شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 51 ) حديث ( 58 ـ 59 ) ( أدخلتهما طاهرتين ـ مسح أعلى الخف وأسفله)

شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 51 ) حديث ( 58 ـ 59 ) ( أدخلتهما طاهرتين ـ مسح أعلى الخف وأسفله)

مشاهدات: 470

شرح كتاب ( بلوغ المرام  ) ـ الدرس 51 حديث ( 58 ـ 59 )

( باب المسح على الخفين )

فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :

( أما بعد )

فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

” باب المسح على الخفين “

ذكر ابن حجر رحمه الله هذا الباب عقيب باب الوضوء ، وذلك لأن المسح على الخفين جزء من الوضوء ، فهو وضوء ، ولكن فيه ما يفرق عن الوضوء مما يخص القدمين ، ففيما سبق يكون غسل القدمين ، وهنا مسح ما على القدمين .

و ( الباب ) في اللغة : هو المدخل للشيء .

وفي الاصطلاح : هو ما يجمع تحته أشياء ، إما أحاديث وإما مسائل علمية .

( ومن الفوائد )

أن المسح على الخفين يختلف كما سيأتي معنا عن المسح على الجوربين  .

فالخفان : هما ما صنعا من جلد .

والجوربان : ما صنعا مما سوى ذلك ، من صوف أو قطن أو نحو ذلك .

( ومن الفوائد )

“أن المسح على الخفين لم ينكره أحد من السلف  “

وما نُقل عن الإمام مالك رحمه الله من أنه أنكره ، فقد قال ابن عبد البر – رحمه الله – قال : ” إن الرواية الصحيحة عن مالك أنه أثبته “

يعني أثبت مشروعيته .

ولم يخالف في ذلك إلا الروافض ، فالرافضة يخالفون أهل السنة في المسح على الخفين ، هم يتوضئون ، لكن إذا وصلوا إلى الأقدام مسحوا – ولم يغسلوا – وإنما مسحوا الكعب العالي الذي في مقدمة القدم ، يمسحونه بالماء دون غسل ، فهم لا يرون غسل القدمين ، وإنما يرون المسح على مقدمة القدم .

وما ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال :

( سبق الكتابُ الخفين )

بمعنى أن القرآن أتى بآية الوضوء ، وأن آية الوضوء فيها غسل القدمين ، فهو حديث منقطع ، لا يصح عن علي رضي الله عنه .

وكذلك ما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :

( لم يكن هناك مسح بعد آية المائدة )

فهذا أيضا لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما .

قال الإمام أحمد رحمه الله :

( ليس في نفسي شيء من المسح على الخفين ، فيه أربعون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )

يقول ليس في قلبي أدنى شك في مشروعية المسح على الخفين .

وقال الحسن البصري رحمه الله :

( سمعت سبعين من الصحابة – رضي الله عنهم – يروون المسح على الخفين )

والآثار  في مثل هذا كثيرة تدل على ثبوت المسح على الخفين .

ولذا في حديث جرير – رضي الله عنه – مسح على الخفين ، فقالوا له أتمسح بعد آية الوضوء ؟

قال : ما أسلمت إلا بعد آية الوضوء )

ففي هذا دلالة واضحة على أن المسح على الخفين لم يُنسخ ، بل هو ثابت .

ثابت من حيث السنة ، وثابت من حيث الآثار الواردة عن السلف ، وأيضا ثابت من حيث القرآن ، قال عز وجل :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ }المائدة6.

يعني ” واغسلوا أرجلَكم ” فالعطف هنا على غسل اليدين ، هناك قراءة سبعية – ليست شاذة –

{ وَأَرْجُلِكُمْ } بالخفض ، ومن أعظم ما توجه به هذه الآية :

” أن القدم إذا كانت مكشوفة تغسل ، وإذا كانت مستورة فإنها تمسح “.

