شرح ( بلوغ المرام )
كتاب الطهارة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
وعن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل ، أو الرجل بفضل المرأة ، وليغترفا جميعا )
أخرجه أبو داود والنسائي ، وإسناده صحيح .
الشرح :
يستفاد من هذا الحديث :
أن ابن حجر رحمه الله نص على تصحيحه ، ليدفع قول من يقول بأنه مرسل باعتبار أن الراوي مجهول ، فإن الراوي صحابي ، وجهالة الصحابي لا تضر ، لأنهم رضي الله عنهم كلهم عدول ، وليدفع تضعيف ابن حزم ، وليدحض ما نقله النووي رحمه الله ، وقد نقل ذلك في الفتح ، ليدحض ما نقله النووي رحمه الله من إجماع المحدثين على تضعيف هذا الحديث .
ومن الفوائد :
أن فقهاء الحنابلة اشتهر عندهم أن المرأة إذا خلت بماء فإنه يكره في حق الرجل أن يتطهر به .
ومن الفوائد :
أن هناك غرابة فيما ذهب إليه الحنابلة، فإنهم ذكروا حكمه في حق ما فضل من المرأة ، ولم يذكروا حكم ما فضل من الرجل ، مع أن الحديث أتى بهما كليهما ، فالحكم واحد ولا مسوغ لتخصيص الرجل في هذه المسألة
ومن الفوائد :
أن النهي يزول إذا اغترفا جميعا ، ولذلك جاء في صحيح البخاري ( أن الرجال والنساء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتوضئون من إناء واحد )
محتمل أن الرجال والنساء فيما يتعلق بالمحارم ، أو الرجال إذا فرغوا دخل بعد ذلك النساء ، والاحتمال الأول أقوى وأقرب
ومن الفوائد :
أن الأصل في النهي هو التحريم ، وقيل بالكراهة هنا لأن الحديث الآتي وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة ، وسيأتي له شرح إن شاء الله .
ومن الفوائد :
أن الحكمة من النهي قال عنها الفقهاء إنها حكمة تعبدية ، وقد بحثت كثيرا في الحكمة فلم أجد أحدا تحدث في ذلك ، ولكن ليعلم أنه ما من حكم شرعي إلا وله حكمة ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يشاء شيئا إلا لحكمة { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } الإنسان30 ، فما من حكم شرعي أو دليل شرعي إلا وتضمن مصلحة أو درء مفسدة ، فلا يمكن أن يشرع الله سبحانه وتعالى شيئا دون أن تكون هناك حكمة ، لكن هذه الحكمة قد يتعذر على العلماء أو على بعضهم الوصول إليها ، فإذا تعذر لدى العلماء الوصول إلى الحكمة اصطلحوا على أن يكون هذا تعبدياً ، يعني أن عليك أيها العبد أن تتعبد الله بهذا الشيء، إما بالترك إذا كان نهيا وإما بالفعل إذا كان أمرا .
ومن الفوائد :
أن الماء لا يُحد بقدر في الاغتسال ، فلا يقدر لا بصاع ولا هو ما أعلى ولا ما دون ذلك ، فليس هناك تحديد شرعي يُلزم به العبد ، بدليل أنه قال ( وليغترفا جميعا ) فلربما اغترف أحدهما أكثر من الآخر .
ومن الفوائد :
أن الماء المستعمل بالمشاركة بإزالة الحدث لا يتأثر بوضع أيدي المحدثين فيه ، ولا يكون هناك حكم بالكراهة ، إنما يكون الحكم بالكراهة فيما لو أن الإنسان غسل أعضاءه ونزل هذا الماء في إناء وأتى شخص يستعمله ، أيكره في حقه أن يستعمله في رفع الحدث أم لا ؟
قولان : والصواب / عدم الكراهة لعدم الدليل .
ومن الفوائد :
أن لفظ المثنى قد يُطلق عليه لفظ الجمع ، لأنه قال ( وليغترفا جميعا ) ولم يقل وليغترفا كلاهما ، بل إن الأفصح في اللغة أن المثنى إذا أضيف إلى جمع أنه يجمع من باب المشاكلة ، كما قال تعالى { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}التحريم4 وهذا في شأن عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، وليس لهما قلوب ، وإنما لهما قلبان ، فلم يقل: قلباكما ، وإنما أتى بالجمع .
