شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 49 ) حديث ( 56 ) ( كان رسول الله يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع)

شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 49 ) حديث ( 56 ) ( كان رسول الله يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع)

مشاهدات: 428

شرح كتاب ( بلوغ المرام  ) ـ الدرس 49 حديث 56

( باب الوضوء )

فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :

( أما بعد )

فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

” عن أنس رضي الله عنه  قال :

( كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتوضأ بالمُدِّ ، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد  )

متفق عليه

 

 ( من الفوائد )

” بيان القدر الذي كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم من الماء ، وكذلك ما يخص الغسل “

والماء الذي كان يتوضأ به صلى الله عليه وسلم هو ” المد “

ومر معنا :

( أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد )

ليس مدا كاملا ، وإنما أقل من المد .

وذكرنا فيما مضى  : ” أن هذا هو أقل ما توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم وهو ثلثا المد  “

وما ورد من حديث :

( أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلث مد )

فإنه لا يصح .

وأما الغسل : فإنه صلى الله عليه وسلم ( اغتسل بالصاع  ) وأحيانا يزيد ( إلى خمسة أمداد )

القول هنا ( إلى خمسة أمداد )  يدعونا إلى أن نعرف كم في الصاع من مد ؟

الصاع : فيه أربعة أمداد .

ما مقدار المد ؟

من حيث الضابط البدني لابن آدم،  ما قاله العلماء : ” ما يسع كفي ابن آدم متوسط الخِلْقة “فما ملأ كفي ابن آدم وهو متوسط الخلقة ، ليس كبير الكفين وليس بصغير الكفين فإن هذا هو مقدار المد .

لو قال قائل : ما هو الضابط في مقدار المد وفي مقدار الصاع من حيث الوزن في هذا العصر ؟

الجواب / الصاع النبوي اختلف تقدير العلماء له من حيث الوزن في هذا العصر .

الشيخ ابن عثيمين رحمه الله يقول : الصاع قدرته ” بكيلوين وأربعين جراما “

الشيخ البسام رحمه الله يقول : هو ” يصل إلى كيلوين وخمسمائة جرام “

ويرى بعض العلماء : أن الصاع النبوي يصل إلى ثلاثة كيلوات .

فإذا عرف مقدار الصاع النبوي من حيث الجرامات عرف مقدار المد .

وعلى كل حال فالأمر يسير ، أهم شيء أن يُحذا حذو ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه وفي غسله من حيث المقدار في هذا الماء .

وقد يعكر على هذا الحديث : ما جاء عند البخاري : أن عائشة رضي الله عنها قالت :

( اغتسلت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء يقال له ” الفَرَق ” )

والفَرق جاءت رواية مسلم أنه ( ثلاثة أصواع )

فما هو الجواب عن هذا الحديث حتى لا يختلف مع ظاهر حديث الباب ؟

الجواب / أن يقال ” إن هذا الفرق لم يقتصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ، وإنما شاركته عائشة رضي الله عنها

ثم لو قيل بعدم المشاركة – تنزلا – فإن هذا الفرق لم يكن ممتلئاً ، وإنما هناك بعض من الماء في هذا الإناء ، ولذا لفظ الحديث  :

( من إناء )

ولا يدل هذا على أن ” الفَرَق ”  كان ممتلئاً .

ولو قال قائل :  ألا يمكن أن يقال يبقى الحديث على ظاهره ، فيكون صلى الله عليه وسلم كما ( توضأ بثلثي مد )  و ( توضأ بالمد  ) ويكون ( اغتسل بصاع  ) و بـ ( خمسة أمداد ) وبـ ( ثلاثة أصواع ) ولا إشكال في هذا .

ولذا قال العلماء : بأي مقدار يتوضأ ويغتسل المسلم  ” كما ورد وهو مخيَّر في هذا .

لكن ما هو صنيعنا ؟!

وبالتالي فعلينا أن نتبنه لهذا الأمر ، هنا ضابط ذكره بعض العلماء في استعمال الماء من حيث المقدار قلة وكثرة .

قالوا رحمهم الله : يتوضأ ويغتسل بماء هو من حيث القلة يفي لاستيعاب غسل الأعضاء الواجبة ، وأما مقداره من حيث الكثرة فإنه يحد بحدٍّ لا يزيد عن الحد المعتاد فيصل إلى الإسراف ، ولذا لو أنه اغتسل بعشرة أصواع وهو بحاجة إليها ، ولم يكن إسرافا ، فلا إشكال في ذلك .

ما الذي دعا هؤلاء العلماء أن يقولوا هذا القول ؟

لما رأوا الأحاديث تنوعت ( صاع إلى خمسة أمداد ) وحديث فيه ( الفرق ) قالوا هذا التنوع من حيث المقدار يجعل الأمر واسعا ، لكن لا يصل إلى حد الإسراف ، ولا يقل بحيث لا تستوعب الأعضاء .

