تقريب شرح السنة لعامة الأمة [ صحيح البخاري ] ـ كتاب الإيمان ـ الأحاديث( 18 ـ 19 ـ 20 ـ 21 )

تقريب شرح السنة لعامة الأمة [ صحيح البخاري ] ـ كتاب الإيمان ـ الأحاديث( 18 ـ 19 ـ 20 ـ 21 )

مشاهدات: 89

بسم الله الرحمن الرحيم

تقريب شرح السنة لعامة الأمة

صحيح البخاري ـ كتاب الإيمان

من الحديث (18) إلى (21)

فضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري

 1446/4/5  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) بابٌ:

18- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ- : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ -وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- : ” بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ” فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.

ثم ذكر المصنف رحمه الله فقال: بابٌ

هناك رواة عن البخاري رووا صحيحه بعضهم أثبت هذا -يعني أتى بكلمة بابٌ- وبعضُهم لم يأتِ بها، فمن لم يأتِ بها على أن الحديث الذي ذَكره وهو حديثُ عبادة بن الصامت تبع للباب السابق، لكن إذا ذُكر فقيل: (بابٌ) ولم يذكر شيئًا، لم يقل: بابٌ من الإيمان كذا، قال: بابٌ.

هذا القاعدة فيه إذا لم تُذكر له ترجمة يكونُ بمنزلة الفصل مما قبلَه مع تعلقه به؛ هو متعلق بالباب السابق، لكنه بمثابة الفصل كما يصنعه الفقهاء؛ الفقهاء يذكرون بابًا، ثم يقولون (فصل) مع أنه متعلق بما سبق.

(حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) من هو؟ الحكم بن نافع الحِمْصِي – مر معنا.

(قال: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) وهو ابن أبي حمزة الحِمْصِي.

(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم المدني.

(قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) يعني هو ذو عياذة بالله؛ يعني: يستجير بالله عز وجل، وهذا هو اسمه.

وأبوه عبد الله بن عمرو صحابي رضي الله عنه، فأبو إدريس كنية له؛ اسمه عائذُ الله.

الإسناد كله شاميون، فالزُّهْرِي وإن كان مدنيًا فقد سكن في الشام، وكذلك عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا) بدر هي الوقعة التي حصلت بين النبي عليه الصلاة والسلام وكفار قريش.

(وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ) جمع نقيب؛ وهو كبيرُ القوم ورئيسُهم، ولذلك قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة:12] أي: رئيسًا؛ سمي بالنقيب لأنه يعلم خفايا قومِه؛ من التنقيب.

(وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ) أي: ليلة العقبة بمنى لما حضر طائفة من الأنصار للنبي عليه الصلاة والسلام في مكة قبل أن يهاجر؛ أتوا وأسلموا رضي الله عنهم، وهو وُصِفَ هنا عبادة بأنه شهد بدرًا، وهذه ميزة وأيضًا هو أحدُ النقباء وهذه ميزة، وأيضًا ممن بايع الرسول عليه الصلاة والسلام وهذه ميزة.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ) منصوبة على الظرفية حوله يعني بجواره. (عِصَابَةٌ) أي: جماعة من عشرة إلى أربعين.

(مِنْ أَصْحَابِهِ: ” بَايِعُونِي) المبايعة هنا ليست مبايعة في أمر دنيوي، وإنما مبايعة في أمر ديني، ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] وُصِفَت بأنها مبايعة لأن بها عوضًا، ما هو العوض؟ الجنة، ولذلك في رواية “فَمَنْ وَفَّى فَلَهُ الْجَنَّةُ” في سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]

( “بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ) سبحان الله؛ كيف؟

الباب السابق ما هو؟ محبة الأنصار،

 هنا قال: (وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) هل هذه المبايعة ليلة العقبة؟

 فإن كانت ليلةَ العقبة ففيها بيانٌ من أنواع نصرة الأنصار للنبي عليه الصلاة والسلام، فناسَب أن يذكر البخاري هذا الحديث تلو الحديث السابق، لكن الذي يظهر من الروايات أن هذه المبايعة ليست المبايعة في ليلة العقبة، مبايعة أخرى، لأن بيعةَ العقبة المبايعة فيها كما جاءت بذلك الأحاديث على النصرة، على نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلعله هنا ذكر البخاري هذا الحديث لجملة (وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ) الذين بايعوا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام على النصرة، فكيف لا يُحَبُّون رضي الله عنهم.

