شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ــ الدرس 26 حديث 29
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن أبي السَّمح رضي الله عنه قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( يغسل من بول الجارية ، ويرش من بول الغلام )
أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وصححه الحاكم .
( من الفوائد )
أن أبا السَّمح اسمه : ” إياد ” وقد خدم النبي صلى الله عليه وسلم .
( ومن الفوائد )
أن سبب هذا الحديث :
( أنه قد أتي بالحسن أو الحسين فبال على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل ألا نغسله ؟ )
فذكر الحديث .
( ومن الفوائد )
أن : [ الأصل في الأحكام أنه يستوي فيها الذكر والأنثى ]
لظاهر هذا الحديث ، فإنه فرَّق بين الذكر والأنثى ، وهذا التفريق يدل على أن الأصل أن تتساوي الأحكام في حقهما .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث أتى بصيغة الخبر ” قال :
( يُغسل – يرش ) والمقصود منه الطلب ، أي ” ليغسل من بول الجارية وليرش من بول الغلام “
وهذا يدل على تأكيد هذا الحكم والاهتمام به .
( ومن الفوائد )
أن ( النضح ) الوارد في حق بول الغلام في الأحاديث الأخرى ، بينته هذه الروية وهو ( الرش ) .
( ومن الفوائد )
أن النووي رحمه الله قال – كما في شرح مسلم – قال ” إن النضح : أن يصب الماء دون أن يكون هناك جريان ، بينما الغسل يلزم فيه الجريان ولا يلزم فيه الدلك “
يعني : متى ما زالت النجاسة بصب الماء على الشيء النجس .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( الغلام ) تطلق على الزمن الذي يولد فيه الإنسان إلى البلوغ ، فقد أطلق كلمة ( الغلام ) هنا على من لم يفطم بعد .
وقد تطلق كلمة ( الغلام ) على الشيخ الكبير في السن ، لأنه استجمع قواه ، كما أطلق موسى عليه السلام – كما في حديث الإسراء والمعراج – أطلق كلمة ( الغلام ) على الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً / لو أُنكر على شخص قال لمولود ” هذا غلام ” فإنكاره ليس في محله .
( ومن الفوائد )
أن الأمر ( برش بول الغلام ) يدل على أنه نجس ، ولكن نجاسته ” نجاسة مخففة “
يكتفى فيها بالنضح .
والنجاسة ثلاثة أنواع :
أولا : ” نجاسة مغلظة ” وقد مرت معنا ، وهي نجاسة ” الكلب ” فيغسل سبع مرات أولاهن بالتراب .
ثانيا : ” نجاسة مخففة ” بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام “
ثالثا : ” نجاسة متوسطة ” وهي ” ما عدا هذين النوعين فيكتفى فيها بالغسل ، فمتى ما غسلت وزالت النجاسة زال حكمها .
( ومن الفوائد )
أنه جاء عند الترمذي :
( بول الغلام الرضيع ينضح )
فوصفه بأنه ( رضيع ) فهذا الحكم يتعلق به ما دام أنه رضيع ، فإذا استقل عن اللبن بالطعام فإن حكم بوله يكون كحكم بول الجارية يجب فيه الغسل .
لكن لو وُضع الطعام في فِيِه من غير رغبة منه فإنه لا يخرجه عن هذا الحكم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم :
( حنَّك بعض مواليد الصحابة بالتمر )
لكن متى ما وُضع الطعام في فهمه واشرأبت نفسه إليه وصاح إذا رآه ، فإن ينتقل من حكم النضح إلى حكم الغسل .
ويؤيد هذه الفائدة : ما جاء في الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن رضي الله عنها :
( أنها أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يأكل الطعام ) فوصف بأنه ( لم يأكل الطعام ) فدل على أن من أكل الطعام يخرج من هذا الحكم .
( ومن الفوائد )
قال بعض العلماء : إن سبب التفريق بين بول الجارية وبول الغلام غير واضح ” فالأمر تعبدي .
وقال بعضهم : إن الغلام يحمل كثيراً ويفرح به أكثر من الجارية ، فمن باب قاعدة [ المشقة تجلب التيسير ]
خفف في بوله .
