تفسير قوله تعالى ( وعلى الذين هادوا حرمنا … ) سورة الأنعام (146 )

تفسير قوله تعالى ( وعلى الذين هادوا حرمنا … ) سورة الأنعام (146 )

مشاهدات: 869

تفسير قوله تعالى

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ }  الأنعام146- 147

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

أما بعد :

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } الأنعام146

الله جل وعلا لما ذكر ما هو محرم على هذه الأمة ، وهذا من باب الرحمة بهذه الأمة أن حرم عليها ما ذكر قبل هذه الآية

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } الأنعام145

لما بين ما كان محرما على هذه الأمة من الأطعمة ، وهذا التحريم منه جل وعلا لهذا الأمة خير لهم وشفاء لهم ، لأن هذه الأطعمة لو تناولها الإنسان لأفسدت عليه بدنه ، بينما ما حرمه الله عز وجل على اليهود إنما هو عقوبة ونقمة ، ففرق بين التحريمين ، ففي جانب هذه الأمة خير وعافية وشفاء وقوة ، بينما التحريم في جانب اليهود عذاب وابتلاء ونقمة وشر ، لأنهم حرموا من طيبات لذيذة .

{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ }

هذا هو الحيوان والطير الذي ليس بمشقوق الأصابع ، له  أصابع لكنها غير مشقوقة ، سواء كان من الحيوان أو من الطير، فالحيوان مثل الإبل ، مثل النعامة ، الطير مثل البط ، مثل الأوز ، هذه ليست بمشقوقة الأصابع ، فكل ذي ظفر محرم على اليهود .

إذاً الإبل محرمة بجميع ما فيها على اليهود .

وأما البقر والغنم فليست محرمة عليهم كلية ، قال تعالى :

{ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا }

إذاً المحرم عليهم في البقر والغنم هو الشحوم ، ولماذا الشحوم ؟ لأن الشحوم لها لذة ، وقد أدركت وأنا صغير في سن السابعة أن الناس إذا بدءوا بأكل الذبيحة بدءوا بالإلية ، بل يتلذذون بها تلذذا أكثر من اللحم ، لكن أنعم الله عز وجل على الناس في هذا العصر وتنوعت المآكل والمشارب ونتج من ذلك أن ظهرت أمراض أضعفت أبدان الناس ولم يستطيعوا أن يتناولوا هذا الشحم ولو أكلوه لأضر بأبدانهم ، وهذا لأن بطونهم ملأى ، لو كانت جافة كبطون أجدادنا وآبائنا لتناول الناس هذا ، ولكن من زيادة النعمة أصبح الناس لا يلتفتون إلى الشحم .

الشاهد من هذا أن الله سبحانه وتعلى حرم عليهم شحوم الغنم والبقر ، لكن ليست كل الشحوم { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا }

يعني ما كان من الشحم الذي على الظهر فلا بأس .

{ أوِ الْحَوَايَا }

يعني المصران ، تعلق بها الشحوم ، فهذا جائزة .

{ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ }

فأي عظم لصقت به شحم فإنه مباح أي هذا الشحم .

لو سألت عن الإلية أيجوز أكلها لهم ؟

الجواب / نعم يجوز أكلها ، إذاً المحرم عليهم ما كان في حواشي البطن ، وكذلك ما يكون ملصقا بالكرش ، فهذا شحوم تعلق بهذه الأشياء .

{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }

أي بسبب هذا البغي وبسبب الظلم الذي ذُكر في سورة النحل

{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ }

يعني ما ذكر هنا في سورة الأنعام

{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

هذا البغي الذي فعلوه وبسببه حرمت عليهم هذه المطاعم اللذيذة ، ما هو هذا البغي ؟

مذكور في سورة النساء ، قال تعالى :

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا {160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {161} }

فدل على أن الذنب سبب لإحلال عقوبة الله جل وعلا ، فلما عصوا الله عز وجل عاقبهم بهذه العقوبة ، وهي دعوة وتنبيه وإشارة لهذه الأمة أنها متى ما عصت الله عز وجل وإن لم يحرم عليهم هذه المطاعم تحريما شرعيا إلا أنه ربما يحرمها عليهم تحريما كونيا فيرفعها عنهم ، فإذا حلَّت الذنوب والآثام بالبلد فلا تسأل عن شقاوته { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } النحل112.

