التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الصف ) الدرس ( 248 )

التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الصف ) الدرس ( 248 )

مشاهدات: 467

التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الصف )

الدرس (248 )

فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة الصف، وهي من السور المدنية….

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مرت هذه الآية في سورة الحشر، وكما في سورة الحديد….

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وذلك أن بعض المسلمين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لفعلنا ذلك، فلما نزل ما يتعلق بالجهاد إذا ببعضهم يضعف عن ذلك فقال الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وأيضا يدخل في ذلك أن يقول الإنسان فعلت وفعلت، وهو لم يفعل شيئا، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}.

{كَبُرَ مَقْتًا} المقت هو أشد البغض {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فهذا الفعل يدل على ماذا؟ يدل على أنه بغيض عند الله أشد البغض، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} لما بين ما هو أعظم الأعمال وهو الجهاد بيَّن هنا حال أهل الإيمان، وأن الله يحب قتالهم إذا كانوا متماسكين ومتراصين في الصف، مما يدل على تماسك وحدتهم، وعلى ائتلاف قلوبهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}  كأنهم كالبنيان الذي رص بعضه على بعض فهو متماسك، وهذا يدل على ائتلاف قلوبهم.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} قال لقومه وذلك لأن موسى عليه السلام من بني إسرائيل، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} {لِمَ تُؤْذُونَنِي} وقد آذوه كثيرا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه قال: ” لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر” لقد أوذي أذية كثيرة، وقد مر ما يتعلق بذلك في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}

{وَقَدْ تَعْلَمُونَ} يعني تحقق لديكم من أني رسول من الله، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا} يعني عن الهدى {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} والله لا يظلمهم لكمال عدله، لكن لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، فإنهم فعلوا، والجزاء من جنس العمل، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وذلك كما قال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}

{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الذين فسقوا، وذلك لأنهم لم يتعرضوا لرحمة الله.

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} لم يقل يا قوم، وذلك؛ لأنه لا نسب فيهم؛ لأنه ولد من غير أب، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} يعني من أني مصدق لما جاء في التوراة هذا فيما يتعلق بالماضي، وأما ما يتعلق بالمستقبل {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وسمي بهذا الاسم: قال بعض العلماء: لأنه يحمد الله أكثر من غيره، وقال بعض العلماء كابن القيم رحمه الله قال: لأنه أكثر ما يحمد من الناس لما فيه من الصفات العظيمة، وهذا رجحه ابن القيم رحمه الله، ولا شك أن له صفات عظيمة صلى الله عليه وسلم تليق به كمخلوق، ولذلك يحمد عليه الصلاة والسلام، وأيضا لا يتعارض مع القول الآخر، فإنه ولا شك من أنه عليه الصلاة والسلام من أعظم الناس حمدا لله، لكن قال ابن القيم: لو كان المقصود من أنه من أكثر الناس حمدا لله لسماه الله بالحمَّاد.

{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الضمير يعود إلى عيسى عليه السلام، وقيل يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا تعارض بين القولين، فإن اليهود كفرت بعيسى عليه السلام، وكذلك كفار قريش كفروا بالنبي عليه الصلاة والسلام، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}  سحر واضح وبيِّن.

 {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} افتروا، والافتراء هو أشد الكذب، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} يعني قد بينت له شعار الدين، فليس بجاهل، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فهذا يدل على أنهم ظلمة.

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} في سورة التوبة {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} وقال هنا {لِيُطْفِئُوا} في سورة التوبة حذفت اللام، وهنا {لِيُطْفِئُوا} فعل مضارع منصوب بأن بعد اللام، فقوله عز وجل {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ومر معنا تفسير لها أكمل وأشمل في سورة التوبة، وكذلك الآية التي بعدها مر تفسيرها تفسيرا أكمل وأشمل في سورة التوبة {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} لما بيَّن في أول السورة ما يتعلق بفضل الجهاد بين هنا من أن هناك تحارة عظيمة، من بين هذه التجارة الجهاد في سبيل الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} والاستفهام هنا للتشويق {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} ونكَّر{تِجَارَةٍ} لتعظيمها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.

ما هي هذه التجارة؟

{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قدم الإيمان بالله وبرسوله؛ لأنه لا يقبل أي عمل إلا بعقيدة صحيحة {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {ذَلِكُمْ} يعني تلك التجارة {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فافعلوا ذلك {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}  هنا يغفر جزم؛ لأنه جواب الشرط يعني إن تفعلوا ذلك يغفر لكم، {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} وهنا قال {وَمَسَاكِنَ} وذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بالهجرة وبالجهاد في سبيل الله حتى قتلوا عوضهم الله بمساكن طيبة {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي  في جنات ذات إقامة {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} هذا هو الفوز العظيم، ومر توضيح لهذه أكثر في سورة التوبة.

{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} يعني نعمة أخرى تحبونها، ما هي هذه النعمة؟ {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} على الأعداء {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} فتوحات تلك البلدان، ومن ذلك فتح مكة، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ثم عمم فقال {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فالمؤمنون لهم البشارة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} هنا أمروا بالاقتداء بمن سلف من الصالحين، ومر معنا ما يتعلق بالحواريين في سورة آل عمران، وفي سورة المائدة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} يعني من أنصاري في الدعوة إلى الله، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} فحصل بينهم قتال، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ} يعني قوينا، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} بالسيف وبالحجة، وهذا يشمل أيضا حتى يعم القول  الآخر من أن من كان على دين النصارى فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، فإن له النصر، ولذلك انتصر النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود، ولذا قال تعالى {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}

{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}..

وبهذا ينتهي تفسير سورة الصف….