وقال بعض العلماء : إن الغلام لديه حرارة قوية أكثر من حرارة الجارية ، فحرارته تلطف الطعام ، ولاسيما وأن هذا الطعام خفيف ، لأنه لبن ، وهذا ثابت في الطب ” من أن لدى الذكر حرارة أكثر من حرارة المرأة في هضم الطعام “
وقال بعض العلماء :
إن الغلام يخرج بوله من ثقب صغير من قضيب ممتد فينتشر ، فمن باب التخفيف اكتفي فيه بالنضح، بينما الجارية إذا بالت يستقر بولها ويجتمع فلا مشقة هنا ، فيجب الغسل .
وعلى كل حال هذه حِكم ، والشرع قد أمرنا بالإتباع ، وهذا هو أهم شيء ، قال تعالى :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }الأحزاب36 .
( ومن الفوائد )
أن ” الجارية ” يغسل بولها أكلت الطعام أو لم تأكل الطعام .
ويصح إطلاق لفظ ( الجارية ) على من ” ولدت ” ولو لم تفطم .
( ومن الفوائد )
أن هناك قاعدة أصولية وهي :
[ أن المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق ]
قال هنا ( يغسل من بول الجارية )
إذاً / غائطها الذي سكت عنه من باب أولى .
قال تعالى في حق الوالدين :
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ } هذا المنطوق ، والمسكوت عنه الضرب ، فلو ضربهم من باب أولى .
وهناك أيضا قاعدة أصولية وهي :
[ اعتبار مفهوم المخالفة ]
فلما قال : ( يرش من بول الغلام )
فهم أن غائطه يغسل .
وكذلك يفهم من هذا الحديث باعتبار مفهوم المخالفة ، يفهم أن ” قيئه يغسل ” بناء على الأصل ، مع أن القيء مختلف في نجاسته من طهارته من الصغير والكبير “
فابن حزم رحمه الله : يرى أنه طاهر ، لعدم الدليل .
والجمهور :يرون أنه نجس ، قالوا : لأنه طعام استحال في المعدة فاشبه الغائط .
وقال بعض العلماء : إن قيهما لا يدخلان في باب الغسل ، ولاسيما الغلام ، لماذا ؟
قالوا : لأن القيء أخف من البول ، فإذا كان بول الغلام يرش فقيئه من باب أولى ، فتأتينا قاعدة : [ أن المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق ]
لكن قال من قال بأنه نجس : نبني على الأصل وهو النجاسة ، فقيء الغلام يغسل .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( من ) الواردة في هذا الحديث ( للسببية ) يغسل بسبب بول الجارية ، ويرش بسبب بول الغلام .
( ومن الفوائد )
بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من ملاطفة الصغار واحتضانهم ، ولاسيما إذا كانوا أقرباء منه ، كما فعل بالحسن أو الحسين
( ومن الفوائد )
أن فيه بيان أن الأصل في كلمة ( النضح ) هو الرش ، وليس الغسل ، لأنه مر معنا في سنن النسائي قوله صلى الله عليه وسلم ( انضح فرجك ) قلنا إنه ( الغسل ) فقد يطلق النضح ويراد منه الغسل ، لكن الأصل أن النضح هو الرش ، لأن كلمة ( النضح ) أتت في رواية أخرى ، فبينت أن كلمة النضح في الأحاديث الأخرى أنه يراد منها ( الرش )
وكذلك هذا الحديث بيَّن لأنه جمع بينهما فقال : ( يغسل من بول الجارية ، وينضح من بول الغلام ) وفي الرواية التي معنا ( يرش )
ولتعلموا أن المسألة ليست مسألة وفاق ، فهناك من العلماء من يرى أنهما يشتركان في الحكم وهو ( النضح )
ومنهم من قال : إنهما يشتركان في الغسل
ومنهم من فرَّق – وهو الصواب – ويدل عليه الأحاديث التي ذكرت .
والقول الأول والثاني : يرد عليهم بهذا الحديث ، لأنه لا قياس مع النص .
فأصحاب القول الأول: قاسوا بول الجارية على بول الغلام .
وأصحاب القول الثاني : قاسوا بول الغلام على بول الجارية ، مع أن الأصل في النجاسة أنها تغسل .