شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 49 حديث 56
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” عن أنس رضي الله عنه قال :
( كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتوضأ بالمُدِّ ، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد )
متفق عليه
( من الفوائد )
” بيان القدر الذي كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم من الماء ، وكذلك ما يخص الغسل “
والماء الذي كان يتوضأ به صلى الله عليه وسلم هو ” المد “
ومر معنا :
( أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد )
ليس مدا كاملا ، وإنما أقل من المد .
وذكرنا فيما مضى : ” أن هذا هو أقل ما توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم وهو ثلثا المد “
وما ورد من حديث :
( أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلث مد )
فإنه لا يصح .
وأما الغسل : فإنه صلى الله عليه وسلم ( اغتسل بالصاع ) وأحيانا يزيد ( إلى خمسة أمداد )
القول هنا ( إلى خمسة أمداد ) يدعونا إلى أن نعرف كم في الصاع من مد ؟
الصاع : فيه أربعة أمداد .
ما مقدار المد ؟
من حيث الضابط البدني لابن آدم، ما قاله العلماء : ” ما يسع كفي ابن آدم متوسط الخِلْقة “فما ملأ كفي ابن آدم وهو متوسط الخلقة ، ليس كبير الكفين وليس بصغير الكفين فإن هذا هو مقدار المد .
لو قال قائل : ما هو الضابط في مقدار المد وفي مقدار الصاع من حيث الوزن في هذا العصر ؟
الجواب / الصاع النبوي اختلف تقدير العلماء له من حيث الوزن في هذا العصر .
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله يقول : الصاع قدرته ” بكيلوين وأربعين جراما “
الشيخ البسام رحمه الله يقول : هو ” يصل إلى كيلوين وخمسمائة جرام “
ويرى بعض العلماء : أن الصاع النبوي يصل إلى ثلاثة كيلوات .
فإذا عرف مقدار الصاع النبوي من حيث الجرامات عرف مقدار المد .
وعلى كل حال فالأمر يسير ، أهم شيء أن يُحذا حذو ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه وفي غسله من حيث المقدار في هذا الماء .
وقد يعكر على هذا الحديث : ما جاء عند البخاري : أن عائشة رضي الله عنها قالت :
( اغتسلت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء يقال له ” الفَرَق ” )
والفَرق جاءت رواية مسلم أنه ( ثلاثة أصواع )
فما هو الجواب عن هذا الحديث حتى لا يختلف مع ظاهر حديث الباب ؟
الجواب / أن يقال ” إن هذا الفرق لم يقتصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ، وإنما شاركته عائشة رضي الله عنها
ثم لو قيل بعدم المشاركة – تنزلا – فإن هذا الفرق لم يكن ممتلئاً ، وإنما هناك بعض من الماء في هذا الإناء ، ولذا لفظ الحديث :
( من إناء )
ولا يدل هذا على أن ” الفَرَق ” كان ممتلئاً .
ولو قال قائل : ألا يمكن أن يقال يبقى الحديث على ظاهره ، فيكون صلى الله عليه وسلم كما ( توضأ بثلثي مد ) و ( توضأ بالمد ) ويكون ( اغتسل بصاع ) و بـ ( خمسة أمداد ) وبـ ( ثلاثة أصواع ) ولا إشكال في هذا .
ولذا قال العلماء : بأي مقدار يتوضأ ويغتسل المسلم ” كما ورد وهو مخيَّر في هذا .
لكن ما هو صنيعنا ؟!
وبالتالي فعلينا أن نتبنه لهذا الأمر ، هنا ضابط ذكره بعض العلماء في استعمال الماء من حيث المقدار قلة وكثرة .
قالوا رحمهم الله : يتوضأ ويغتسل بماء هو من حيث القلة يفي لاستيعاب غسل الأعضاء الواجبة ، وأما مقداره من حيث الكثرة فإنه يحد بحدٍّ لا يزيد عن الحد المعتاد فيصل إلى الإسراف ، ولذا لو أنه اغتسل بعشرة أصواع وهو بحاجة إليها ، ولم يكن إسرافا ، فلا إشكال في ذلك .
ما الذي دعا هؤلاء العلماء أن يقولوا هذا القول ؟
لما رأوا الأحاديث تنوعت ( صاع إلى خمسة أمداد ) وحديث فيه ( الفرق ) قالوا هذا التنوع من حيث المقدار يجعل الأمر واسعا ، لكن لا يصل إلى حد الإسراف ، ولا يقل بحيث لا تستوعب الأعضاء .
( ومن الفوائد )
” بيان فضل عدم الإسراف ، حتى ولو كان الشيء متيسرا “
فإن الماء متيسر ، ومع ذلك حثَّ صلى الله عليه وسلم من فعله – كما هنا – على ألا يسرف المسلم ولو في الشيء الكثير .
