شرح كتاب ( بلوغ المرام )ـ حديث 108
( باب الغسل وحكم الجنب )
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r
{ اَلْمَاءُ مِنْ اَلْمَاءِ }
رَوَاهُ مُسْلِم وأصله في البخاري
( من الفوائد )
الغسل يكون بضم الغين وبفتحها إذا كان المقصود المصدر الذي هو الفعل ، فالفعل الذي هو صب الماء يصح أن تقول في اللغة ” غُسل وغَسل ”
لكن إن أردت الماء ولم ترد الفعل فتضم الغين ” الغُسل “
ولذلك جاءت أحاديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم :
( أحُضر له غُسله )
والمقصود من ” الغُسل ” هنا الماء ،
وإذا كسرت الغين فالمقصود ما يكون مع الماء في التطهير كالصابون والشامبوهات وسائر المنظفات .
فنخلص من هذا إلى أن الغين في الغسل إذا كان المقصود الفعل الذي هو المصدر فيجوز فتح الغين وضمها
وإذا كان المقصود الماء فيكون الضم ، ويكون التفريق بينه وبين المصدر الذي هو الفعل يكون حسب السياق .
وإذا كسرت الغين فالمقصود منه المادة التي تكون مطهِرة .
( ومن الفوائد )
أن ( الغسل ) تعريفه من حيث الاصطلاح هو :
” التقرب والتعبد إلى الله عز وجل بصب الماء على البدن على وجه مخصوص “
وسيأتي بيان صفة الغسل بإذن الله تعالى في الأحاديث القادمة .
( ومن الفوائد )
أن” الجنب ” فإنه من حيث اللغة كلمة ” الجنب ” تدل على البعد ، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين :
( اجتنبوا السبع الموبقات ) يعني ابتعدوا عن ( السبع الموبقات )
وسمي الجنب بهذا الاسم :
إما لأن الماء يُجنبُ عن محله يعني يبتعد عن محله، فإن محله ” الصلب والترائب ” فإذا نزل من القُبل باعد محلَه .
أو لأن الجنب مأمور بالابتعاد عن مواطن العبادة أو عن بعض العبادات .
والسببان متداخلان ومقبولان .
( ومن الفوائد )
ولو قال قائل :
لماذا شرع الغُسلُ للجنب مع أن مخرج المني هو مخرج البول وكلاهما سائل ؟ فلماذا البول لا يكون منه الغسل بينما المني يلزم منه الغسل ؟
فالجواب عن هذا /
أن البول هو فضلة المطعوم والمشروب ، بينما المني فضلة تخرج من جميع أجزاء البدن ، ولذا إذا خرج منه هذا المني أصابه الكسل والخمول ، ما لا يصيبه حال خروج البول ، بل إنه بعد خروج البول يكون أريح لنفسه وبدنه ، فناسب أن يؤمر من هو جنب أن يؤمر بغسل البدن كله حتى يعود إليه نشاطه .
ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما عند مسلم :
( أمر من أراد أن يجامع زوجته مرة أخرى بالوضوء )
والوضوء أقل من الغسل فاعلية ولذلك في مستدرك الحاكم
( فإنه أنشط لِلْعَوْد )
فإذا اغتسل فمن باب أولى
ولذا في المسند صلى الله عليه وسلم :
( طاف على نسائه كلهن فإذا جامع اغتسل ، ثم طاف على الأخرى ثم اغتسل ، وهكذا فلما سئُل صلى الله عليه وسلم قال ” هذا أزكى وأطيب وأطهر ” )
وقد أورد المصنف رحمه الله حديث أبي سعيد ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ( الماء من الماء )
قال رواه مسلم وأصله عند البخاري
من فوائد هذا الحديث
أن المذكور عند البخاري القصة التي بسببها ذكر هذا الحديث ، ولم يذكر عند البخاري هذا الحديث وإنما ذكرت القصة ، وهي :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم طرق على عِتبان بن مالك فخرج عِتبان رضي الله عنه وكان قد فرغ من جماع زوجته ، فقال صلى الله عليه وسلم ( إذا أُعجِلت أو أُقحِطت فعليك بالوضوء )
يعني إذا جامعت زوجتك و أعجلت عنها بسبب كسببنا ولم تنزل المني فعليك بالوضوء .
ولذلك عند البخاري :
( لما سُئل عثمان رضي الله عنه عن رجل جامع زوجته ولم ينزل المني قال ” عليه الوضوء ويغسل ذكره )
فهذا الحديث وهو حديث الباب مع ما ذكر من فُتيا عثمان رضي الله عنه يدلان كما قال بعض العلماء:
يدلان على أن الزوج إذا جامع زوجته وأدخل ذكره في فرجها ثم نزعه ولم يُنزل منياً فإنه لا يجب عليه الغسل ، وإنّما يجب عليه الوضوء ودلالته من قول عثمان واضحة .
أما دلالته من حديث الباب فهو قوله صلى الله عليه وسلم :
( الماءُ من الماء )
( الماء ) وهي الكلمة الأولى هو الماء المعروف
( الماء ) وهي الكلمة الثانية هو المني .
فالمني يُطلق عليه ماء كما جاء في هذا الحديث
وكما ذكره عز وجل في سورة الطارق :
{ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق }
فتكون من هنا ( الماء من الماء )
( من ) هنا سببية
لأن معنى ( من ) متنوعة تأتي زائدة ، وتأتي سببية ، تأتي تبعيضية ، لها معاني متعددة تعرف من خلال السياق
( الماء من الماء )
يعني ( الماء ) الذي هو صب الماء على البدن سببه خروج
( الماء ) الذي هو المني ففهم من ذلك أنه إذا لم يخرج الماء فلا يلزم بالماء الأول الذي هو الغسل .
بل حصرت هذه الجملة بالتعريف ، أخذنا في البلاغة المسند والمسند إليه ، ما هو المسند ؟
المحكوم به
المسند إليه : المحكوم عليه .
فنقول : ( قام زيد )
زيد : مسند إليه ، لأنه محكوم عليه
قام : مسند ، يعني حكمنا على زيد بالقيام
تعريف المسند إليه هنا يدل على الحصر ، أين المسند إليه ؟
( الماء )الأول ، ولذا يؤكد هذا ما جاء في رواية مسلم
( إنما الماء من الماء )
” إنّما “ أداة حصر ، وفائدتها في اللغة العربية أنها تثبت الحكم لما بعدها وتنفيه عما سواه
( إنما الماء من الماء )
بمعنى أنّ الماء الذي هو صبه على البدن لا يكون لازماً إلا بالماء الذي هو المني .
وإلى هذا القول ذهب بعض الصحابة كعثمان رضي الله عنه
لكن أهذا هو القول الوحيد ؟ لا ، هناك قول آخر في المسألة
بدليل الحديث الآتي ، ما هو الحديث الآتي ؟
حديث أبي هريرة رضي الله عنه :
( إذا جلس بين شُعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل )
فكيف نوفق بين الحديثين ؟
إذا وصلنا إلى حديث أبي هريرة إن شاء الله .
فهذا الحديث وهو ( الماء من الماء )
أفاد ماذا ؟
أنه لا يجب الغسل إذا أدخلَ الزوج ذكره في فرج زوجتهِ إلا إذا أنزل ، أما إذا لم ينزل فلا يلزمه غسل هذا قول مرجوح
والصواب كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
أنه إذا أدخل ذكره في فرجها ، والمقصود من الذكر الحَشَفَة ، لا يلزم الذكر كله لو أدخل الحشفة وهي المقدمة مقدمة الذكر المحاطة بخيط من اللحم إذا أدخل هذه الحشفة فبمجرد أن يدخل الحشفة يجب الغسل وإن لم ينزل ، هذا هو المقرر في هذه المسألة .
( ومن الفوائد )
” أن في هذا الحديث جناساً تاماً “
الجناس: هذا علم من علوم البلاغة ، لأن علم البلاغة مرتكز على ثلاثة أشياء :
[ علم المعاني – علم البيان – علم البديع ]
الجناس من علم البديع ، لأنه يعنى بالمحسنات اللفظية ، فعلم البديع نوعان : يعنى بالمحسنات اللفظية ويعنى بالمحسنات المعنوية .
على كل حال : هنا جناس تام ، لأن هناك أنواعا للجناس
الجناس التام : هو ما توافقت فيه حروف الكلمتين من حيث الهيئة ، من حيث النوع ، من حيث عدد الحروف ، من حيث ترتيب الحروف
هنا : ( الماء من الماء )
( الماء ) الأول نفس الكلمة هي هي الكلمة الثانية من حيث هيئة الحروف ونوع وعدد وترتيب الحروف .
قال تعالى :
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } الروم 55
كلمة : ( ساعة ) هنا جناس