سؤال : لماذا الرافضة يخالفون في ذلك ؟

الجواب / لو كان الرافضة يخالفون في هذا فقط لكان الأمر هينا ، بل خالفوا في العقائد ، بل خالفوا كتاب الله عز وجل الذي بيَّن فيه جل وعلا أنه لا يدعى إلا الله ، ولذلك يدعون عليا والحسين ويتعبدون القبور ، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله : ” ما من بدعة في الإسلام ظهرت إلا عن طريق الروافض “

قال : ” عمروا المشاهد – يعني القبور – وهجروا المساجد “

قال رحمه الله :

عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال :

كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ، فأهويت لأنزع خفيه ، فقال :

” دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين “

فمسح عليهما )

متفق عليه .

 

( من الفوائد )

أن المغيرة  – رضي الله عنه – كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر ، لرواية عند البخاري .

وجاء عند أبي داود :

( أنه كان معه في غزوة تبوك )

وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة .

وجاء عند أبي داود :

( أنها كانت صلاة الفجر )

( ومن الفوائد )

أن قوله ( فأهويت ) مأخوذة من ” أهوى “

وتختلف عن الفعل ” هوى “

فأهوى : تدل على القرب .

بينما ” هوى ” تدل على البعد ، فدل هذا على أنه كان قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم .

وفرق بين ” أهوى ” و ” هوى

من حيث اللغة ، ولذلك لما ذكر عز وجل من ضلَّ قال :

{ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى }طه81

يعني أنه سقط في مكان بعيد سحيق لا تسأل عن حاله ، فحاله إلى شر ، كما قال عز وجل :

{حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ }

ما حاله ؟

{ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }الحج31

يعني حال من أشرك بالله عز وجل كحال من سقط من علو ، فهو لا يدري ما هو مآله ؟ إما أن تخطفه الطير ، وإما أن يسقط وتذروه الرياح في مكان سحيق .

( ومن الفوائد )

أن المغيرة – رضي الله عنه – شرُف بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنه كان من كبائر قبائل ثقيف ، ومع ذلك كان خادما للنبي صلى الله عليه وسلم – سبحان الله – انظروا ماذا يصنع الإيمان في النفوس ، لماذهب إلى ثقيف في أوائل دعوته ، ماذا صنعوا به ؟ رموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين – صلى الله عليه وسلم – لكن ما هو الحال ؟ تغير كثير منهم ، ولذلك لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما استقر له الأمر ، قالوا ” نبايعك ولكن لا تطلب منا جهادا ولا صدقة ، قال بايعتكم ، فقيل كيف يا رسول الله ؟ قال سيصدقون وسيجاهدون ) فإذا وقر الإيمان في القلب سيصدقون وسيجاهدون  .

( ومن الفوائد )

أن حمل أو تقريب نعال من له قدر من أب أو من عالم أو نحو ذلك لا بأس به إذا لم تكن هناك مهانة لهذا الحامل “

وكان ذلك من رغبة في نفسه ، ولا يكون في ذلك تقليل من شأنه ، لأن المغيرة – رضي الله عنه – أراد أن ينزع خفي النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو يرى أن ذلك شرف له ، وبالفعل شرف له .

 

 

( ومن الفوائد )

أن ( الفاء ) في قوله ( فأهويت )

نوعها ” تفسيرية ” لأن الوضوء لم يكتمل بعد .

( ومن الفوائد )

” تعليم الجاهل وإرشاده “

ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة فقال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين )

( ومن الفوائد )

أن هذا الحديث من الأحاديث المتأخرة ، ويكون من جملة الأحاديث التي يرد بها على من قال  ” إن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في سورة المائدة “

ما هو وجه الرد  ؟

وجه الرد : أن آية الوضوء فرضت في غزوة ” المريسيع ” فهي متقدمة ، بعضهم قال ” سنة أربع ، وبعضهم قال سنة خمس “

