شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 83 ) حديث 98 ( من أتى الغائط فليستتر )

شرح بلوغ المرام ـ الدرس ( 83 ) حديث 98 ( من أتى الغائط فليستتر )

مشاهدات: 455

شرح كتاب ( بلوغ المرام  )حديث 98

فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــ

( أما بعد :

فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

{ مَنْ أَتَى اَلْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ }

رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

 

( من الفوائد )

أن الشرع أمر بالتستر حال قضاء الحاجة “

والاستتار هنا أمر صيغته ” الفعل المضارع مع لام الأمر “

لأن صيغ الأمر أربع صيغ

هذا الأمر هل هو للوجوب أم للاستحباب ؟

الجواب /

يقتضي الوجوب إذا ترتب على عدم التستر ظهور للعورة ويقتضي الاستحباب إذا لم تظهر العورة  .

( ومن الفوائد )

أن كلمة ( مَنْ ) اسم شرط ” وأسماء الشرط تفيد العموم “

فيكون هذا الخطاب موجهاً لكل من له عورة يسوؤه النظر إليها ، لأن عورات الناس تختلف من حيث الحكم الشرعي ، ولذا قال الفقهاء ” إن من دون سبع سنين لا حكم لعورته “

وذك لأنه لم يبلغ سن التمييز ، ولا يشتهى ولا يحرص على عورته ، ولا شك أن ما قالوا حق ، لكن إن تغير الزمان وضعفت النفوس وأصبح بعض الناس تشرئب نفسه إلى رؤية العورات ولو لمن دون سبع سنين فإن الحكم يختلف ، أو من عورته دون سبع سنين تكون جذابة كعورة الكبير ، لأن البشر يختلفون حتى فيما يخص النساء ، فقد تكون البنت عمرها ست سنوات وفيها من نماء الجسم ليس عند بنت سنها عشر سنين ، فالأصل أن من دون سبع سنين لا حكم لعورته ، لكن إن جاء أمر آخر من تغير الزمن ، وغلبة الهوى ، أو أن هذه العورة ينظر إليها تلذذا كعورة الكبير ،هنا يأتي المنع .

وذكر الفقهاء أن من بلغ سبع سنين إلى عشر عورته ” السوءتان ” وهما الفرج والدبر ” أما الفخذان فلا ، ويقال فيه ما قيل في المسألة السابقة ، لو تغير الزمن أو اشتهي النظر إلى فخذي من فوق سبع سنين ودون عشر سنين ، فيأتي المنع .

أما من عورته : ” فوق عشر سنين ” فإنها عورة من السرة إلى الركبة “

قال صلى الله عليه وسلم : ( غط فخذك فإن الفخذ عورة )

ومسألة كشف الفخذ بالنسبة إلى من هو فوق عشر سنين ، مسألة مختلف فيها /

بعض العلماء يرى أن عورة الكبير السوءتان وما قرب منهما ، وأما الفخذ فليس بعورة .

لكن بالنسبة إلى تغطية الفخذ في الصلاة أمر لابد منه ، لأنه من الزينة المأمور بها في قوله تعالى :

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ }الأعراف31

ولأنه صلى الله عليه وسلم قال في الثوب :

( إن كان ضيقا فاتزر به )

وإذا اتزر به ألا يغطي فخذه ؟ بلى ، هذا فيما يخص الصلاة .

لكن فيما يخص النظر  /

إن نظر تلذذا أو غلب الهوى فكما قيل .

لكن إن لم يكن فهل الفخذ عورة أم لا ؟

قولان لأهل العلم /

بعض العلماء يرى أن الفخذ عورة من حيث النظر ، ويستدلون بحديث جرهد ( غط فخذك فإن الفخذ عورة )

ولحديث لا بأس به ويصح أن يكون في الصلاة :

( عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة )

القول الثاني :

أن الفخذ ليس بعورة ، لكنه مأمور بتغطيته .

أولا  / أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس :

( رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر قد كشف عن فخذه )

قال البخاري رحمه الله :

” حديث أنس أصح وحديث جرهد أحوط “

ثانيا :

أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب فخذ بعض الصحابة “

ولو كان الفخذ عورة ما ضرب .

فخلاصة القول ” أن على المسلم أن يحفظ عورته “

ولذا قال صلى الله عليه وسلم لما سئل :

( عوراتنا ما تأتي منها وما نذر ؟ قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك “

ولذا لما رأى ابن القيم رحمه الله اختلاف العلماء في هذه المسألة قال :

” إن العورة نوعان : عورة مغلظة وعورة مخففة  “

فالعورة المغلظة ” الفرج والدبر ”

والعورة المخففة ” الفخذ “

وكما أسلفت لكم إذا تغير الزمن فإن الحكم يختلف ، وللأسف أن هذا الزمن قد ظهرت فيه ناشئة من الشباب يظهرون شيئا من عوراتهم بلبس بعض السراويل ، وهذا يدل على ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة ، كما قال ابن القيم رحمه الله ، وإذا ذهب الحياء ذهبت الحياة وبالتالي حلَّ الموت ، فيكون الإنسان سائرا بين الناس حي من حيث الصورة لكنه في الحقيقة ميت .

فـ ( من ) اسم شرط يفيد العموم ، فكل من له عورة له حكم تأخذ هذا الحكم .

( ومن الفوائد )

أن السنة القولية والفعلية منه صلى الله عليه وسلم أتت بالتستر ، فالسنة القولية : ما جاء في هذا الحديث ( من أتى الغائط فليستتر )

السنة الفعلية : ما مر معنا في حديث المغيرة ( أنه كان يتوارى صلى الله عليه وسلم )

( ومن الفوائد )

أن الغائط في اللغة ” هو المكان المطمئن المنخفض من الأرض ”

كانوا يحرصون عليه من أجل أنهم يستترون .