 ( ومن الفوائد )

” بيان فضل عدم الإسراف ، حتى ولو كان الشيء متيسرا “

فإن الماء متيسر ، ومع ذلك حثَّ صلى الله عليه وسلم من فعله – كما هنا – على ألا يسرف المسلم ولو في الشيء الكثير .

ولذا في حديث سعد رضي الله عنه في المسند ، وفيه شيء من الضعف ، لكنه ضعيف يسير  :

( لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويزيد في الماء ، فقال صلى الله عليه وسلم لا تسرفْ ، فقال يا رسول الله : أفي الماء إسراف ؟

قال : نعم ، ولو كنت على نهر جار )

( ومن الفوائد )

” بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم “

إذ نقلوا لنا صنيع النبي صلى الله عليه وسلم فيما هو صغير وفيما هو كبير .

 

( ومن الفوائد )

” أن هذا الحديث دليل للفقهاء على أن ” المائعات مكيلة “

قالوا : ” إن المائع كيل ” لأن هذا التعبير  :

( كان يتوضأ بالمد ، ويغتسل بالصاع )

يدل على أن المائعات مكيلات ، وبالتالي يجري فيها الربا ، وعلة الربا مختلف فيها بين أهل العلم ، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في الصحيحين ، قال صلى الله عليه وسلم :

( الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ، والفضة بالفضة مثلا بمثل يداً بيد ، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد ، والبر بالبر مثلا بمثل يدا بيد ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد )

 

ومن ثم اختلف العلماء في علة جريان الربا ، هل هي محصورة في هذه الأنواع الستة ، كما قالت الظاهرية ؟

ومن ثم أين يذهب الأرز الذي نأكله ، أين تذهب الذرة ؟

على قول الظاهرية لا يجري فيها الربا .

وقال بعض العلماء : إن العلة منوطة بالكيل والوزن فقط “

لأن الذهب يوزن والفضة توزن ، وبقية المذكورات في الحديث تكال ، إما بالصاع وإما بالمد .

وقال بعض العلماء : إن العلة ” الطُعم ” .

نقول : حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، وكذلك ما جاء عند البخاري

( والميزان مثل ذلك )

وحديث فضالة عند مسلم عن قلادة الذهب ( لا تباع حتى تفصل )

من مجموع هذه الأحاديث نقول : إن الراجح في علة جريان الربا ” الذهب والفضة – الثمنية ” أي ما كان ثمناً للأشياء مثل الريالات والجنيهات والدولارات وما شابه ذلك .

” والمكيل المطعوم ” ليس مكيلا فقط ، لابد أن يكون مطعوما .

” والموزون المطعوم “

لو بيع ” طن من الحديد ” بطنين من الحديد ” ؟

على القول الراجح لا يجري فيه الربا ، لأنه ليس بمطعوم .

مثال : ” معك لتر من عصير البرتقال ” ومع صديقك لتران ” فقال يا فلان خذ هذين اللترين وأعطني اللتر الواحد ؟

لا يجوز ، لأن المائع ” مكيل مطعوم “

فلا ننظر إلى الأسماء ، وإنما ننظر إلى أن البيع ” مبادلة مال بمال “

ومن حضر معنا دروس التفسير في رمضان عند قوله تعالى :

{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى }البقرة16

قلنا في هذه الآية : دليل للفقهاء على أن البيع ” مبادلة مال بمال ” لأنهم استبدلوا الهدى بالضلالة ، فسماه الله عز وجل شراءً .

إذاً  “كل مائع مكيل “

واستثنى الفقهاء ” الماء ” قالوا إن الماء لا يتمول عادة   ، وهذا على حسب ما كان في زمانهم ، لكن نحن الآن عندنا ” مياه صحية  ” يجري فيها الربا .

مثال : لو أنك معك رطلين من الماء ، وأتى زميلك وقال إني بحاجة إلى هذين الرطلين ومعي رطل  “

هنا يجري فيه الربا  .

فما هو المخرج ؟

نقول : أعطه الماء هدية ، دون أن تتقاضى منه الشيء الآخر .

أو لتفتح العلب وتصب له ما يريده ، أما التبادل فلا يجوز .

لكن لو كان معه ماء في إناء أخذه من بيته ، ومع الآخر ماء ، فلا إشكال لم ؟

لأن هذا لا يتمول عادة ، ليس كالمياه الصحية .

مثال : ” لو كان معك رطلان من عصير التفاح ، وكان مع زميلك رطل من عصير البرتقال ” فتاقت نفسك إلى عصير البرتقال  ” مع أن القدر اختلف  ، هل يجوز ؟

يجوز ، بشرط القبض قبل التفرق من مجلس العقد ، لأن الأصناف اختلفت هنا ، هذا تفاح وهذا برتقال ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :

( إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف ما شئتم إذا كان يدا بيد )

مثال : ” لو قال قائل : نحن الآن نشتري من البقالات العصائر بريالات ، وأحيانا تكون إلى أجل ؟

الجواب / يجوز  مع أن هذا جنس ربوي ، وهذا جنس ربوي ، لكنهما لم يتفقا في العلة .

خلاصة القول : أن المائع مكيل ، لدلالة هذا الحديث .