معصية واحدة قلبت موازين غزوة أحد ،وهم ممن ؟ من الصحابة رضي الله عنهم ، وطائفة منهم اجتهدت في هذا الأمر ، النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم ألا يبرحوا جبل أحد وأن يبقوا فيه مهما كانت الأمور ، لكنهم لما رأوا أن الكفار قد انهزموا وولوا مدبرين قالوا ذهب الكفار إذاً لنذهب إلى أخذ هذه المغانم ، لكن طائفة منهم بقيت ومع ذلك لما عصوا الله عز وجل بمعصية النبي صلى الله عليه وسلم انقلبت الموازين فأصبحت المعركة في كفة الكفار ، فكيف بمن يعصي الله عز وجل ليل نهار ، صباح مساء ؟

ثم إن الذنب وإن لم يأت على الناس كلهم قد يأتي على الشخص نفسه ، قد يكون الإنسان في عافية ، قد يكون الإنسان في غنى من المال ، قد يكون الإنسان في استقرار في بيته ، لكن إذا عصى الله عز وجل قد يسلط عليه ، ولذلك يقول الفضيل بن عياض ” إني إذا عصيت الله أرى ذلك في خلق دابتي وزوجتي ” ولذلك بعض السلف لما كان سائرا في طريق أتى إليه شخص وتلفظ عليه واعتدى عليه ، فقال يا هذا قف قليلا ، قال لم ؟ قال لأذهب إلى بيتي وأصلي لله صلاة التوبة لأنك ما سلطت علي إلا بذنب “

هذه قلوب حية يقظة تعرف أن ما أصابها إنما هو بسبب ذنوبها  {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }الشورى30، ولذا على المسلم أن يتأمل هذا الأمر ، ولذا في حديث وإن كان ضعيفا لكنه من حيث المعنى تدل عليه آيات وأحاديث أخرى ( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )

{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }

يعني ما أردنا أن نفعله فعلناه ، صادقون في إنزال العقوبة على من عصانا ، صادق جل وعلا فيما يخبر به ، وقد أخبرنا الله جل وعلا أن من عصاه فإنه سيعاقبه { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب }الأنفال25.

لكن الطغيان لا يولد إلا طغيانا ، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله كما في إغاثة اللهفان يقول ” إن الحسنة إذا عملها ابن آدم قالت الأخرى اعملني ، ثم الأخرى ثم الأخرى ، وإنه إذا عمل السيئة قالت الأخرى افعلني “

وهذا له دليل في القرآن { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم } محمد17، فتية الكهف {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }الكهف13 ، { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } مريم76 ، فالطغيان يولد طغيانا آخر ، ولذلك ليحرص ابن آدم ألا يصر على الذنب ، لأن الإصرار على الذنب يجعل العبد يستمرئ هذه المعصية ، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله ” بعض الناس من كثرة ما يعصي الله عز وجل يفعل الذنب من غير لذة ، لكنه أمر اعتادت عليه نفسه “

والإنسان يعجب من بعض الناس ، إذا تصفحت الإنترنت ترى بعض الأشخاص يقول ” نزلت إليكم المسلسل الفلاني لمن أراد أن يحمله ” سبحان الله ، ألا يكفيه ذنبه ؟ كيف يأتي بذنوب الآخرين ويحملها نفسه ، ما الذي يستفيد منه هذا الرجل حينما يضع أفلاما أو مسلسلات تغضب الله عز وجل فيحملها آخرون فيشاهدونها ماذا يجني ؟ يجني الشر ، ولذلك الطغيان يولد طغيانا ، حتى إن الإنسان كما قال ابن القيم رحمه الله ” يتكيف على هذه المعصية “

اليهود حرمت عليه الشحوم ، لكن ماذا صنعوا ؟

هم يظنون أنهم عقلاء ، أنهم أصحاب ذكاء ، بعض الناس يمكن أن يقتحم معاملات محرمة ويظن أنه ذكي لأنه استفاد من هذه المعاملات أرباحا ، وهو لا يدري أنه مسكين .

ماذا صنع اليهود ؟

قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوها ) يعني أذابوها ( فبعوها وأكلوا ثمنها ) يعني يقولون نحن ما أكلنا الشحوم ، وإنما صيرناها إلى شيء آخر ، وهذا من الخلل ، ولذا الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال اليهود ، ذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه ، قال تعالى :

{ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ }

يستميلهم إلى أن يتعرضوا لرحمة الله وأن رحمة الله جل وعلا واسعة ، وقدَّم هنا الترغيب من باب أن يرغبهم في الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء الترهيب

{ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }

يعني ما فعل باليهود وما فعل بالأمم السابقة سيحل بكم ، ولذلك قال تعالى عن قوة قريش { وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير } سبأ45، يعني ما بلغوا معشار ما أتاه الله عز وجل للأمم السابقة ، عاد ، ثمود ، من قوة وعظمة ، ومع ذلك أبادهم الله عز وجل بصيحة صاح بهم جبريل فأصبحوا خامدين .

والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .