( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
{ أَكْثَرُ عَذَابِ اَلْقَبْرِ مِنْ البَوْلِ }
وَهُوَ صَحِيحُ اَلْإِسْنَاد ِ
( من الفوائد )
” بيان نجاسة البول “
لو قال قائل : أكل بول يكون نجساً ؟
قال بعض العلماء – وهم الشافعية – :
إن كل بول نجس ” لأنه قال ( البول ) و ( أل ) تفيد العموم ، فيشمل كل بول من آدمي ، من حيوان مأكول اللحم ، من حيوان غير مأكول اللحم .
وأما جمهور العلماء فيرون :
أن البول نجس ويستثنى منه مأكول اللحم فإنه طاهر ، والدليل : ما جاء في الصحيحين :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين لما أصابهم داء في بطونهم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها )
وهذا يدل على طهارتها .
لو قال قائل :
يمكن أن يكون نصحه وإرشاده صلى الله عليه وسلم لشرب بول الإبل من باب أنهم مضطرون فلا يكون دليلا لكم .
فيجاب عن هذا :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم أن يغسلوا الأواني بعد شربها ، وهم حديثو عهد بكفر ، لم يسلموا إلا من قريب ،فهم يجهلون هذا الحكم ، فكونه صلى الله عليه وسلم يسكت يدل على أن بول الإبل طاهر ، ومن ثم يتفرع على ذلك قاعدة وهي :
[ كل ما يؤكل لحم ] من إبل أو بقر أو غنم أو دجاج أو حمام وغير ذلك :
[ كل ما يؤكل لحم فبوله وروثه وقيئه ومنيه طاهر ]
أما غير مأكول اللحم فإنه يكون نجسا .
لو قال قائل:
ما رأيتكم في بول الجن ؟
قال بعض العلماء : إنه طاهر ، لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل – كما في الصحيح – نام الليل كله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
” ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه )
فهل هذا البول حقيقي أم لا ؟
من قال إنه حقيقي يلزمه أن يقول بالطهارة – وقيل بهذا .
وبعض العلماء يقول :
إن هذا البول ليس بحقيقي ، وإنما هو كناية على أن الشيطان زيَّن له النوم الليل كله ، فكأنه بهذا التزيين سدَّ أذنيه كما تسد الأذنان بسائل ، وأحسن ما يناسب الشيطان من السوائل البول .
وهنا فائدة :
” أن الجن والإنس في أصل التكليف واحد “
في التوحيد وفي عموم الأوامر والنواهي ، لكن يختلفون عنا في بعض الأحكام ، من بينها ” ما ذُكر هنا “
( ومن الفوائد )
أن الأمر هنا في قوله :
( استنزهوا من البول )
يقتضي الوجوب ، والاستنزاه من البول :
” أن يتخلص منه إذا وقع عليه وأن يحترز منه إذا خرج منه “
فلو أصاب البول بدنه أو ثوبه فيجب عليه أن يتطهر منه ، كذلك يجب عليه أن يحترز منه قبل أن يصل إليه ، فإذا أراد أن يبول فعليه أن يختار مكاناً لا يرتد عليه بوله منه ، فإن لم يفعل فارتد عليه بوله فيلزمه أن يغسله .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث مقوَّى مدلوله بحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما في الصحيحين :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )
وهذا الحديث استدل به الشافعية على نجاسة جميع أنواع البول ، لأنه قال هنا ( فكان لا يستتر من البول )
والجواب عنه / أن رواية البخاري بينت ( من بوله )
وبول الإنسان نجس ، فلا يدخل في ذلك بول مأكول اللحم
وهذا يعطينا دلالة على أن الاعتناء بالروايات تجعل المسألة أمام طالب العلم جلية واضحة .
فحديث ابن عباس بيَّن أن عذاب من لا يستتر من البول يكون في القبر ، فيتفق الحديثان .
( ومن الفوائد )
أن هناك ما يسمى عند الأصوليين بـ :
بمعنى : أن الشيء المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به “
قال هنا : ( استنزهوا من البول ) أمر بالاستنزاه من البول ، إذاً أيفهم أن الغائط لا يستنزه منه ؟ لا ، بل هو أولى .
فالمسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق .
ولذا لما قال عز وجل عن الوالدين :
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }الإسراء23
فالمسكوت عنه “ الضرب- القتل ” فهل يجوز الضرب ؟ لا ، من باب أولى .
فهذا ما يسمى بـ [ مفهوم الموافقة ] وهو خلاف [ مفهوم المخالفة ] فهو يخالف المنطوق كما مر معنا في الحديث السابق ( إنهما لا يطهران ) فمفهومه أن ما سواهما يطهر .
( ومن الفوائد )
أن معتقد أهل السنة والجماعة : ” أن هناك عذابا ونعيما في القبر “
وجاءت الأدلة الكثيرة في ذلك من القرآن والسنة ، قال عز وجل عن آل فرعون :
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً }
هذا في القبر
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }غافر46
بينما تنكر المعتزلة عذاب ونعيم القبر ، لم ؟
قالوا : لأن العقل لا يؤيده ، كيف ؟
قالوا : لأننا لو فتشنا في القبر وحفرنا قبرا لكافر ما وجدنا عذابا ، ولا وجدنا آثارا لهذا العذاب .
