شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 63 ) حديث 71 (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا … )

شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 63 ) حديث 71 (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا … )

مشاهدات: 547

شرح كتاب ( بلوغ المرام  )  ـ الدرس 63 حديث 71

( باب نواقض الوضوء  )

فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :

( أما بعد )

فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا ، فأشكل عليه : أخرج منه شيء أم لا ؟

فلا يخرجنّ من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا )

أخرجه : مسلم .

أخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وكذلك أخرج البخاري ومسلم حديث ” عبد الله بن زيد رضي الله عنه ” بما يقرب من هذا السياق ، فمن الفوائد :

أن هذا الحديث دليل للقاعدة الشرعية الكبرى

[ اليقين لا يزول بالشك ]

ثم فرَّع العلماء قواعد أخرى تلتقي مع هذه القاعدة الكبرى ، قد تمر بك قاعدة في كتب أهل العلم [ اليقين لا يزول بالشك ] فدليلها ما ذكر هنا

تمر بك قاعدة أخرى [ اليقين لا يزول إلا بيقين ]

دليلها ما ذكر هنا .

تمر بك قاعدة [ الأصل بقاء ما كان على ما كان ]

دليلها ما ذكر هنا .

تمر بك قاعدة [ لا عبرة بالتوهم ]

دليلها ما ذكر هنا .

وهذه القاعدة مفيدة لطالب العلم ، ليس فيما يخص الوضوء والطهارة فحسب – لا – بل في أبواب الفقه  [ اليقين لا يزول بالشك ]

ومن أمثلتها ما ذُكر هنا ، تصور لو أن الإنسان كان على طهارة من الحدث  الأصغر فأشكل عليه الأمر هل انتقض وضوؤه أم لا ؟

نقول : وضوؤه باقٍ للقاعدة [ اليقين لا يزول بالشك ] و [ الأصل بقاء ما  كان على ما كان ]

والأصل ما هو ؟ الوضوء ، فيبقى على ما كان .

وقاعدة [ اليقين لا يزول إلا بيقين ]

واليقين هو ” الوضوء ” والذي يرفع هذا اليقين ؟ يقين آخر ، وهو يقينك بأنه خرج منك شيء .

ومن الأمثلة / لو أن المرأة شكَّت في رضاع فلان من الناس ، ما تدري هل أرضعته أم لم ترضعه ؟

أيكون ابنا لها من الرضاع ؟

الجواب / لا ، لم ؟

لأن الأصل [ بقاء ما كان على ما كان ] وهي أجنبية عنه  ، فالأصل ” عدم الرضاع “

ومن الأمثلة /

لو أن المرأة تيقنت أنها أرضعت فلانا من الناس ، ولكنها شكَّت هل أرضعته خمس رضعات أو أربع رضعات أو ثلاث رضعات، فالرضاع المُحرِّم ” خمس رضعات فأكثر ” فما الحكم هنا ؟

الجواب / أن الأصل عدم الرضاع ، فنقول هي أجنبية عنه وليست أُمَّاً له .

ومع الشك في الرضاع يستحب جمع من العلماء أن يحتاط في هذا ، بمعنى أن أبناءها لا يتزوجون بهذه المرتضعة ، لأن بعض العلماء يرى أن الرضاع يحصل ولو برضعة واحدة ، وبعضهم برضعتين ، وبعضهم بثلاث رضعات ، فيقال من باب أن يكون الإنسان بعيداً عن الشبهة مما رآه بعض العلماء – وهو رأي مرجوح – فيقال ابتعد عن هذا .

” ومن الأمثلة “

لو أن الرجل شكَّ هل طلَّق زوجته أم لم يطلقها ؟ هو كان ناوياً ، لكن ما يدري هل أوقع الطلاق أم لم يوقعه ؟

الأصل عدم وقوع الطلاق ، لأن الأصل بقاء النكاح ، وبالتالي فإنه لا يحسب عليه طلاق .

” ومن الأمثلة “

لو أنه تيقن أنه طلَّق ، لكن شك هل هذه الطلقة التي صدرت منه هل هي الثالثة أم الثانية ؟

نقول : هي الثانية .

” ومن الأمثلة “

لو أن الإنسان أراد أن يصلي في مكان كاستراحة أو نحو ذلك ، فشك هل هذا المكان طاهر أم أنه غير طاهر ؟

فالأصل طهارة الأرض ، فصلاته صحيحة .