ومن الفوائد :
أن هذا الحكم مختص بالبالغين ، لأنه قال ( المرأة – والرجل ) وهذا يصدق على البالغين .
ومن الفوائد :
أن التراب يخرج من هذه المسألة ، لعدم النص على ذلك ، لأن المذكور هو الماء ، وأين دلالة الماء مع أنه ذكر الغسل فقط ؟ الدلالة في قوله ( وليغترفا).
ومن الفوائد :
قول ابن حجر رحمه الله ( إسناده صحيح ) بعض المحدثين إذا صحح حديثا يستوي عنده أن يقول إسناده أو سنده صحيح .
وبعض المحدثين يفرق ، فإذا قال سنده صحيح يعني أن عليه العهدة في متنه وفي سنده ، أما إذا قال إسناده صحيح ، كأنه يقول : أنت أيها القارئ ليس علي عهده إلا في إسناده ، أما متنه فقد يكون فيه ما فيه ، فلتتأمل ولتنظر فيه .
الحديث ينقسم باعتبار درجته إلى صحيح وحسن وضعيف ، ولا يدخل في ذلك الموضوع لأنه مختلق فليس بحديث .
بينما المتقدمون يدخلون الحسن في الصحيح ، فيقولون إن أقسام الحديث باعتبار درجته قسمان : صحيح وضعيف .
وتعريف الصحيح عند أهل الحديث : [ ما رواه عدل تام الضبط بسند متصل وقد خلا من الشذوذ والعلة ] فإذا رواه عدل في ديانته ، تام الضبط ، بسند متصل ليس فيه انقطاع ، وقد تتوفر هذه الأشياء فيكون الراوي عدلا ، تام الضبط ، والسند متصل ، ولكن قد يعتريه ما يعتريه من الشذوذ أو العلة ، فيُرد .
أما الحديث الحسن : فمثل هذا التعريف ، اللهم إلا أنه تغير فيه كلمة ، [ ما رواه عدل خفيف الضبط بسند متصل وقد خلا من الشذوذ والعلة ]
والصحيح ينقسم إلى قسمين : صحيح لذاته ، وصحيح لغيره .
والحسن ينقسم إلى قسمين : حسن لذاته وحسن لغيره ، ولعل إن شاء الله يأتي ما يزيد هذا الأمر وضوحا .
فقد يكون الحديث إسناده صحيحا ، لكنه بعضهم يضعفه باعتبار أن هناك علة خفية خفيت على من صححه ، وأن هذا الحديث فيه شذوذ ، إما شذوذ في السند وإما شذوذ في المتن ، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله يقول : إن من أشرف علوم أهل الحديث هو علم علل الحديث ، إذ به يعرفون علل الحديث ، فقد يكون الحديث في صحيح البخاري ومن الأمثلة ( أن الله سبحانه وتعالى إذا ألقى في النار من يلقي فيها يخلق قوما ويضعهم فيها ) مع أن هذا ورد في أهل الجنة ، إذاً هنا ما يؤكد ويقرر بأن الحديث الأول فيه علة ، ولا يمكن أن يصح ، فلو قال قائل : لماذا قدمت هذا على ذاك ؟
نقول : إن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئا { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} فصلت46 ، فهو إن أعطى أعطى بفضل منه ، وإن عذب فبعدله، بل إنه لا يريد الظلم { وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ }آل عمران108 ، فإذا كان سبحانه لا يريد الظلم فكيف يظلم جل وعلا .
ولذا لو أن عالما أو محدثا قال : هذا الحديث رجاله رجال الصحيح ، كما هو شأن الهيثمي رحمه الله في مجمع الزوائد ، وأحيانا يقول رجاله ثقات ، وأيضا المنذري في الترغيب والترهيب أحيانا ، يذكر هذا الشيء ، وحتى ابن حجر رحمه الله أحيانا في الفتح يتبع شيخه الهيثمي ، فيذكر أن هذا الحديث إسناده ثقات ، فإذا نُص على أن رجاله رجال الصحيح أو أن إسناده ثقات ، فلا يعني أن الحديث صحيح ، لأنه لو كان صحيحا عنه لصححه ، فقد يكون الرجال ثقات أو رجال الصحيح ، لكن يمكن أن يكون هناك انقطاع .