم القيامة ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ فيما يتعلق باختلافهم بعيسى بمريم كما ذكر ﷻ وبينا ذلك في السور السابقة.

 

 

﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)﴾

﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ أو لم يهد لكفار قريش ويتبين لهم كم هنا خبرية كم هنا للتكثير ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ يعني تمشي كفار قريش في مساكن هؤلاء لما يذهبون إلى الشام وإلى اليمن في ديار عاد، ديار ثمود ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ فيما أجراه الله ﷻ على هؤلاء المكذبين لو كانوا يبصرون ﴿أَفَلا يَسْمَعُونَ﴾ أفلا يسمعون سماع تفهم وتدبر إذا قرأ النبي ﷺ ما ذكره الله ﷻ من هلاك الأمم السابقة.

 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ التي ذهب شجرها إما بأكل الأنعام والناس لها، أو انها تَلِبت ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ﴾ يعني المطر ﴿إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ﴾ مع أنه لا نبات به ذهب وزال ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ﴾ الانعام يعني البهائم ﴿أَفَلا يُبْصِرُونَ﴾ هذه الدلائل تدل على أن الذي أحيا هذه الأرض قادر على أن يحييكم.

 

﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ(30)﴾

 

﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعني أنت تقول يا محمد سينزل بكم العذاب ويكون الفتح بيني وبينكم وسيحكم الله بيني وبينكم أين هذا العذاب الذي تقوله؟ ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ويقولون للمسلمين أنتم تقرؤون علينا ذلك فأين هذا الفتح؟ أين هذا العذاب؟ ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يعني لا يمهلون بتوبة أو ما شابه ذلك لأن من رأى العذاب فإنه لا ينفعه إيمانه ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾[غافر:84-85].

قال بعض المفسرين الفتح هنا فيما يتعلق بغزوة بدر وقيل في غزوة مكة المهم شامل يعني إذا رأوا عذاب الله في الدنيا مما أنزله بهم أو في يوم القيامة ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ قل يا محمد لهؤلاء ﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ لا يمهلون ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ولا تلتفت إلى هؤلاء ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ﴾ أنت تنتظر وهم ينتظرون وسيحل بهم ما وعد الله ﷻ به هؤلاء.

وبهذا ينتهي الحديث عن تفسير سورة السجدة.