فقال: ( “بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا) دل على أن المبايعة على العقيدة هي أعظم البِيَع، لأنه قدَّم هنا (ألا تشركوا بالله شيئا) لأنه منافٍ للتوحيد.

ثم قال: (وَلاَ تَسْرِقُوا) وهو أخْذُ المال بخُفْيَة من الحرز بشروط ذكرها الفقهاء.

(وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ) سبحان الله المبايعة هنا نتأمل في جملها:

 ألا تشركوا بالله شيئًا، هذا اعتداء على حق الله عز وجل، لأن الشرك أعظم الظلم: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] إذًا ظلم في حق الخالق.

قال: (وَلاَ تَسْرِقُوا) ظلم في حق المخلوق فيما يتعلق بماله.

(وَلاَ تَزْنُوا) ظلم للمخلوق فيما يتعلق بعرضه.

(وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ) ظلم للمخلوق فيما يتعلق بإزهاق نفسه، وذِكْر الأولاد ظلمٌ يضاف على ظلمه في زهْقِ نفسِه، ظلم فيما يتعلق برَحِمِه، وهو ظلم أيضًا فيما يتعلق بعدم إيمانه الكامل بقدر الله، لأنهم كانوا يقتلونهم من أجل؟ خيفة من الفقر:

 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]

(وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) قال لا تأتوا ببهتان؛ البهتان: هو الأمر الذي يجعلُ الإنسان من عِظَمِهِ يجعله متحيرًا مندهشًا، والناس يطلقونه على القول لأنه يبهَت {سُبحانَكَ هذا بُهتانٌ عَظيمٌ} [النور – 16]، فهو يتعلق بالقول.

قال: (وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) هذا فيه ظلم للمخلوق فيما يتعلق بنسبة الشر إليه من قول أو فعل؛

القول معروف وعند تدبري لآية النساء وجدت أن البهتان يُطلَق حتى على الفعل:

 {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ} هذا فعل {بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20].

(وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) لماذا ذكر الأيدي والأرجل؟

لأن الأيدي يُكتسب بها يُعمل بها، والأرجل تمشي هي التي تدفع الإنسان وتسيِّرُه إلى هذا الأمر.

قال: (وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) وما بين الأيدي والأرجل دل على عظمه وعلى خطورته.

 طبعا هذه بيعة النساء بايَع النبي عليه الصلاة والسلام بمثل هذه الألفاظ النساء، وأتى بضمير النسوة، لكن من ضمن التفاسير فيما يتعلق بالنساء أنها لا تحمل بولد وتنسب هذا الولد إلى الزوج، لكنه متعذر أن يقال هذا القول في حق الرجال، لأن المبايعة هنا في حق الرجال.

 

وقوله: (وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) ما بين الأيدي والأرجل القلب يعني لا تزوروا حديثًا في قلوبكم؛ فتنطق به ألسنتُكم قولًا تبهتون به غيركم

 ثم -سبحان الله- اللهم صل على محمد لما ذكر ما ذكر لأن ما ذُكِر أمور عظام أتى بوجه العموم، قال: (وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ) المعروف ما عُرف من حيث الشرع هذه الجملة عطف هي عامة معطوفة على الخاص السابق، لكن لو قال قائل: لم يَذكر الواجبات؟!

المذكور هنا منهيات؟

 لكن ليُعلم أن هذه الجملة كما أنها تشمل كل منهي مما سبق ومما لم يُذكر؛ أيضًا تشمل عدم ترْك الواجب؛ لأن ترك الواجب معصية.

قال: (وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ) وقيَّد أيضًا لا تعصوا في معروف يعني فيما يتعلق بأمور الشرع، لأن أمور الشرع معروفة ومستحسنة، وأيضًا ولا تعصوا في معروف فيمن وُلِّيَ عليكم فأَمَرَكُم بما لم يخالف الشرع، فيجب أن تطيعوه:

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]

 وقال عليه الصلاة والسلام: “إنَّما الطَّاعَةُ في المَعروفِ”.

(فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ) وتنطق بالتشديد فمن (وفَّى) منكم، والتوفية هي التمام والإكمال بحيث لا يُنتقص مما سبق ذكره.

قال: (فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ) أي: فثوابه. (عَلَى اللَّهِ) وقال: (عَلَى اللَّهِ) أتى بحرف على الذي يدل على الوجوب، وهو عز وجل أوجبه على نفسه تفضلًا منه، وليس وجوبًا عقليًا كما تقوله المعتزلة، وهذا له نظائر كقوله تعالى:

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].