فاستعير وأخذ هذا اللفظ ووصف به الخارج من الإنسان من باب التأدب في اللفظ .

وبعض الناس لما يسمع كلمة ” الغائط ” يشينه سماع هذا الاسم ، مع أن هذا الاسم في الحقيقة اللغوية ” أنه المكان المنخفض من الأرض ” بل أن العيب أن يذكر الخارج بلفظه المشين .

والبعض إذا ذكر الغائط قال ” أكرمكم الله ”

والبعض إذا أراد أن يستأذن أصحابه لقضاء الحاجة يقول :

” أستأذنكم أطيِّر الشراب ” وهذا لا دليل عليه ، بل إن التصريح بالبول لا إشكال فيه ، وقد صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فلو قال ” أستأذنكم لأبول أو لأقضي حاجتي ” فلا إشكال في ذلك .

وعلى طالب العلم أن يكون حكيما ، لأن الناس إذا درجوا على أمر عتيق يحتاجون إلى وقت في تغييره ، فتبين لهم أن السنة لم تأت بذكر هذا اللفظ ، فلسنا بأكرم ولا بأغير ولا بأنقى لفظا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى يتبين للناس العلم الشرعي .

( ومن الفوائد )

أن ابن حجر رحمه الله ” نسب هذا الحديث لأبي داود من حديث عائشة “

وقد نبه على ذلك الصنعاني رحمه الله ” قال الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه “

وهذا إن دلَّ يدل على ضعف ابن آدم ولو كان بحرا من العلم ، فابن حجر أمير المؤمنين في الحديث – كما وُصف رحمه الله – وعنده سعة اطلاع ، ولا يعرف سعة علمه إلا من قرأ الفتح الذي هو في الحقيقة فتح من الله على هذا الرجل ، ومع ذلك يأتي الإنسان ما يأتيه من النسيان والخطأ ، وابن شهاب الزهري رحمه الله – كما مر معنا في سنن الترمذي – قال إن ” ذا اليدين هو ذو الشمالين ” مع سعة اطلاعه وغزارة علمه ، وهذا يجعل من في هذا العصر ألا يغتر بالألقاب ، ولا يستكين إليها ، ولا يصغ بسمعه إلى ما يقال فيه من المدح والثناء ، من أنه ” بحر العلوم أو الحافظ أو لا يجاريه أحد- لا – فالكل فيه ضعف ، إذا كان أولئك الأئمة ولو قيس علم من في هذا العصر بعلم شخص واحد كابن حجر رحمه الله ما بلغه ، فليعرف الإنسان قدره ، ولذا قال ابن القيم رحمه الله :

” إذا نظر الإنسان إلى نفسه بعين الاحتقار والازدراء كلما علت نفسه وعلت مراتبه ” لأنه يرى أنه ناقص فيزداد اجتهادا فيصل إلى أعلى المراتب ، لكن إذا نظر الإنسان إلى نفسه بعين العظمة فإنه لن يزداد بل يسقط من حيث لا يشعر .

ولذلك ثناء الناس ما مدح في الشرع ، عند مسلم من حديث المقداد :

( إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا في وجوههم التراب )

في الصحيحين :

( قطعت عنق صاحبك )

وقد يجوز في بعض الأحيان لغرض ولمصلحة ، لكن على سبيل العموم فالأصل أن المدح مذموم ، ولذا كان السلف رحمهم الله يتحاشون هذا ، وتتعب أنفسهم لما يثنى عليهم  ،أما الآن لا يفرح بثناء الناس – لا – بل إنه يبحث عمن يثني عليه  ، الآن بعض القنوات التي تعنى بالشعر ، بعض الناس إذا أراد أن يعلن عن حفلة زواج له انظروا كم يدفع فيها ؟!

مئات الآلاف من أجل أن يظهر ، ثم ماذا ؟ ظهرت يوما أو يومين أو سنة أو مائة سنة ، ثم ماذا ؟ مصيرك إلى التراب .

ولذلك قال بعض السلف :

” المخلص هو من يستوي مدح الناس له وذمهم له “

وهذا يرجع إلى تحقيق النية ومجاهدة النفس ، والنفس ضعيفة ، فلا يقل أحد إني لا أحب الثناء – لا – طبيعة ابن آدم أنه يحب الثناء المدح ، لكن أين المجاهدة ؟ حتى يصل إلى ما وصل إليه الكبار ، بحيث إذا سمع مدح الناس فيه زاده تواضعا وتقربا إلى الله عز وجل ، ولذلك مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، لم ؟ لأن هذا المدح لا يزيده إلا إقبالا على الخير .

مدح صلى الله عليه وسلم أهل بدر ، قال :

( اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم )

لكن لو رؤي صنيع هؤلاء كأنه لم يغفر لهم

وبعض الصحابة قال ” ألا أريكم رجلا من أهل الجنة ، فأراهم عبد الله بن سلام “

بينما نحن لو رؤي أحدنا مع هذا الثناء والتبجيل ، لو رأيته في طاعة الله أين هو ؟ أين هو من قيام الله ؟ أين هو من قراءة القرآن ؟ أين هو من الذكر ؟ أين هو من الصيام ؟

أسئلة يحتاج الإنسان أن يطرحها على نفسه لا أن يطرحها غيره عليه ، حتى يعرف هل ثناء الناس عليه موافق لحاله في الخفاء أم لا ؟

والموفق من وفقه الله ، نسأل الله أن يعصمنا من الزلل .