وهؤلاء العقلانيون جعلوا الشرع تابعاً للعقل ، ولم يجعلوا العقل تابعا للشرع فضلوا وأضلوا ، ولذلك ما استحسنته عقولهم أثبتوه ، وما أنكرته عقولهم أنكروه بقطع النظر عن الدليل ، وهذا من الضلال ، لأن العقل الصحيح السليم لا يخالف الدليل الصحيح ، لأن الشرع لا يأتي إلا بما يوافق العقل ، أي عقل ؟
العقل السليم من الشبهة ومن الشهوة ، أم العقول الملوثة بشبهة أو شهوة فهذه مريضة ليست بصحيحة ، ولذلك إذا حكَّم البشر العقول ضلوا ، لأن العقول تتفاوت فما تراه حسنا قد لا أراه حسنا ، وما تراه قبيحا قد لا أراه قبيحا ، هذا لو كنا ثلاثة أو أربعة ، فكيف بمليارات البشر ؟!
فيقولون : لو حفرنا ما وجدنا شيئا !
فيقال لهم : هذا علم غيبي لا تدركه العقول ، وهناك مثال حسي يبين هذا وهو “
قد يكون أحد إخوانك نائما عندك فإذا به يقوم فزعا وأنت تراه وهو نائم لم يتحرك أبدا ، وإذا به فجأة يقوم فزعا، ما بالك يا فلان ؟ قال كأني سقطت من فوق جبل ، أو كأن سيارة صدمتني ، أو كأن شخصا دفعني ، وهو بين ناظرين لا يتحرك ، فإذا كنت لا تدرك ما يعرض للنائم وهي موتة صغرى فكيف تدرك ما يكون للميت وهي موتة كبرى ؟!
إذاً / معتقد أهل السنة والجماعة أن هناك نعيما وعذابا في القبر “
( ومن الفوائد )
أن معتقد أهل السنة والجماعة :
” ن النعيم للمؤمن والعذاب لغير المؤمن يكون للبدن والروح معنا ” فتتنعم الروح أو تتعذب وتلتصق بالبدن ، فإذا خرج روح ابن آدم فإنها تبقى إما منعمة وإما معذبة ، وتلتصق بالبدن فيتنعم أو يتعذب معها ، ولذلك تسرح الروح في الجنة كما جاءت بذلك الأحاديث ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن الفاجر :
( يضيَّق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه )
وهذا عذاب بدني ، ولا يقل أحد إن البدن يبلى ، فإن هذه أمور غيبية ، ولذلك قال أهل السنة والجماعة :
إن الأحكام في الدنيا: متعلقة بالبدن والروح تبع .
وإن الأحكام في القبر : متعلقة بالروح والبدن تبع
وإن الأحكام في الآخرة : متعلقة بالأمرين سواء .
( ومن الفوائد )
منها : ما ذكر هنا ، بل إن معظم من يتعذب من العصاة في قبره إنما يكون بسبب عدم التنزه من البول .
ومنها : ” النميمة ” كما في حديث ابن عباس .
( ومن الفوائد )
أن العلة منصوص عليها في قوله :
( فإن عامة عذاب القبر منه )
وإذا ذكرت العلة كانت النفس أكثر اطمئناناً .
وإذا لم تذكر العلة كانت النفس أكثر انقيادا واستسلاما .
( ومن الفوائد )
أن القبر من الآخرة ، فكما يجب أن يؤمن باليوم الآخر فيجب أن يؤمن بتفاصيله وبما يكون فيه من الحساب والميزان والحوض والموت ، ولذا قال شيخ الإسلام في العقيدة والواسطية :
( اليوم الآخر : ما يكون بعد الموت )
ولذلك في حديث عثمان رضي الله عنه :
( القبر أول منزل من منازل الآخرة )
وسمَّاه الله عز وجل باليوم الآخر ، قال تعالى :
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }إبراهيم27 يعني في القبر ، وجاء الحديث يبين ذلك ” إذا سأله الملكان “
( ومن الفوائد )
أن ذكر هذا الحديث من ضمن أحاديث الطهارة يدل على أن اجتناب النجاسة شرط من شروط صحة الصلاة .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( عامَّة ) لا تكون للجميع على وجه الإطلاق فقد تكون للأكثر كما هنا ( فإن عامّة عذاب القبر منه )
( ومن الفوائد )
أن قوله:
( استنزهوا من البول )
يشمل القليل والكثير مما هو نجس إلا ما أتت به النصوص الشرعية التي يسرت في هذا ، كما يبقى من أثر الاستجمار ، وكما يبقى من دلك النعلين إذا أصابتهما نجاسة ، وكذلك ما يصيب الإنسان فيه مشقة كمن به سلس بول ، فأمثال هؤلاء جاءت الشريعة بتيسير الأمر ، لكن الخطاب هنا لمن لا حرج عليه ولا مشقة .