ولذا في حديث سعد رضي الله عنه في المسند ، وفيه شيء من الضعف ، لكنه ضعيف يسير :
( لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويزيد في الماء ، فقال صلى الله عليه وسلم لا تسرفْ ، فقال يا رسول الله : أفي الماء إسراف ؟
قال : نعم ، ولو كنت على نهر جار )
( ومن الفوائد )
” بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم “
إذ نقلوا لنا صنيع النبي صلى الله عليه وسلم فيما هو صغير وفيما هو كبير .
( ومن الفوائد )
” أن هذا الحديث دليل للفقهاء على أن ” المائعات مكيلة “
قالوا : ” إن المائع كيل ” لأن هذا التعبير :
( كان يتوضأ بالمد ، ويغتسل بالصاع )
يدل على أن المائعات مكيلات ، وبالتالي يجري فيها الربا ، وعلة الربا مختلف فيها بين أهل العلم ، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في الصحيحين ، قال صلى الله عليه وسلم :
( الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ، والفضة بالفضة مثلا بمثل يداً بيد ، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد ، والبر بالبر مثلا بمثل يدا بيد ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد )
ومن ثم اختلف العلماء في علة جريان الربا ، هل هي محصورة في هذه الأنواع الستة ، كما قالت الظاهرية ؟
ومن ثم أين يذهب الأرز الذي نأكله ، أين تذهب الذرة ؟
على قول الظاهرية لا يجري فيها الربا .
وقال بعض العلماء : إن العلة منوطة بالكيل والوزن فقط “
لأن الذهب يوزن والفضة توزن ، وبقية المذكورات في الحديث تكال ، إما بالصاع وإما بالمد .
وقال بعض العلماء : إن العلة ” الطُعم ” .
نقول : حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، وكذلك ما جاء عند البخاري
( والميزان مثل ذلك )
وحديث فضالة عند مسلم عن قلادة الذهب ( لا تباع حتى تفصل )
من مجموع هذه الأحاديث نقول : إن الراجح في علة جريان الربا ” الذهب والفضة – الثمنية ” أي ما كان ثمناً للأشياء مثل الريالات والجنيهات والدولارات وما شابه ذلك .
” والمكيل المطعوم ” ليس مكيلا فقط ، لابد أن يكون مطعوما .
” والموزون المطعوم “
لو بيع ” طن من الحديد ” بطنين من الحديد ” ؟
على القول الراجح لا يجري فيه الربا ، لأنه ليس بمطعوم .
مثال : ” معك لتر من عصير البرتقال ” ومع صديقك لتران ” فقال يا فلان خذ هذين اللترين وأعطني اللتر الواحد ؟
لا يجوز ، لأن المائع ” مكيل مطعوم “
فلا ننظر إلى الأسماء ، وإنما ننظر إلى أن البيع ” مبادلة مال بمال “
ومن حضر معنا دروس التفسير في رمضان عند قوله تعالى :
{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى }البقرة16
قلنا في هذه الآية : دليل للفقهاء على أن البيع ” مبادلة مال بمال ” لأنهم استبدلوا الهدى بالضلالة ، فسماه الله عز وجل شراءً .
إذاً “كل مائع مكيل “
واستثنى الفقهاء ” الماء ” قالوا إن الماء لا يتمول عادة ، وهذا على حسب ما كان في زمانهم ، لكن نحن الآن عندنا ” مياه صحية ” يجري فيها الربا .
مثال : لو أنك معك رطلين من الماء ، وأتى زميلك وقال إني بحاجة إلى هذين الرطلين ومعي رطل “
هنا يجري فيه الربا .
فما هو المخرج ؟
نقول : أعطه الماء هدية ، دون أن تتقاضى منه الشيء الآخر .
أو لتفتح العلب وتصب له ما يريده ، أما التبادل فلا يجوز .
لكن لو كان معه ماء في إناء أخذه من بيته ، ومع الآخر ماء ، فلا إشكال لم ؟
لأن هذا لا يتمول عادة ، ليس كالمياه الصحية .
مثال : ” لو كان معك رطلان من عصير التفاح ، وكان مع زميلك رطل من عصير البرتقال ” فتاقت نفسك إلى عصير البرتقال ” مع أن القدر اختلف ، هل يجوز ؟
يجوز ، بشرط القبض قبل التفرق من مجلس العقد ، لأن الأصناف اختلفت هنا ، هذا تفاح وهذا برتقال ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف ما شئتم إذا كان يدا بيد )
مثال : ” لو قال قائل : نحن الآن نشتري من البقالات العصائر بريالات ، وأحيانا تكون إلى أجل ؟
الجواب / يجوز مع أن هذا جنس ربوي ، وهذا جنس ربوي ، لكنهما لم يتفقا في العلة .
خلاصة القول : أن المائع مكيل ، لدلالة هذا الحديث .