بينما غزوة تبوك في السنة ” التاسعة ” فأنَّى لمتقدم أن ينسخ متأخرا ؟

( ومن الفوائد )

” أن الفعل إذا كان معتلا وأريد الأمر به ” يحذف الحرف المعتل “

وحروف العلة ثلاثة [  الواو – الألف – الياء ]

كم عدد حروف الهجاء ؟ ” ثمانية وعشرون حرفا”

كلها أحرف صحيحة إلا ثلاثة [  الواو – الألف – الياء ]

فإذا كان حرف العلة في أوله يسمى ” المثال “

مثل ” ودع ” يعني ترك  ، ولذلك لما أردنا الأمر حذفت الواو ، قال صلى الله عليه وسلم :

( دعهما ) يعني اتركهما .

وإذا كان حرف العلة في الوسط يسمى” أجوف “

مثل : ” قال  – باع ”

وإذا كان حرف العلة في آخره يسمى  ” ناقص “

مثل : ” قضى – هوى ”

( ومن الفوائد )

” أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المغيرة رضي الله عنه بترك الخفين أبان له العلة “

ما هي العلة ؟

( فإني أدخلتهما طاهرتين )

والتنصيص على العلة فيه فوائد ، منها :

” أن العبد يطمئن ” لما يعلم بالحكمة من ذلك الأمر يطمئن حينما يفعله ، وإذا علم بالحكمة في ذلك النهي اطمئن حينما يتركه .

وإذا لم تعلم الحكمة : يكون أبلغ في الانقياد والاستسلام لشرع الله عز وجل ، ولذلك علينا أن نعمل بما جاء به الشرع ، علمنا الحكمة أو لم نعلم

ومن فوائد التنصيص على العلة :

أن نعلم أنه ما من حكم شرعي إلا وله حكمة ، لأن الله عز وجل لا يأمر عبثا ، ولا يشرِّع عبثا ، قال تعالى :

{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }الإنسان30

فإن جهلنا الحكمة فهذا لقصور في أفهامنا  .

ومن فوائد التنصيص على العلة :

نقيس على هذه العلة ما يشابهها ، فإذا علمنا بالعلة استفدنا أن كل شيء يتضمن هذه العلة فإنه يكون كحكمه .

( ومن الفوائد )

أنه قوله ( فإني أدخلتهما طاهرتين )

استدل به شيخ الإسلام رحمه الله : على أن المسلم له أن يمسح إذا توضأ فغسل القدم اليمنى ثم لبس ، ثم غسل القدم اليسرى ثم لبس .

لم ؟

قال لأن الحديث يصدق عليه أنه أدخل القدمين طاهرتين ، فسواءً أدخل الخفين بعد كمال الطهارة أو قبل كمال الطهارة ، فالأمر في ذلك سواء عند شيخ الإسلام رحمه الله .

بينما كثير من العلماء يرون خلاف ذلك ، وأنك لا تلبس الخفين إلا بعد أن يكتمل الوضوء .

ما الدليل ؟

ما ذكر هنا ، قال ( فإني أدخلتهما طاهرتين )

الجملة هنا حالية ، حالة كونه عليه الصلاة والسلام أدخل الخفين بعد طهارة القدمين ، ولذا جاء في رواية أبي داود :

( دعهما فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان )

وفي حديث آخر :

( توضأ فمسح )

ومعلوم أن الوضوء لا يصدق إلا إذا فرغ منه كله .

وهذا هو الراجح  .

( ومن الفوائد )

أن هنا ” إيجاز حذف “

فالإيجاز نوعان :

النوع الأول : إيجاز حذف .

النوع الثاني : إيجاز معنى ، وهو الأبلغ ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بجملة يدخل تحتها كثير من المعاني ، هذا هو إيجاز المعنى  .

أما هنا ” فإيجاز حذف ( فمسح عليها )

يعني ” فأحدث فمسح عليهما ”

لأن المسح لا يكون إلا بعد الحدث ، هنا إيجاز حذف كلمة ، قد يكون هناك إيجاز حذف حرف، أو إيجاز حذف جملة ، أو إيجاز حذف جمل .

