قوله جل وعلا { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ } هنا فيه حذف ، فيه كلمة حذفت لتبين معنى الآية { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } فاختلفوا { فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ } إذاً كلمة ( اختلفوا ) حذفت لدلالة آية أخرى عليها ، قال تعالى في سورة يونس { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ } يونس19 ، فالناس من حين ما خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى أن بعث الله جل وعلا نوحا عليه السلام كانوا على ملة واحدة ، على ملة التوحيد
يقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون ، فلما ظهر الشرك في قوم نوح أرسل الله نوحا عليه السلام ) ونحن حينما نتأمل كلام الله سبحانه وتعالى نجد أن قوم نوح أعظم الملل التي طال مكث نوح فيها ولم يؤمن به إلا نفر قليل ، قد قست قلوبهم واشتدت ، وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن قوم نوح أتوا بعد تلك المدة الطويلة ، وهي عشرة قرون وكان الناس فيها على ملة التوحيد ، أتوا بعد تلك المدة التي فيها التوحيد ، أتوا وكفروا بالله سبحانه وتعالى واشتد كفرهم ، هذا دليل على أن الإنسان لو كان على خير واستقامة وعلى هدى ثم زاغ عن طريق الحق ، قد يصعب رجوعه مرة أخرى
وهذا شيء مشاهد حتى في الواقع ، شخص على هدى واستقامة وخير إذا زاغ بعض الشيء عن طريق الله ، يصعب أن يعود مرة أخرى ، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى العالم الذي يزيغ عن طريق الحق ، وصفه بأنه مثل الكلب { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ }معنى هذه الآية :
أن الكلب إذا وضعته في ظل ظليل ، أخرج لسانه لهثا ، وإذا أركضته وجريت خلفه ، كذلك الشأن يلهث ، فكذلك من ضل عن الطريق بعدما أتاه الله العلم والخير والهدى ، مثله كمثل الكلب يصعب أن تنفع معه الموعظة والذكرى ، ولذلك قوم نوح مكث فيهم عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاما ، ومع ذلك { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }هود40 ، حتى إنه عليه السلام لما رأى انصرافهم ، مع أنه نوَّع الدعوة { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا{5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا{6} وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا{7} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا{8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا }
لأن نوحا طال مكثه فيهم ، ومع ذلك لم يعودوا إلى الله سبحانه وتعالى .
ولذلك قال تعالى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً }
فما الذي جرى ؟
{ فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا مبشرين ومنذرين ، لم ؟
وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بالبشر ، لأن نفوس الناس تختلف ، وهذا شيء مشاهد حتى مع الأولاد في تربيتهم ، بعض الأولاد يمكن يسوقه الترغيب ، والبعض الآخر من الأولاد لا يسوقه إلا الترهيب { مُبَشِّرِينَ } بالخير { وَمُنذِرِينَ } عن الشر ، ولذلك المسلم لا يمكن أن تكون له جادة يسير عليها إلا بالرجاء والخوف ، لابد أن يكون سائرا بين الرجاء والخوف ، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ {50}
{ فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } من أنكر الرسل عليهم الصلاة والسلام أو أنكر واحدا منهم فقد كفر ، لأن الإيمان بهم أصل من أصول الإيمان الستة ، ومع ذلك إذا كفر ، فإنه لم يعظم الله عز وجل حق التعظيم
لأن من تعظيم الله عز وجل أن يرسل الرسل ، ولذلك قال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } يعني ما عظموا الله حق تعظيمه
ما السبب ؟
{ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } الأنعام91 ، ولذلك من أصول أهل السنة والجماعة ( أن من تعظيم الله عز وجل أن يرسل الرسل )
{ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني أنزل مع كل نبي كتابا ، ولذلك قال { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني أنزل الكتاب بالحق ، فكتب الله عز وجل لم تأت عبثا أو لهوا – كلا – ما أتت إلا بالحق وما نزلت إلا مع الحق { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }الإسراء105 ، فالكتب السماوية أتت بالحق وبالعدل ، وإذا أتت بالحق وبالعدل لا يمكن أن يسير الناس إلا على طريق الحق والعدل ، ومن أراد طريق الحق والعدل ماذا عليه ؟ عليه أن يتمسك بكتاب الله سبحانه وتعالى .
{ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ }
لم ؟
{ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } فيه دلالة على أن أي اختلاف يكون بين الناس لا يمكن أن يحل إلا عن طريق هذا الكتاب { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ }النساء59
من العجائب أن يكون الناس على خير وهدى ثم إذا أتاهم الكتاب الذي جاء بالحق تنازعوا فيه ، ولذلك قال سبحانه وتعالى { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ }
متى ؟
كان من المفترض أن يكون هذا الكتاب جامعا لقلوبهم وملما لشتات فرقتهم ، ومع ذلك انحازوا ، دل على ماذا ؟ دل على أن هناك خُبثا وخَبثا في نفوس هؤلاء المختلفين ، ما سبب هذا الخبث والخبث ؟ البغي والتطاول { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } ما السبب ؟
{ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي عدوانا وظلما بينهم ، والاختلاف حاصل في البشر
يمكن أن أختلف معك في أمر ، هذا شيء حاصل ولا يمكن أن ينكر ولا يمكن أن يكون الناس على اتفاق في رأي واحد ، قد أختلف معك ، لكم متى يكون هذا الاختلاف مذموما ؟ إذا كان من باب البغي ، ولذلك ما ترون من فرقة وشتات بين الدول الإسلامية فيما بينما ، الناظر يقول إن الحل بين هذه الدول وهذه الأمم سهل ويسير ، لكن لماذا تشعبت الفرقة بينهم وطالت بهم السنون إلا أن بقوا على حالتهم في الشتات والتفرق ، ما السبب ؟ أن هذا الاختلاف منشأه العدوان والبغي ، ولو أنهم صفوا نفوسهم واجتمعوا على كلام الله سبحانه وتعالى ، لصلحت أحوالهم كما صلحت أحوال الصحابة والسلف رضي الله عنهم ، ولذلك قال { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } كلٌ يريد أن يكون الحق معه ، كلٌ يريد أن تكون الولاية له ، ولكن إن كان مؤمنا تحصل له الهداية { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } انظروا إلى فائدة الإيمان وأنه يوصلك إلى الهداية ، وكلما ازددت إيمانا ازددت هداية ، ولا غنى للإنسان عن هداية الله ، فإننا بحاجة إلى هداية الله أكثر من حاجتنا إلى الطعام والشراب ، ولذلك نسأل الله في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ } وأن يجنبنا صراط اليهود والنصارى
{ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ } وهم اليهود
{ وَلاَ الضَّالِّينَ{7} } يعني النصارى
يعني { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } يعني بإرادته ومشيئته ، فإذا كنت مهتدياً فلا تظن أن هذه الهداية بيدك أو منك – لا – إنما هي فضل وكرم من الله سبحانه وتعالى إذ هداك وأضل غيرك ، فواجب عليك إذا حظيت وظفرت بهذه الهداية من الله سبحانه وتعالى أن تشكره وأن تثني عليه ، فإن أعظم النعم هي هداية الله سبحانه وتعالى للعبد
{ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هذه فيه تأكيد لما سبق ، من شاء الله أن يهديه إلى الصراط المستقيم هداه ، فليست لنا مشيئته في ذلك ، ولا شك أن لنا مشيئة وإرادة ، لكن مشيئتنا تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى
{ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهنا وقفة وهي أن صراط الله يوصف بأنه مستقيم
ما فائدة هذا الوصف ؟
فائدة هذا الوصف أن الصراط إذا كان مستقيما يحصل للسائر فيه الأمن ، وأيضا يصل بسرعة ، وأضرب لكم مثالا – ولله المثل الأعلى – مثالا في واقعنا ، الآن في الطريق الدائري إذا كان مستقيما في الصباح الناس يسيرون بهدوء وراحة ، يسيرون بسير في انسياب ، فيأمن ويتجنب الضرر ويصل إلى مكانه بسهولة ، لكن الطريق الدائري ينعطف أحيانا ، من حين ما تأتي هذه الانعطافة يحصل الزحام ، ولا يأمن الإنسان ويكون وجلا وتحصل حوادث ويتأخر عن عمله أو ما شابه ذلك ، هذا في الدنيا ، فإذا اعوج الطريق حصل ما حصل من هذه الأشياء ، لكن صراط الله وطريق الله مستقيم ، وهذا يدل على أنك متى ما سلكت طريق الله ماذا يحصل لك ؟ الأمن والهداية والراحة والسعادة والقرب من الله سبحانه وتعالى وتجنب المخاطر ، وهذا شيء مشاهد .