قال: (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) في رواية بينت أن هذا الأجر هو الجنة، وأَعْظِم به من أجر هو أعظَمُ الأجور.

(وَمَنْ أَصَابَ) أي: اقترف. (مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا) وعبَّر بالإصابة لأن بها دليلًا على التعمد، أصاب الشيء يعني أراده {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] أي: حيث أراد.

(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ) أي: مما سبق ذكره.

(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ) في رواية: ” فَعُوقِبَ بِه “.

(فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) دل هذا على أن الحد إذا أقيم على المحدود، فهو عقوبة

ولذلك قال عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} قال عذابهما {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].

قال: (فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) هو عقوبة من حيث إقامة الحد، لكن من حيث النتيجة فهو كفارة له، وفي رواية: ” فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ” تكفير للسيئة مع زيادة التطهر، فالكفارة إزالة المكروه؛ والطهارة حصول المطلوب.

قال: (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)

لكن هنا إشكال

قال: (بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا) من أشرك ارتد، وإذا قُتِل فإنه لا يكونُ حدًا، ولا يكون كفارة له، ولا تطهيرًا، بل عقوبته في الدنيا القتل، وفي الآخرة الخلود في جهنم نسأل الله السلامة والعافية.

فهنا إما أن يكون هذا من قبيل العام المخصوص؛ يعني ما دون الشرك،

 والذي يظهر أيضًا: أنه راجع إلى ما مضى لكن الشرك لا يقع، لأن الخطابَ للمسلمين، ولذلك في رواية مسلم: ” وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا ” يخاطبُ المسلمين، فلو أشركوا لمَا كانوا مسلمين.

قال: (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) وهناك حديث، حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام:

 ” ما أَدْرِي الحُدُودُ كَفَّاراتٌ لِأَهْلِها أم لا ” الحديث هنا أثبت حديث أبي هريرة لا يعلم، فنقول: حديث أبي هريرة له شواهد، لكن لا يمكن أن يُقاوِم من حيث صحة السند، حديث عبادة هذا أمر.

الأمر الآخر/ على افتراض ثبوته، فإن هذا قبل إخبارِه عليه الصلاة والسلام بأن الحدود كفارة، وأبو هريرةَ رضي الله عنه مع أنه أسلم متأخرًا في السنة السابعة من الهجرة، وجاءت رواية من أنه سمع ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يروِه عن صحابي آخر، فحديثُ عبادة متأخر بدليل أنه في رواية: أنه لما بايعهم عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم آية الممتحنة في شأن النساء، فيكون متأخرًا هذه البيعة متأخرة عامَ الفتح أو بعد فتح مكة.

إذًا (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) دل هذا على أن العقوبة في الدنيا مهما عظُمَت فظاعتُها بالنسبة إلى الناس، فإنها لا تُقارَنُ بعقوبة الآخرة.

(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) هذا يدل على أنه متى ما أُقيم عليه الحد فهو كفارةٌ له ولو لم يتب المحدود، فبمجرد إيقاع الحد عليه هو كفارة له؛ وهذا على الصحيح على رأي الجمهور لدلالة الحديث.

 

(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ) يعني لم يَظْهَر أنه فَعلَ ذلك ولم يعترف، ولم يُقر، وستَر على نفسه بسِتر الله عليه، فهو إلى الله، وهذا يدل على فضل الله عز وجل، فمن نِعَمِه على عبده أن يستر عليه.

ولذلك لو اقترف شيئًا من ذلك هل يعترف؛ كماعز والغامدية؟ أو أنه لا يعترف ويستتر بستر الله عليه؟

ج/ الذي يظهر أنه يستتر بستر الله عليه، لكن من أتعبه الذنب كحال ماعز والغامدية فله أن يقر من أجل أن يُقام عليه الحد.

قال: (فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ) يعني ليس هناك شيء مضمون؛ قال: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ!.

طيب/ لو تاب بينه وبين الله؟

الصحيح: أنه إذا تاب إلى الله بينه وبين الله، فإن الله يغفر له:

 {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]

 لكن ليكن على خوف، فلربما أن توبته اعتراها نُقصان.

قال: (إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ”) وهذا يدل على -لما قال: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ – دل على أن الجملة الأولى غير داخلة وهي جملة (لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا) لأن الوقوع في الشرك ليس فيه مشيئة.

(إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ”) سبحان الله أتى بالعفو هنا، وأتى بالعقوبة؛ وهذا يجعل الإنسان يحرص على الدعاء الذي حرص عليه النبي عليه الصلاة والسلام: ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ”.

 

قال: (فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ) أي: على ما مضى ذِكْرُه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(12) بابٌ: من الدين الفرار من الفتن

19- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ”

ثم ذكر رحمه الله فقال: (بابٌ من الدين الفرار من الفتن)

البخاري هذا رحمه الله عجيب في ترتيبه، وفي تبوبيه؛ وفي تنسيقه.

قال: (من الدين الفرار من الفتن) لو تأملنا للأحاديث السابقة ذكر منها الشعب على وجه العموم، شعب الإيمان بعد أن بين فضل الإيمان، ذكر شعب الإيمان العامة والمخصوصة من محبته عليه الصلاة والسلام، ومحبة الأنصار، بيَّن هنا من أن من الدين كما هو منه ما مضى؛ أيضًا منه أن يهرب الإنسان فرارًا بدينه، والذي يظهر لي أنه لما أتى بهذا الباب (من الدين الفرار من الفتن) بعد الحديث السابق والذي قبله، كأن به إشارةً إلى فرار الصحابة رضي الله عنهم من مكة مهاجرين إلى المدينة، إلى من؟

إلى الأنصار، فذكر حديث أبي سعيد الخدري.

قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) وهو القَعنَبي البصري، القعنبي منسوب إلى جَدِّه ثقة حافظ من أعظم الناس ضبطًا لما رواه الإمام مالك، وكان عابدًا مجاب الدعوة؛ حتى إنه لما قدم إلى المدينة وأخبروا الإمام مالك بذلك قال: (قوموا بنا إلى خير أهل الأرض) بل إن بعضهم قال: (هو خير من مالك)

 ولما يبلغ الإنسان أن يقول شيخه ( قوموا بنا إلى خير أهل الأرض) هذا فيه تواضع من الإمام مالك رحمةُ الله عليه، وبيان لفضل ابن مسلمة رحمة الله عليه.

(عَنْ مَالِكٍ) وهو مالك بن أنس المدَني.

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) الأنصاري.

(عَنْ أَبِيهِ) أبوه من؟ عبد الله. (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) وهو سعد بن مالك.

(أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) أي يقرُب، يوشك من أفعال المقاربة، (يوشك) أي يقرب (أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ) خير خبر كان مقدم، وغنم اسمها مؤخر، وضُبِطَت: ” أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمًا ” فتكون كلمة خير: الاسم.

(يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ) هذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام أن يخبر عن شيء لم يقع، مما يدل على: أنه كلما تأخر الزمن كلما كثرت الفتن.

ولذلك كما سيأتي معنا قال عليه الصلاة والسلام: “يَقِلّ العِلْمُ، ويَظْهَر الجَهْلُ، وتَكْثُر الفتن” قلةُ علم، وظهور جهل، وكثرة فتن، كثرة الفتن تنشأ من قلة العلم.

(يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ) قال المسلم؛ وهذا يدل على أن المسلم كامل الإيمان إذا نوزع بين دينِه ودنياه؛ اختارَ دينَه، ولذلك قال (الغنم) والغنم ليست كالإبل في الثمنية والغلاء، ولذلك الغنم سكينة، وقال عليه الصلاة والسلام: “الفَخْرُ والخُيَلاءُ في أهْلِ الإِبِلِ” لكن قال هنا: (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ) وضبطت بالتشديد “يَتَّبِعُ”

(يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ) أي: أعالي (الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ) أي: المطر.

(يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ) (مِن) هنا سببية: بسبب الفتن.

(يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ) وهذا يدل على أن الإنسان متى ما خشي على دينه من الفتن فعليه بالعزلة، والفتن قد تكون -لأنها تنوعت وتشكلت- ومن الفتن؛ إذا كان الإنسان يُفتَتَن بهذه الجوالات، وبوسائل التواصل، مما يَعلمُ علم اليقين أنها مؤثرة على دينه، فيجب عليه أن يبتعد عنها، ولذلك هذه الوسائل ما كثُر الإلحاد ولا التطاول على الدين إلا بعد أن انتشرت، وكذلك الشأن في الشهوات.

قال: (يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ” أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ ” وَأَنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [ البقرة – 225]

20- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَرَهُمْ، أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: ” إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا “.

ثم ذكر رحمه الله بابًا فقال: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ)

 جعل التبويب من جزء من الحديث.

(وَأَنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [ البقرة – 225] ) أنا أعلمكم بالله سيأتي بيانه في الحديث الذي أورده.

(وَأَنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ) فالقلب له فعل؛ ما هو فعل القلب؟

العلم، والدليل لأن الذي يؤاخَذ عليه الإنسان، النبي عليه الصلاة والسلام قال: “إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عن أُمَّتي ما حَدَّثَتْ به أنْفُسَها، ما لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ”

 طيب كيف نقول إن للقلب فعلًا وعملًا، ويؤاخذ عليه مع أنه تُجُوِّز عن حديث النفس؟  تُجُوِّز عن حديث النفس الذي لا استقرار له، لكن ما كان من خواطر مخالفة للدين استقرت وتمكنت هنا يُحاسَبُ عليها، ولذلك قال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } أسند إلى القلوب الكسب، والكسب عمل، ولذلك في آيات كثيرة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة:235] خواطر تتعلق بالعقيدة أو بأي شيء يخالف الدين، فتثبت عنده؛ يعني: قلبُه يطمئن لها، يعني من أعمال القلوب: المحبة، والخشية، فهذه لو صرفها الإنسان بقلبه إلى غير الله، فإنه يؤاخذ عليه.

وكما أن للقلب عملًا، له قول وهو: التصديق، التصديق قول القلب،

 الخشية والمحبة وأشباهها هي فعل القلب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ) السُلَمي محمد بن سلام ضُبِط اسم أبيه بالتشديد محمد بن (سلَّام)، ونقل بعضهم من أنه متفق على التشديد، لكن الصحيح محمد بن سَلَام لمَ؟

لأنه هو أخبر بأبيه من غيره، وروى أنه بالتخفيف.

(قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ) عبدة بن سليمان الكوفي.

(عَنْ هِشَامٍ) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام. (عَنْ أَبِيهِ) عروة.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها وهي خالة عروة.

(قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَرَهُمْ) يعني أمر الصحابة رضي الله عنهم.

(أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ) لماذا كررها؟

لكل كلمة معنى، يعني كان رسول الله ﷺ إذا أمرهم بالعمل الصالح أمرهم منها بما يطيقون، هو أَمَر مَنْ؟

الصحابة رضي الله عنهم؛ لم يُذكر هنا أنهم هم الصحابة؛ بدلالة الحال أنهم هم الصحابة، ولذلك يستفاد من هذه الجملة إذا قال الصحابي: أُمِرنا أن نفعل كذا، مَنْ الآمر؟

هو النبي عليه الصلاة والسلام، فيأخذ حكم الحديث المرفوع حكمًا لا حقيقة

(إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ) المقصود الأعمال المستحبة، أما الواجبة فهي واجبة.

قال: (بِمَا يُطِيقُونَ) أي بما يستطيعون.

(أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ) وهذا يدل على ماذا؟

لو رددنا هذه الجملة إلى أحاديث أُخَر؟ كان ” أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ” خيفة من ماذا؟ خيفة من أن ينقطع.

عملٌ صالح قليل مستمر خير من عمل كثير منقطع؛ لمَ؟

لأن العمل اليسير إذا استمر يجعل الإنسان مع ربه؛ مقبلًا عليه، فيزداد إيمانُه، لكن إذا انقطع ربما هذا الانقطاع يُعْقِبُه انقطاع آخر عن واجب.

 

قال: (أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ) أي كحالك يا رسول الله، يعني نحن بحاجة إلى كثرة العمل، لأن لدينا ذنوبًا ونحتاج إلى كثيرٍ من الأجر

أما بالنسبة إليك قد غُفِر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

(إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ثم ذكروا العلة:

(إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؛ فَيَغْضَبُ) عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على مشروعية الغضب عندما تُنتهك محارم الدين، أو يُنسب إلى الدين ما ليس منه

ولذلك ليس هذا الغضب الصادر منه عليه الصلاة والسلام غضبًا يسيرًا

(حَتَّى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ) يعني من أنه شديد مع أنه كان من أحلم الناس عليه الصلاة والسلام، لكن فيما يتعلق بالدين إذا انتهكت محارمه فيغضب عليه الصلاة والسلام؛ لمَ؟

لأن -أولًا لماذا غضب عليهم؟- من جهتين: من جهة أن يتيقظوا فمن كان من أهل الفضل والفهم كحال الصحابة رضي الله عنهم إذا أخطأ في الاستدلال أن يُنبه، فغضِبَ حتى يوقظهم مما فهموه من هذا الفهم الذي يخالف الشرع؛ لمَ؟ وهو الأمر الثاني: لأن مقتضى أن من غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أن يزداد شكرًا لله، -ولذلك كما سيأتي معنا- إذا قام من الليل تتفطر قدماه ويقولون له:

 كيف تصنع بنفسك هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول:

” أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ” هذه نعمة تقتضي أن يُشكر الله عليها.

 

(ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) يجوز أن يمدح الإنسان نفسَه إذا اقتضت مصلحة شرعية، ولم يُخشَ على المادح لنفسه الغرور، فهو مدَح نفسَه عليه الصلاة والسلام لمقتضًى شرعي، يعني ما فعلته إنما هو لأني أكثر منكم علمًا وأتقى لله منكم.

ولذلك إذا اُقتُضي المدح؛ مَدْحُ الإنسان لنفسه لمصلحة شرعية فلا حرج، بشرط أن يأمن من الفتنة.

ولذلك يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] حفيظ عليم: مصلحة من أجل أن ينفع الناس، لأنه عالمٌ بالاقتصاد.

 

(ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) قال أنا، يعني لو في غير الحديث أنا أتقاكم، لكن هنا يجوز أن يقع الضميرُ المنفصل مقام الضمير المتصل، وإن منَعَه كثير من النحاة، لكن الحديث يؤيد هذا

(إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) هذا فيه فائدة تدل على تفاضل الإيمان والأعمال لأنه قال: أتقاكم وأعلمكم بأفعل التفضيل؛ دل على أن الناس يتفاوتون، وفي هذا رد على المرجئة الذين يقولون: ” من أن الناس في الإيمان واحد، ولا يضر مع الإيمان ذنب “! هذا رد عليهم.

ثم هو عليه الصلاة والسلام بلغ الكمال الإنساني كمخلوق أعظم الرتب من حيث الصفة العلمية والعملية، من حيث العلم والعمل.

– من حيث العمل: (إِنَّ أَتْقَاكُمْ)

– من حيث العلم: (وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا)

ولذلك في رواية ” لأنا أبر وأتقى لله منكم “.

ثم سبحان الله قال: (إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) العلم الحقيقي النافع المنجي للعبد في دنياه وفي آخراه هو العلمُ بالله، ولذلك قال عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(14) بَابٌ: مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ)

21- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّار “

ثم ذكر البخاري رحمه الله بابًا فقال:

(بَابٌ: مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ).

مر معنا لكن أورده في باب حلاوة الإيمان، وهذا يدل على أن كل جملة في الحديث، بل والله حسب تتبعي الضعيف، أن كل كلمة في الحديث من أن لها معنًى كأنها حديثٌ بمفردها، لأنه استدل بالحديث السابق في الباب السابق فقال: (باب حلاوة الإيمان ” ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ” ) هذا موضع الشاهد

لكن موضع الشاهد من هنا لما أعاده مرة أخرى ( مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ) ما يصل الإنسان إلى مرتبة أنه يجعل وقوعَه في الكفر كأنه واقعٌ في النار، إلا لأنه كامل الإيمان ووجد حلاوةَ الإيمان.

والبخاري عجيب ما يعيد الحديث هكذا؛ إلا لفائدة، إما أن هناك تغيرًا في السند أو في المتن، وهنا حصل الأمران،

الحديث السابق الذي أورده حديث أنس في باب حلاوة الإيمان، لكنّ شيخَه هناك محمد بن المثنى، شيخ البخاري هنا سليمان بن حرب، وهنا في المتن أيضًا فيه جُمَل أو كلمات ليست هناك.

قال: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) البصري القاضي.

(قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجاج البصري ثقة حافظ مر معنا.

(عَنْ قَتَادَةَ) السدوسي البصري. (عَنْ أَنَسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)

وقلنا: إن شعبة إذا روى عن قتادة فعنعن قتادة أن قتادة مدلس، لكن ثبت عند شعبة أنه سمِعَه.

(عَنْ أَنَسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ) الحديث مر شرحه.

قال: (مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ) هناك: ” أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ” هنا (مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا) هناك: “وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله”.

(وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّار)، والحديث مر شرحُه فلا معنى لإعادةِ شَرحِه.