هنا إيجاز حذف كلمة ، كما في قوله تعالى في الصائم المسافر أو المريض :

{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }البقرة184 كيف يكون المعنى ؟ لو أخذ بظاهر هذه الآية أن كل مريض وكل مسافر عليه القضاء ولو لم يفطر في مرضه ولو لم يفطر في سفر ه  ، هذا هو الظاهر ، لكن هنا فيه إيجاز حذف :

{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فأفطر { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.

( ومن الفوائد )

أن بداية المسح على الخفين من المسح بعد الحدث – وهذا هو الصواب – إذاً البداية لا تكون من لبس الخف ، ولا تكون من الحدث ، وإنما تكون من المسح بعد الحدث ، وسيأتي معنا إن شاء حديث علي ونفصل فيه أكثر وأكثر  .

 

 

( ومن الفوائد )

أن المسح كما دلت عليه جملة ( فمسح عليهما )

تدل على أن المسح على الخفين لا يكون إلا على الأعلى ، أما الأسفل والعقب فإنهما لا يمسحان ، وهل يستحب مسحهما أم لا ؟ سيأتي معنا في الرواية التي أوردها ابن حجر رحمه الله .

قال رحمه الله :

وللأربعة عند إلا النسائي :

( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله )

وفي إسناده ضعف .

( من الفوائد )

أن قوله ( الأربعة ) يختلف عن قوله ” رواه الثلاثة أو رواه الخمسة ، أو رواه السبعة “

فقوله ( رواه الثلاثة ) فالمراد ” أصحاب السنن إلا ابن ماجه “

وأصحاب السنن هم [ أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ]

فرواه  ( الثلاثة ) جميع أهل السنن ما عدا ابن ماجه ، ولذا قال هنا ( رواه الأربعة إلا النسائي ) لم لمْ يقل ( رواه الثلاثة ) ؟

لأن ابن ماجه قد رواه .

وإذا قال ( رواه الخمسة ) فالمراد ” أهل السنن مع الإمام أحمد في مسنده “:

وإذا قال ( رواه الستة ) فالمراد ” أهل السنن مع البخاري ومسلم .

وإذا قال ( رواه السبعة ) فالمراد ” أهل السنن مع البخاري ومسلم مع الإمام أحمد .

وإذا قال ( رواه التسعة  ) فالمراد ” أهل السنن مع البخاري ومسلم مع الإمام أحمد والإمام مالك في موطئه والدارمي ” .

وإذا قال ( رواه الجماعة ) فالمراد ” أهل السنن والبخاري والمسلم وأحمد “

( ومن الفوائد )

أن هذه الزيادة فيها فائدة : أنه كما يمسح على أعلى الخف يمسح الأسفل ، لكن هذه الزيادة ماذا قال عنها ابن حجر رحمه الله ؟

قال ( وفي إسناده ضعف )  وضعفها كثير من الأئمة ، ومما يدل على ضعفها حديث علي الآتي ، قال : ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه )

لكن بعض العلماء – وهو السندي كما في شرحه لسنن ابن ماجه – قال ” إن تضعيفهم لهذا الحديث لجهالة كاتب المغيرة ، واسمه ” ورَّاد ” .

وبالتالي فقد ذهبت الشافعية إلى أنه يستحب أن يمسح أسفل الخف .

إذاً ماذا تقولون في حديث علي رضي الله عنه الآتي ؟

قالوا : نقول ” إنه لا يمنع أن يمسح أحيانا أسفل الخف استحبابا مع أعلاه “

ولكن الصواب ما ذهب إليه الأكثر من أن الحديث ضعيف ، وأن المسح لا يكون إلا على أعلى الخف فقط .

وسيأتي لهذه المسألة مزيد كلام إن شاء الله تعالى في الحديث الآتي .