الشاهد من هذا / أن العلماء استنبطوا من هذا الحديث قاعدة وهي [ اليقين لا يزول بالشك ]

وبالتالي فإن هذا الحديث علاج لمن ابتلي بالوسوسة في طهارة أو في صلاة أو في نحو ذلك ، فإن عليه أن يأخذ باليقين وألا يخضع لوساوس الشيطان ، فعنده اليقين ، ولذلك لو أتانا شخص وقال أنا شككت تسعة وتسعين في المائة أني أحدثت ، ماذا نقول له ؟

نقول : الشك لا يعتبر ووضوؤك صحيح ، لكن بعض العلماء استحب إذا عظم الشك أن يتوضأ استحبابا ، وهذا الحكم من هؤلاء العلماء ليس في شأن من ابتلي بالوسوسة  ، وإنما في الشخص العادي ، أما من ابتلي بالوسوسة فلا يقال له يستحب لك أن تعيد ، نقول وضوؤك صحيح ، ولذلك علاج هؤلاء الموسوسين إذا سألك وقال معي شك أن وضوئي انتقض ، فقل له بنسبة كم ؟

إن قال مائة بالمائة فيقال حينها انتقض وضوؤك ، لكن قال ” تسعة وتسعين بالمائة ” نقول لا ، لم ؟

لأن طهارتك كانت مائة بالمائة ، فلا تعدل عنها إلا بيقين مائة بالمائة .

( ومن الفوائد )

أن الشيطان حريص على أن يقلق ابن آدم في عبادته ، فإنه لما عجز عن أن يأتيه من طريق الذنب أتاه من طريق العبادة حتى ينفره منها ، ولذلك بعض الموسوسين إذا كثرت عليه هذه الوساوس انزعج من الصلاة وكأن الصلاة والوضوء بمثابة الجبال التي تكون على رأسه .

بينما العبادة في الحقيقة هي راحة وأُنس ، فأراد الشيطان أن يفقده هذا الأنس حتى يدع في مستقل أمره هذه العبادة .

( ومن الفوائد )

جاءت رواية في غير الصحيح ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

( إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ في مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا )

فهذه الرواية تفيد / أن الشيطان بشتى الطرق والسائل يريد أن يحزن ابن آدم .

وقد جاءت رواية ( أنه يحرك شعرة من دبره )  ولكن فيها ضعف .

فالحذر الحذر من الشيطان .

( ومن الفوائد )

أن من وقع في هذه الوسوسة ينتهي أمره إلى أن يكون من غير العقلاء ، كونه يجلس في دورات المياه ساعة أو ساعتين ، أو في الدخول في الصلاة ساعة أو ساعتين أو أكثر أو أقل ،فهذا ليس من فعل العقلاء .

فيقال : إن العقل السليم يوافق ما جاء في هذا الحديث ، لأن العقل السليم يأمر بالشك أم يأمر باليقين ؟

يأمر باليقين ، فدل هذا على ماذا ؟

على أن من لم يأخذ بهذا الحديث فليس من العقلاء ، وبالتالي من حيث الواقع ، نرى أن من لم يأخذ بهذا الحديث فإنه يشبه حال من زال عقله ، يقول – مثلا – لم يكتمل وضوئي – سبحان الله – الماء يتقاطر من يديك بغزارة ، ومع ذلك تقول لم أغسل يدي ؟ !

تقول ” الله أكبر ” دخولا في الصلاة وتقول لم أنوِ ، فهذا هو العقل أم الجنون ؟ الجنون ، فنسأل الله عز وجل لهم الشفاء .

( ومن الفوائد )

” أن من دخل في صلاة الفرض فإنه لا يجوز له أن يقطعها “

ولذا قال صلى الله عليه وسلم :

( فلا يخرجن من المسجد )

هذا يشار به إلى أن هذه صلاة فرض ، وصلاة النفل داخلة ، لكن الأدلة الشرعية الأخرى أخرجت النفل ، فمن حق المسلم أن يقطع النافلة من صلاة أو صيام  ، ولذلك قال ابن قدامة رحمه الله كما في المغني :

” انعقد الإجماع على جواز قطع كل نافلة إذا شرع فيها المسلم إلا نافلة الحج والعمرة “

فأي نافلة دخلت فيها فلك أن تقطعها إلا نافلة الحج والعمرة ، ولا يعني هذا أن الإنسان يقطع النافلة استحبابا – لا – وإنما لو شاء أن يقطع فله ذلك ولا يأثم .

فخلاصة القول / أنه لا يجوز أن يقطع الفرض إلا بسبب معتبر شرعا ، ولذلك قال ( فلا يخرجن ) والنهي يقتضي التحريم .

ولو قال قائل / ما هو الدليل على القاعدة التي يذكرها الفقهاء وهي :

[ من دخل في فرض موسَّع حرم عليه قطعه إلا لضرورة ]

الدليل / هنا ، قال ( فلا يخرجن )

وهذه قاعدة تشمل جميع الفرائض ، فلو أن الإنسان عليه قضاء من رمضان فنوى الصوم ، فلما جاء الظهر قال أفطر – من غير ضرورة – أو أن المرأة صائمة وأراد زوجها أن يجامعها ويفسد صومها فإن هذا الفعل محرم ، ولا يجوز له أن يقطع صوم القضاء – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله – ليقضي شهوته .

لكن لو أنه خشي عليه أن يقع في الزنا ، فهل يجوز ؟

نعم يجوز ، لأن هذه حالة ضرورة .

