قصة هذه البقرة مذكورة في قوله تعالى {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }
الله سبحانه وتعالى أراد من عباده أن يتدبروا القرآن وأن يتمعنوا فيه ، لأن القارئ للقرآن حينما يقرأ { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } يرتابه سؤال ، تُرى ما قصة هذه البقرة وما شأنها ؟ فيكون حاضر القلب ، وإذا أحضر قلبه إذا به يقف على السبب ، ولذلك أتى السبب في آخر ما ذُكر في هذه القصة
ذلك بأن هناك قتيلا في بني إسرائيل لم يُعلم قاتله ، جُهل القاتل ، فأتوا إلى موسى عليه السلام يسألونه ، فماذا قال لهم ؟
قال { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } سبحان الله ! هم يسألونه من هو القاتل ؟ وإذا به يأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فما علاقة البقرة بمعرفة القاتل ، ولذلك قالوا { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } ؟
فماذا قال ؟ { قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } وهذا يدل على أن الاستهزاء بالآخرين جهل ، فمن استهزأ بأخيه المسلم أو استهزأ بشيء فإنه يُعد من الجاهلين ، ولذلك قال موسى عليه السلام { قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فهم لم يدركوا الحكمة من ذبح هذه البقرة ، لأن العبد مأمور ورقيق لله سبحانه وتعالى ، وعليه أن ينفذ أوامر الله ، فإن علم بالحكمة فهذا خير على خير ، وإذا لم يعلم بالحكمة فماذا عليه ؟ عليه كمسلم أن يستسلم وينقاد لأوامر الله سبحانه وتعالى ، فلما استبان لهم كحقيقة ما أمرهم به ، بدءوا يستفصلون ، ماذا قال لهم ؟ { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } أي بقرة تأتون بها وتذبحونها وينتهي الأمر ، هم تشددوا فشدَّد الله عليهم ، فأتوا بأسئلة { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ } هذا سؤال عن سن هذه البقرة ، كيف عرفنا ؟ نقرأ ما بعدها ، ماذا قال ؟
{ لاَّ فَارِضٌ } يعني كبيرة ، كيف عرفنا أنها كبيرة ؟ بما بعدها { وَلاَ بِكْرٌ } فالبكر بينت الفارض ، وهي الطاعنة في السن التي لا تلد ، والبكر التي لم تلد قط ، وأما الفارض هي التي انقطعت عنها الولادة ، وهذه قاعدة يمكن أن يتخذها المسلم حينما يقرأ كلام الله سبحانه وتعالى فيمكن أن يفسر كلمة غامضة بما بعدها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، منها ما يُحفظ من كثير من المسلمين في سورة الضحى ، قال تعالى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى }الضحى8 ، ما معنى العائل ؟ الفقير ، ما الذي أدرانا ؟ ما بعدها { فَأَغْنَى }
قال تعالى في شهادة النساء : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }البقرة282 ،
ما معنى { أَن تَضِلَّ } هل هو الضلال والزيغ والميول عن الحق ؟ لا ، وإنما النسيان ، ما الذي أدرانا ؟ ما بعدها
{ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } والأمثلة على ذلك كثيرة .
{ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } معنى { عَوَانٌ } يعني وسط ، نصف ، لا كبيرة ولا صغيرة ، ولذلك العرب يطلقون العَوَن على المرأة التي تجاوزت إحدى وثلاثين سنة ( عانت المرأة عونا ) يعني إذا تجاوزت إحدى وثلاثين سنة ، لأنها في منتصف سنها وقوتها .
استشف موسى عليه السلام أنهم تعمقوا ، فماذا قال ؟{ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } لا تسألوا بعد هذا السؤال ، لكنهم لم يكتفوا بذلك ، أتوا بسؤال آخر عن لونها
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا } يعني أنها شديدة الصفرة ، هي صفراء ولكن مع ذلك اشتد اصفرارها ، ولذلك إذا أردت أن تقول أصفر شديد الصفرة تقول
( أصفر فاقع ) وإذا أردت أن تقول أحمر شديد الحمرة ( أحمر قانئ ) وإذا أرادت تصف شيئا أخضر بأنه شديد الخضرة ( أخضر ناضر ) إذا أرادت أن تصف شيئا شديد البياض ( أبيض بقق ) وإذا أردت أن تصف شيئا أسود شديد السواد تقول ( أسود حالك )
{ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } يعني من رآها يعجبه حسنها وجمالها .
هل اكتفوا بذلك ؟ لا ، سألوا سؤالا ثالثا
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } السؤال هنا عن صفة هذه البقرة ، أهي سائمة ترعى في الصحراء ؟ أم هي عاملة تستعمل في الزراعة والحرث ؟ { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } والله ليس في البقر تشابه ، ولكن لأسئلتهم تشابهت عليهم أنواع وأصناف البقر .
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } صح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد روي مرفوعا لكن فيه ضعف ، أنه رضي الله عنه قال ( لو لم يستثنوا لما وجدوها ) لكن لما قالوا إِن شَاء اللَّهُ هداهم الله إليها ، قالوا { وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } ماذا قال ؟
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ } يعني ليست مذللة للعمل ، ليست مهيأة لحرث الأرض { وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ } وليست مهيأة لسقي الحرث { مُسَلَّمَةٌ } أي سالمة من العيوب { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } أي ليس فيها لون آخر يخالط لونها الأول ، فماذا قالوا ؟ { قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } سبحان الله ! بعد ذلك التفصيل العميق
{ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } يعني جئت بالوصف الكامل والبيان التام { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } في أول السورة قال { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } دل على أن البقر يصنع بها كما يصنع بالغنم وهو الذبح ، أما الإبل فالنحر ، إذاً أردنا أن نذبح بقرة ، ننحرها أم نذبحها ؟ نذبحها .
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لم ؟ من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها
ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب في قصة هذه البقرة
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } يعني اختلفتم فيها { وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } يعني مخرج القاتل ، فلما ذبحوها ، ماذا قال ؟ { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } يعني خذوا عضوا من أعضاء هذه البقرة واضربوا هذا القتيل فيحييه الله سبحانه وتعالى ، فضربوه فأحياه الله سبحانه وتعالى ، ثم نطق وقال قتلني فلان ، ثم سقط ميتا .
{ كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى } كما أنه أحيا هذه النفس قادر على إحياء النفوس كلها ، قال تعالى {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } لقمان28
{ كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فدل على أن من التزم بآيات الله سبحانه وتعالى وبأحكام الشرع فإنه يكون من العاقلين ، ودل هذا على أن العبد إذا أراد أن يكون من العقلاء وأن يزداد عقلانية فعليه أن يرجع إلى ماذا ؟ إلى آيات الله سبحانه وتعالى ، ثم ما الذي جرى من هؤلاء بعد هذه الآيات والبينات والبراهين الساطعة ؟
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } لم يقل كالحديد ، مع أن الحديد أصلب ، فلماذا نص هنا على الحجارة مع أن الحديد أصلب من الحجارة ؟ قال العلماء صحيح أن الحديد أصلب من الحجر ، لكن الحجر لا يلين ، وأما الحديد يلين { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ }سبأ10، ألان الله سبحانه وتعالى لداود الحديد ، ثم ماذا قال سبحانه وتعالى مبينا أن الحجارة أرق من قلوبهم { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ } مثل ماذا ؟ وقد مر معنا في قراءة هذه الليلة { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا }البقرة60
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } فما يسقط حجر من علو إلى سفل فإن سقوطه خشية من الله سبحانه وتعالى ، ولذلك فالجمادات تخشى الله وتسبح الله وتعظم الله ، ونحن لا ندرك ذلك ، لكن الله سبحانه وتعالى يدرك ذلك ، ولذلك قال تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } الإسراء44 { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }النور41
ثم قال سبحانه وتعالى { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ليس بساهٍ عما تعمله أيها العبد ، إن عملت خيرا تجازى عليه خيرا ، وإن عملت شرا تجازى عليه شرا { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }إبراهيم42 .