( ومن الفوائد )

” أن اليقين في نقض الوضوء أن يسمع صوتا أو أن يجد ريحا “

لو قال قائل : يخرج أحيانا من الإنسان ريح ولا يسمع لها صوتا ولا يجد لها ريحا ، أفيكون وضوؤه صحيحاً ؟

لا يكون صحيحا مع أنه صلى الله عليه وسلم علَّق الحكم بسماع الصوت أو بوجود الرائحة ، لكن ذكر ” الصوت والرائحة ” من باب الغالب ، لأنه ذُكر في ثنايا الحديث ( فأشكل ) فإذا حصل إشكال وهذا الإشكال نابع من الشيطان فلا تنصرف إلا بيقين .

لو أتى إنسان وقال أنا متأكد أن هناك شيئاً خرج مني ، فقلنا له أسمعت صوتا ؟ قال لا ، أوجدت رائحة ؟ قال لا ، فماذا نقول له ؟

نقول / ينتقض وضوؤك  .

لو أتى شخص ومعه وسواس ،وقال أنا متأكد مائة بالمائة أنه خرج مني شيء ؟

نقول / لا تنصرف حتى تسمع صوتا أو تجد ريحا ، لأن مثل هذا أدنى ما يكون من الشك يأخذ به ، فلا ينفع معه علاج إلا أن يقال له خذ بهذا الحديث .

( ومن الفوائد )

أن القاعدة الأصولية تقول :

[ إن النص إذا جاء لبيان الغالب فلا مفهوم له ]

قال هنا :

( حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا )

مفهومه / أنه إذا لم يسمع صوتا ولم يجد ريحا فإنه باقٍ على وضوئه ولو تيقن خروج الريح من غير سماع صوت أو وجود رائحة .

فيقال / هذا المفهوم غير معتبر ، لم ؟

لأن النص جاء في سياق الغالب ، وما كان في سياق الغالب فلا مفهوم له .

مثال / الله عز وجل لما ذكر المحرمات على الرجل ، قال :

{ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ }النساء23

الربيبة : هي بنت الزوجة من غيرك ، تزوجت امرأة ولها بنت من رجل آخر ، أيجوز لك أن تتزوج بهذه الربيبة  ؟

لا يجوز ، لكن الآية  { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم } مفهوم الآية أنها لو لم تكن في حجري ولم تكن تحت تربيتي فيجوز ، هذا ظاهر الآية .

نقول / هذا النص جاء في سياق الغالب، لأن الغالب أن المرأة إذا كانت معها بنت وتزوجت أنها تطلب أن تكون ابنتها معها ، إذاً هذا المفهوم لا يعتد به .

( ومن الفوائد )

” أن الشرع حرَّص وأكد على اليقين “

ماذا قال هنا ؟

( حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا )

لم يقل ” يشم ريحا “

حسب بحثي – وعدم العلم لا يدل على العدم – لم أجد ” حتى يشم ريحا ” كل الروايات حسب معرفتي ( حتى يجد ريحا )  مع أن الريح لا يوجد وإنما يشم ، فلماذا عبَّر بالوجود ؟

من باب زيادة اليقين ، بمعنى أن هذه الريح ملكت عليه جميع حواسه ، ليس الأنف فقط ، بل كأن هذه الريح حسَّ بها جميع بدنه ، من باب اليقين ، ولذلك قال عز وجل عن يعقوب عليه السلام :

{ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ }يوسف94.

لم يقل ” إني لأشم ” مما يدل على أن يوسف عليه السلام ملك قلب يعقوب ملكا كبيرا إلى درجة أن ريح يوسف لم يحصر في أنفه عليه السلام بل في جميع بدنه  .

( ومن الفوائد )

” بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يشكل عليهم  “

ولذلك على المسلم أن يسأل عما يشكل عليه  كما جاء في الرواية الأخرى .

( ومن الفوائد )

” أن ” قرقرة البطن ” لا تؤثر في الوضوء ولو كانت من أسفل البطن “

فإذا سمع الإنسان قرقرة في بطنه ولو كانت من أسفل البطن فلا يلتفت إليها في بطلان وضوئه ، فالأصل بقاء الوضوء ولا يعدل عنه إلا إذا تيقن .

( ومن الفوائد )

” أن هذا الحكم عام في المسجد وخارج المسجد ، وداخل الصلاة وخارج الصلاة “

قال هنا ( فلا يخرجن من المسجد ) وليس المقصود المسجد تحديدا ، بل المقصود من ذلك أنه يبقي طهارته على الأصل  .

( ومن الفوائد )

الرد على ما ذهب إليه بعض العلماء إذ قال ” يكره للمسلم أن يخرج  الريح في المسجد “

فإذا أراد أن يخرج الريح فليخرج من المسجد ، فيقال هذا الحديث يرد به عليك ، قال :

( فلا يخرجن من المسجد )

فدل هذا على أنه قد يقع من بعض الناس خروج ريح في المسجد .

ولذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين لما بين فضل المجيء إلى المساجد

( لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة ) قال ( ولا تزال الملائكة تصلي عليه تقول ” اللهم ارحمه ” ما لم يؤذ فيه ، ما لم يحدث ) والحدث هنا هو ( حدث الوضوء ) كما جاء عند أبي داود ، فدل على أن الحدث في المسجد لا إشكال فيه .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد .